العقيدة الاسلامية ودورها في بنية الفن الاسلامي ..

جعل الله تعالى في الانسان القدرة والاستعداد لتقبل فكرة التوحيد.. بعد أن جبله على الفطرة الالهية، ليكون قادرا على حمل القابلية على ادراك التصور العام للخلق بما فيه من مفاهيم مجردة.. حيث قال جل وعلا في محكم كتابه ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ويبدو ان في هذا الامر اشارة الى بنائية سنة التشريع على سنة التكوين، فكما أن لكل وجود في عالم التكوين هدف يتجه اليه في حركته.. فالإنسان ايضاً له غاية معينة او غرض ما وعليه أن يسلك اليه السبيل، ويكون ذلك من خلال ما أودعه الخالق فيه من الشعور وركب فيه السمع والبصر وباقي الحواس الاخرى اضافة الى العقل،  أي بمعنى ادق  امتلاك الانسان لقوة الادراك والفكر، ليكون قادراً من خلالهما على استحضار ما هو ظاهر عنده من الحوادث.. وما هو موجود في الحال.. وما كان وما سيكون ويؤول اليه أمر الحدوث والوقوع، ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فلا شك ان معلومات الانسان مكتسبة- سواء كانت كلية او جزئية - وأن بدا لنا ان هناك معلومات يمتلكها عن طريق الفطرة .

وحصيلة لما سبق ذكره فأن الإنسان وبالخصوص الفنان المسلم لديه الاستعداد الذهني لقبول التجريد والكليات المجردة، فالتجريد الذي تبناه مبدعي الفن الاسلامي هو بالتأكيد محاكاة لكليات معينة،  مما يستدعي وجود استعداد فطري لقبولها وتمثيلها..وهذا ما يوحي بشكل او بآخر بأن فكرة التجريد في الفن تسير جنباً الى جنب مع الفطرة، ولما كانت الفطرة متعلقة بمبدأ التوحيد.. فأن ذلك يشير الى وجود أستعداد توحيدي في الحضارات السابقة للاسلام ايضاً، لان التوحيد تراث عميق يتصل ببدايات التكوين الحضاري البشري.. فهو قد شكل كل الدعوات العقائدية للانبياء والرسل.. ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)  وكلهم دون ادنى شك كانوا دعاة للوحدانية ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )، ولم يكتف الخالق جل وعلا بالتذكير بأمر الأنبياء السابقين لرسولنا الكريم صلوات الله عليه واله.. بل أعاد الى الاذهان سيرتهم، مما يوضح سلسلة التواصل الحضاري بين العقائد وﺗﻣﺛّﻼت رموزها وطرائق تطبيقها عند بني البشر،  وهذا ما انعكس تأثيره على مسيرة الفن والفنانين.. ليكون التجريد اول الامر سمة ظاهرة في فنون الحضارات القديمة لا سيما الرافدينية والمصرية، الامر الذي أثر على فنون ديانات المنطقة   ليصل اثره على الفنون الاسلامية ليرث الفنان المسلم أساليب تلك الفنون كونها وليدة نفس البيئة والمنطقة الجغرافية، وليتم صياغة بنائية الفنون لكن اعاد صياغة بنائية الفن الاسلامي وفقاً للتوجه العقائدي الذي يحمله الفكر الاسلامي.. ولتكون هويته بارزة دون فنون الحضارات الأخرى السابقة والمعاصرة له، أي بمعنى ادق ان الفطرة الانسانية ثابتة ولم تتغير منذ الخلق الاول للانسان، وان انسان الحضارات القديمة يملك نفس الاستعداد الفطري الذي يملكه الفرد المسلم، اذ ان الفطرة التوحيدية تحمل معها الاستعداد المسبق لتقبل الكليات المجردة.. فيتساوق التجريد بالمفاهيم والاشكال مع الفطرة، كونه- التجريد-  ينقل  المفاهيم المادية الى ما ورائها، فيكون بذلك التجريد متسايراً مع الاستعداد التوحيدي، ليتخذه بالمحصلة الفن الاسلامي ويجعله مبدأ حوارياً مع الحضارات القديمة.. كونه يشكل البنية الاساسية في رؤية الاسلام للفن ويشكل اساس انطلاقه وابداعه المتجدد.

وبهذا فان الاسلام لم يستخدم الفن في الدعوة اليه ولم ينكره أيضاً، ولم يتشدد في تحريم الفن كما فعله معتنقي الديانة اليهودية او يوظفه كما حصل في الديانة المسيحية، بل كان وسطاً بين الاثنين لذلك كان التحريم في الموضوع وليس في الاسلوب كما اكده بعض الباحثين في هذا المجال، حيث اكد البعض منهم على  أن الاباحة والحرمة لا ينصبّان على الظاهرة الجمالية ولكن على الموضوع نفسه مما الذي قد يؤدي الى مخالفة الشرع والعقيدة ان لم يكن طرحه قويماً.

لقد اكد القرآن الكريم على الحس في أدراك الماديات.. ففيه الاشارة الى العقل في تكوين المعرفة الانسانية، فالعلم بجميع القضايا غير الجزئية رهن بجهد الذهن لا الادوات الظاهرية التي تلتقط المعلومات من المحيط وتوصلها الى الذهن،  ولو أن الاتصال بالمحيط يعطي النفس القوة على خلق هذه المفاهيم، من خلال القدرة على تطبيق العمليات العقلية والوجدانية على الموارد المختلفة.. واستخلاص نتائج جديدة للأيمان بها بتيقن، فكما هو معروف فلا معنى للايمان بدون الاوليات البديهية وقدرة الانسان على تطبيقها بالتعقل والتدّبر، فالتدبر ما هو الا عملية حوارمع المحيط المادي لاكتشاف ما وراءه من حقائق، فالتأمل الذاتي عند الانسان المسلم وبالخصوص الفنان، هو فعل وجداني بعيد عن الجزئيات وفيه يلتقي بالحدس الخارجي، لذلك فأن النظرة الى العالم الخارجي هي تركيبة دقيقة من الجزئي والكلي.. ونتيجة لذلك فأن الفن الاسلامي قائم على معنى فكرة الحدس.. والذي يمكن أدراك الجوهر عن طريقه ببصيرة ثاقبة، اما المعرفة الحدسية فهي ذات امتداد مخروطي تزداد أتساعا كلما ازدادت عمقاً، وفيه يتم تحويل ما هو حسي الى ما فوقه.. عن طريق المفاهيم الكلية، وهو طريق الوصول الى الله الواحد الاحد صانع الحقائق الوجودية.. وبما ان التدبر منوط بالعقل وهو قادر على أدراك المعقولات والمجردات..  فان العقل بالنتيجة له الاستطاعة على تصور مجاميع رائعة من المجردات الحدسية التي تحاكي الجواهر السامية المرتبطة بالخالق جل وعلا.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات