المخزون العلامي.. بين بدائية الاشكال ومعاصرة الالوان

التكوين الفني يحمل توقيع التشكيلي العراقي راكان دبدوب،  وهي تمثل احدى التجارب الفنية الحداثوية التي سادت اجواء الحركة الفنية العراقية من منتصف القرن المنصرم وحتى اليوم، والتي استطاعت ان تعكس ببنيتها الشكلية واللونية المجردة جمالية الفن العراقي الحديث وامتداد جذوره الى فنون بلاد ما بين النهرين، ويعد الفنان راكان دبدوب واحداً من بين الفنانين العراقيين المعاصرين الذين عملوا على رفد حركة التشكيل العراقي بهذه النتاجات الفنية الفريدة بمعالجات أسلوبية أظهرت تنوع وخبايا النصوص الفنية المختلفة.

التكوين الفني اعلاه تحركه علامات بيئية مختلفة الاجناس.. منها ما يمثل البيئة الطبيعية ومنها ما هو متعلق بالبيئة البشرية ، وذلك ما نراه واضحاً في التضاريس النسيجية الشكلية المتراصة للوحدات البنائية داخل اللوحة، فلو أخذنا بعض من ذلك النسيج الفني المتماسك لميزنا وجود وحدة رصينة للمعالجة اللونية عمد الفنان على اظهارها امان المتلقي من خلال الخطوط اللونية.. لتبدو وكأنها مقطع عرضي يشير إلى طبقات القشرة الأرضية عبر مراحل تكونها جيولوجياً، إضافة الى تقنية الملمس الخشن لتلك السطوح التي توحي بطبيعة التشكل الهش التي يتخللها أقسام قاسية نوعا ما إشارة لأجسام أكثر صلابة كالحجر والمرمر.

تشير السطوح المتمثلة ببعض اجزاء اللوحة بيئيا إلى جيولوجية الأرض.. أما الاستعارات الخاصة بالبيئة البشرية فيمكن ملاحظتها عبر مفردة النقطة السوداء في الوسط والتي تبدو كأنها ثقباً اسوداً يتوسط العمل، فهذا الثقب او النقطة يطالعنا في كثير من أعمال الفنان راكان دبدوب على اختلافها واختلاف دلالات البعد العلامي لتلك المفردة في كل لوحة بعيداً عن الاخرى، فهي نقطة في توافداتها الحروفية ونتوآت ذات مدلول واشارة قد يدل لفوهات البنادق والاسلحة المستخدمة في الحروب أو قد تمثل منطقة نفاذ نحو عالم ما ورائي ، اضافة الى التواجد الحروفي المتمثل في حرفي الراء والميم، وأن كان للحرف الثاني دلالة على حرفين إذا ما أشركنا مفردة الثـقب حيث يصبح الحال الجديد يبدو وكأنه كلمة رمز، ومن زاوية أخرى فأن رسم الحروف يشير إلى الصلابة عبر حالة الانحناء ومقاومتها لمطواعية الفنان كي تكون مواءمة لطبيعة الأشكال المجاورة وأن الإنسان كائن واجد للاثر ومؤثر في محيطه.

اما اذا قمنا بإزالة عنصر المركز المحرك في اللوحة والمتمثل بالعلامة الحروفية، فيمكننا أن نستقري حال المتلقي وتلقيه.. اذ ان استجابة القارئ او المشاهد للوحة ستقوض في أقسام كبيرة منها لافتقادها حلقة الوصل لعالمه المادي وفشل حال التفاعل في إيجاد وشائج وترابطات مع مخزونه العلامي، فإن وجود المؤشر العلامي البيئي المتمثل بالأشكال النسيجية الخشنة والناعمة والمنتشرة على سطح اللوحة.. قد لا يصل بتأثيره الى نفس المشاهد وقد يدخله في عالم المجهول الشكلي بعيداً عن رموز الاحرف الماثلة في وسط التكوين، فهذه التضاريس اللونية بحاجة إلى قوة وجود تمنحها الحياة والتفاعل امام المتلقي، فكما هو معروف ان حالة الاغتراب والقطيعة عن العمل تبدأ بالافتقار الموضوعي والعلامي فيه، وهذا ما دفع بالعلامة الة ان تكون قطباً او محوراً هاماً في الفن التشكيلي العراقي المعاصر، فالعلامة باتت في منتصف الطريق بين البداية الأولى ونهاية السلم في قاموس الثوابت الجمالي، بل واصبحت العلامة تمثل النقطة التي لا يمكن بدونها القفز على الحقيقة الجمالية لدى المتلقي العراقي، فالمتلقي المتأمل يعيش حالة من التذوق عضوياً مشابهة من حيث الفكرة لتذوقه الشراب وللطعام، فهو لا يسعى كثيراً للطعم الجديد بقدر انشغاله بإجراء مقابلات تعيد تذوقاته السابقة ومقارنتها مع التذوق الآني أما تقبل الحديث فمرهون بخاصته من المشاهدات والتراكمات القبلية وكلما كانت مشاهدات المتلقي وتراكماته القبلية عن جنس العمل الفني، ليصبح بالاخير - بحكم دربته الذوقية - أكثر قدرة على تقويض ركام الاشكال الفنية وغرابتها عندما يكون امام مشاهدة فنية جديدة تحاول ان تحل محل ما اعتاد رؤيته من جماليات ذات رموز متعلقة بمحيطه.. فيحاول فك الشفرات الجمالية الجديدة المحكومة بحداثة العصر.. عبر أدوات تسلحه الحضاري والفكري والثـقافي كي يقدمها إلى حالة الوجود العياني امام ناضريه كمتلق، فأي تكوين فني ذي اشكال ودلالات رمزية ممكن ان يتحقق وجوده بفعل القراءات التي يبثها جمهور التلقي حين تفاعله مع الفنان واعماله الابداعية .

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات