في خضم اجتياح مذهبي ــ سياسي غزا الساحة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما رافق تلك الفترة من أحداث سياسية, كان من الصعب إعطاء أية فكرة أو انطباع عن الانحراف الكبير في الدين، والتشويه الذي لحق بالشريعة، والفوضى التي رافقت تأسيس تلك المذاهب، لأن تأسيسها كان بمباركة السلطتين الأموية والعباسية فعندما يحكم السيف لا يرى الإنسان إلا ما يراه الحاكم المتسلط وتترسخ قناعاته بما يفرضه على الشعب من سياسة جائرة ومفاهيم منحرفة حتى يصل الأمر إلى تنزيه الحاكم من كل الموبقات التي يرتكبها كما أسس لذلك معاوية عندما أبتدع المذهب الجبري.
هذا المفهوم الذي طغى على الأمة الإسلامية على مدى قرون طويلة كان يعارضه على مدى مراحله مفهوم الدعوة إلى مفاهيم الإسلام الحقة وإصلاح الأود ومقارعة المنحرفين، وقد حمل لواء هذه الجبهة الأئمة المعصومون (عليهم السلام) وأصحابهم المخلصين منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).
ولسنا هنا بصدد الحديث عن نشأة هذه المذاهب وأصحابها ومعتقداتها وآرائها وأفكارها ومبانيها، والظروف والملابسات والأسباب التي رافقت تأسيسها وكيفية انتشارها وكل ما يتعلق بها، ولكن بصدد الحديث عما يتعلق بخط الإسلام الصحيح المتمثل بأهل البيت (عليهم السلام) الذين دلت عليهم علامات الإمامة الإلهية ومنهم الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) الوارث لعلومهم، والدليل إلى الله، والبرهان الحق، وخير أهل الأرض، وحجة الله على خلقه، والمؤدي أمانته كما عبر عنه القائل:
ألا أنَّ خيرَ الناسِ نفساً ووالداً *** ورهطاً وأجداداً عليُّ المعظمُ
أتـتـنـا بـه لـلـعـلـمِ والحلمِ ثامناً *** إمـامـاً يـؤدي حـجَّـةَ اللهِ تكتمُ
وقد تظافرت الروايات والأدلة على إمامته بعد أبيه واجتماع صفاتها به وقد جمع الشيخ المفيد من الأدلة على إمامته بما لا يقبل الشك بأربعة أمور هي:
1 ــ النصوص عليه بالإمامة من قبل أبيه
2 ــ فضله على جميع أخوته وأهل بيته
3 ــ ظهور علمه وحلمه وتقواه وورعه
4 ــ اجتماع الخاصة والعامة على معرفة ذلك منه وفيه
النصوص على إمامته:
مما لا شك فيه أن الإمامة من حتميات الدين فبها يكتمل التشريع وتوضح السنة الشريفة وهي عدل القرآن كما بين ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
وإضافة إلى النصوص الكثيرة على إمامة الأئمة الاثني عشر من النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كان كل أمام يعين خليفته وينص عليه بحضور أهل بيته وخاصته وأصحابه حتى لا يدعيها أحد من بعده، وهو ما فعله الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حيث أوضح مكانة ولده الإمام الرضا (ع) وأنه الإمام من بعده، وأكد على أنه وارثه ووصية في الإمامة وأوصى أهله وأصحابه بالرجوع إليه في عدة أحاديث، منها أنه (ع) كان يقول لبنيه:
هذا أخوكم علي بن موسى عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته فأنه سمي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ومنها قوله (ع): أن ابني علياً أكبر ولدي وأبرهم عندي وأحبهم إلي وهو ينظر معي في الجفر ولم ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي.
ومنها قوله: أبني هذا سيد ولدي وقد نحلته كنيتي.
وقوله (ع): ابني علي وصيي والقيم بأمري وخير بني.
وقوله (ع): علي مني بمنزلتي من أبي. ثم تلا قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي رواها الثقات من خواص أصحاب الإمام الكاظم (ع) حول هذا الموضوع.
علمه
اتفقت أقوال المعاصرين والمؤرخين على أنه (عليه السلام) كان أعلم أهل الأرض ولعل أول ما يبرز في هذا الخصوص اعتراف المناوئين له بعلمه ومنهم المأمون العباسي الذي قال: (إني نظرت في ولد العباس وعلي فلم أجد مثل علي الرضا في علمه ودينه ولا أحق وأفضل منه)
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: (ما رأيت الرضا سُئل عن شيء إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه وكان جوابه كله انتزاعا من القرآن المجيد).
وقال القائد العباسي رجاء بن أبي الضحاك الذي بعثه المأمون لاستدعاء الإمام الرضا من مدينة جده: (والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشد خوفاً لله عز وجل... كان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن آبائه عن علي عن رسول الله (ص) فلما وردت على المأمون سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما شاهدته منه في ليله ونهاره وظعنه وأقامته، فقال: بلى يا أبن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم).
وقال أبن الجوزي في تذكرته والحاكم في تاريخه: (لقد أخذ العلم والحديث عن أبيه، وكان يجلس في مسجد رسول الله (ص) فيفتي الناس وهو أبن نيف وعشرين سنة).
وقال ابن تيمية: (علي بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة والممادح المناسبة للحالة اللائقة به ما يعرفه بها أهل المعرفة)
وقال ابن الصباغ المالكي: (مناقب علي بن موسى الرضا من أجل المناقب وإمداد فضائله وفواضله متوالية كتوالي الكتائب وعجائب أوصافه من غرائب العجائب وسؤدده ونبله قد حل من الشريف في الذروة والغالب)
كان المأمون العباسي يعقد مجالس المناظرة ويدعو المسلمين والمتكلمين وعلماء الأديان الأخرى وأصحاب الدعوات ويدعو الإمام الرضا (ع) للمحاججة والحوار، فلا يخرج هؤلاء من المناظرة إلا وقد أقروا بعلم الإمام (ع) وفضله عليهم ويعبر الإمام الرضا (ع) عن هذه الحقيقة بقوله: كنت أجلس في الروضة والعلماء متوافرون فإذا أعيا الواحد منهم مسألة أشاروا إلي أجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجبت عنها.
وكان له (عليه السلام) كثيراً من المناظرات مع الزنادقة وأصحاب الأديان منها قوله لمن سأله عن الدليل على حدوث العالم ؟
فقال (عليه السلام): إنك لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من مثلك.
وجرت له (عليه السلام) مع أحد الزنادقة هذه المناظرة:
قال الزنديق: أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإياكم شرعا سواء ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا ؟
فقال (عليه السلام): وإن يكن القول قولنا وهو كما نقول ألستم قد هلكتم ونجونا ؟
فقال الرجل: فأجدني كيف هو وأين هو؟
فقال (ع): إن الذي ذهبت إليه غلط وهو أين الأين وكان ولا أين وهو كيف الكيف وكان ولا كيف ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء.
فقال الرجل: فإذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس.
فقال (ع): لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا وأنه شيء بخلاف الأشياء.
فقال الرجل فأخبرني متى كان ؟
فقال (ع): أخبرني متى لم يكن ؟ فأخبرك متى كان ؟!
فقال الرجل: فما الدليل عليه ؟
قال (ع): إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدّراً ومنشئاً.
قال الرجل: فلم لا تدركه حاسة البصر؟
فقال (ع): للفرق بينه وبين خلقه الذي تدركه حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل.
فقال الرجل: فحده لي
الإمام: لا حد له
الرجل: ولم؟
الإمام: لأن كل محدود متناهٍ وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهم.
الرجل: فأخبرني عن قولكم إنه لطيف وسميع وبصير وعليم وحكيم أيكون السميع إلا بالأذن والبصير إلا بالعين واللطيف إلا بعمل اليدين والحكيم إلا بالصنعة ؟
الإمام: إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة، أوما رأيت أن الرجل اتخذ شيئاً فيلطف في اتخاذه فيقال ما ألطف فلانا؟ فكيف لا يقال للخالق الجليل لطيف إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا وركب في الحيوان منه أرواحها وخلق كل جنس مبايناً من جنسه في الصورة ولا يشبه بعضه بعضا فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.
ثم نظر إلى الأشجار وحملها أطيابها المأكولة منها وغير المأكولة ـ فقلنا عند ذلك إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم وقلنا إنه سميع لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى ما أكبر منها في برها وبحرها ولا يشتبه عليه لغاتها فقلنا عند ذلك إنه سميع لا بأذن وقلنا إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها فقلنا عند ذلك إنه بصير لا كبصر خلقه.
وبعد هذه المناظرة أقر الرجل بعلم الإمام وحججه القوية فأسلم
هذا أنموذج واحد لآلاف المناظرات التي أفحم فيها الإمام المتشككين وهداهم إلى الإسلام فقد كان مدرسة للعلوم الإلهية وبابا للمعارف النبوية، وقد أحصيت المسائل التي أجاب عنها الإمام الرضا (ع) في شتى العلوم فبلغت خمسة عشر ألف مسألة.
لقد كان (عليه السلام) إسلاماً يمشي على الأرض، وقرآناً يصدح بالحق، وسراطاً يهدي إلى النجاة
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق