اخذ الفنان العراقي على عاتقه عملية تبديل أساليب التعبير الفني السائدة والتقليدية.. وشرع بعملية تمرد شاملة على المراحل الفنية الماضية وعلى صيغ تفاعل الفنان مع المتغيرات السياسية والإيديولوجية التي مرت بها المنطقة العربية بشكل عام، مما دفعه الى البحث عن كل ما هو جديد وأصيل مما دعا إلى استحضار وسائل فنية حديثة مكنته من ذلك، فأصبح الفنان يرتقي أعلى المستويات الفنية المناهضة في عصره لتجديد الفنون تحت تأثير إحياء التراث المحلي وربطه بالواقع المعاصر، جهد على إيجاد اللغة القادر على استيعاب كل طموحاته وتساعده على تحقيق هدفه.. وبالخصوص بعد اطلاعه على تجارب الغرب الفنية في النصف الاول من القرن العشرين، والتي ادرك من خلالها أن العودة إلى الجذور ستساعده في التعبير عن الواقع بشكل يظهر إبداعاته من خلال عملية التوليف بين الموروث والحداثة.
ولا شك أن هذا الحراك في أساليب الفن لم يكن وليد لحظة بل امتد منذ العصور البدائية ليصل الى ما هو عليه في اسلوب الفنان العراقي ، ويعزى سبب ذلك الى اختلاف الثقافات وخصوصيتها، واختلاف مستوى الدافع الإنساني للفن ومستوى الإرادة الإبداعية، فنرى في حضارات وادي الرافدين التي يمثلها الفنان العراقي، انها قد حققت تحولا مطردا وسريعا من خلال حركة الفكر والمنجز الحضاري، قد وظفت بوادر المعرفة الأولى في عصور ما قبل الكتابة وتقدمها الواضح في بداية العصر السومري مرورا بالا كدي والبابلي والآشوري، وامتدت الى الوقت الحاضر وهي محملة باصولها الحضارية، وهذا جلي من خلال التحولات الملموسة في الأساليب الفنية واللغة الفنية على مستوى الشكل والمضمون، وفي مجالات الرسم والنحت والأبنية المعمارية والدلالات الرمزية التي تحملها، فمن المعروف ان اية لغة تبدأ من مجموعة الرموز والعلامات المتفق عليها للدلالة على شيء أو فكرة ما، كالرموز العددية الرياضية والرموز الشكلية الدلالية، وتكون هذه الرموز عادة مرفقة بقواعد صياغية تمثل قواعد عملها، وبالتأكيد فان للاشكال المرسومة نظامها الصياغي الرمزي ومنطلقاته الحضارية الخاصة بها، وبما ان الرمز لا يحصل على معناه الا بالرجوع إلى نظام رموز أو لغة ينتمي اليها، فإن الاشكال المرسومة تتحدد قيمها الرمزية عندما تدخل في تكوين ما.. او ضمن صياغة صورية مؤثرة في نفس المشاهد المتلقي، وهذا ما عمد اليه التشكيلي الراحل شاكر حسن ال سعيد في هذه اللوحة كجزء من سلسلة اعماله الفنية الرمزية الروحية ذات اللمسات التراثية الرائعة.
استطاع الفنان آل سعيد وعبر سلسلة ابداعاته الرمزية المتواصلة من البحث والتجريب واستقراء الواقع الجمالي والارتباطات المحيطية بإنسان اليوم، أن يؤسس نظريته الجمالية الخاصة في التشكيل الفني، من خلال متقابلات ومترادفات عمل على توظيفها بين ثـقافته النظرية والتحولات الجمالية داخل لغة التشكيل لديه، فكانت تجريداته الخالصة مفعمة بالتصوف واختزال وتبسيط الاشكال لنقل مشاهداته التصويرية عن حياة الطفولة وكم المشاهد اليومية لحياة العامة وارهاصاتهم بطريقة الرسم على الجدران، والتي شكلت مادته الخصبة في التكوين الفني اعلاه واغلب ابداعاته الفنية الاخرى، التي تميزت برؤيته الجمالية الخاصة به.. والتي تدفع بالمتلقي إلى آفاق جمالية غير مرئية في قاموسه الجمالي، فهذه الاشكال في الواقع قد لا ترقى إلى استحقاقاتها كمواضيع فنية كون جدران ازقة المدينة القديمة تعج بكم كبير من المشاهدات والاشكال المتوارثة من الاجيال السابقة .
لقد كان هذا بمثابة الفتح والقيمة المفقودة لدى الراحل شاكر آل سعيد فيبدو ان شروخ الجدران وتراكباتها اللونية والتقادم الزمني التي تحمله قد اعيته.. مما دفع به الى التغيير من بعض خصائص الالوان، فجدار الدار داخل الزقاق هو بكل تصدعاته وأداة الفعل عليه من قبل الأطفال والشباب، يعد تجميعة مثالية لذاكرة المجتمع والبيئة على حد سواء وهو في نفس الوقت اجتراح وجداني مباشر اقتبسه الفنان، فجدرانه داخل اللوحة هي كل الجدران المأهولة بالتواجد البشري وقراءتها قراءة للقعر المشترك للفعل والجمال الإنساني، وإن الجدار في معناه الفني عند ال سعيد ذو بعد واحد فتستطيع ان تضع عليه تصوراتك فيبدو بارزا، وتحفر عليه بالسكين أو بالفرشاة فيبدو لافته تعانق فضاء فني حر، وهو يمثل ذاكرة الغياب والحضور، فهو بالنسبة لشاكر آل سعيد يمثل السطح التجريبي المستمر على فهم سياقات المحيط البيئي.. فالحساسية اللونية لديه تتغذى من البيئة العراقية لكنها تنفذ بأسلوب وتقنية عبر ثـقافته المكتسبة إذ ينقل المتلقي من عالمه العياني إلى عالم الجمال المتراكم، وهذا العالم يمتاز بانه عياني بمفرداته وتتحرك فيه كل الأزمنة داخل المكان الواحد، اذ انه يعيد في المتلقي قدرته على مواجهة كل التجارب السابقة ولكن بتجربة جديدة وكأنه يراها لأول مرة.
إن جمهور ومتلقوا هكذا أعمال بحاجة إلى استلال وإحضار كل المشاهدات السابقة واستنفار كل الرؤئ التراثية والفنية والاستعارات الجمالية لمواجهة هذا النسق الحداثوي، وبما أن ثـقافة المتلقي العراقي بشكل عام تعد ثـقافة مضمونية ، فهو بحاجة دائمة إلى وسائل مساعدة لهضم وفهم هكذا موضوعات.. وهذا ما دفع بالراحل آل سعيد إلى التنظير ومقاربة أعماله لغويا فهي ذات تأويلات ارتبطت على مديات التحول لديه من التأمل الروحي مرورا بمرحلة الحلم الطفولي وصولاً إلى مرحلة فهم العلامات المحيطية إيمانا منه بردم الهوة بينه وبين المتلقي وتقريب المشاهدات العلاماتية وفتح قنوات تواصلية في سياق الفن التشكيلي.. لتظهر قيمة التراكم غير المباشر في حضارة وثـقافة الإنسان العراقي وإمكانية تأويلها جماليا وبتراكيب حداثوية عالية المضامين.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق