ربيع الحق..

شهد ميدان الرسم وعلى مختلف المراحل التاريخية التي مر بها تطوراً ملحوظاً، ويرجع الفضل في ذلك الى طروحات الفنانين وإنجازاتهم الابداعية المتجددة، والى ما كان يحيط بهم من  تفاعلات اجتماعية واحداث في ميادين الحياة شتى.. جعلتهم يواصلون البحث في مجال الفن تماشياً مع طبيعة الظروف الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية والدينية، مما اثمر الى تعدد الاساليب والتقنيات الفنية التي تبناها مبدعي فن الرسم ليعد هذا الفن من أكثر الميادين احتمالا للجدل والتحوير الشكلي والمضاميني وكل حسب مرجعياته التاريخية والفكرية والعقائدية.

وهذا ما نراه ونلمسه في سلسلة الاعمال الابداعية العقائدية لرسام اللوحات الشاخصة امامكم.. والتي تحمل عنوان ( ضربة علي عليه السلام )، وهي من ابداع الرسام الايراني ( مهرو ماه علي بحريني) ، وهو من تولد بلدة باردخون في محافظة بوشهر الايرانية 1949 ،والذي يعد من قلائل الرسامين المبدعين الذين لم يتتلمذوا على يد احد قبلهم.. بل اصبحوا مثالا يحتذى به لمن بعدهم.

نفذت اللوحات بتقنية الزيت على القماش، وهي جزء من مجموعة لوحات متسلسلة تختص بحياة الامام علي والسيدة الزهراء عليهما السلام، حيث يوضح للمشاهد تسلسل الاحداث المتتالية التي حدثت بين أزقة الكوفة ومسجدها الكبير.. قبل وخلال لحظة غدر اللعين ابن ملجم لإمامنا عليه السلام.. حيث جعل جو اللوحة صامتاً بما يتوافق مع ما أضمرته القلوب والايادي الخبيثة للنيل من ربيع الحق والعدالة حين سجوده.

حاول الفنان علي بحريني من خلال هذه السلسلة الفنية الابداعية ان يظهر للمشاهد الفضائل الإنسانية لاآل بيت النبوة الاطهار والمتمثلة بعلي وفاطمة عليهما السلام.. لا على صعيد الموالين المحبين لهم فحسب بل على صعيد البشرية جمعاء ولكل الطوائف والاديان الاخرى، حيث انها - اللوحات - تعكس المساحة الخيالية التي يحملها الفنان والمحملة بثقافته الخاصة وسعة اطلاعه على هذا الحادث الجلل، والتي دفعت به الى عرض هذه المشاهد المؤلمة بطريقة فنية رصينة ورائعة دون التشخيص او التدخل في الأحداث ومكانها وزمانها.

سعى الفنان جاهداً في اغلب اعماله الى المزج بين ذاته وموضوع الرسمة من خلال تكريس خبرته الجمالية التي اكتسبها بسعة اطلاعه على تأريخ الواقعة وثقافته الفنية المتراكمة ، حيث أظهر حالة معينة من الاندماج بين أجزاء اللوحة تجذب القارئ وتدفعه للغور في اللوحة ومتابعة أحداثها والتأثر بها بشكل عفوي، حيث حاول الرسام نقل المشهد عبر انتشار المساحة اللونية المدركة الإشارة في الذهن الجمعي إلى مكان الحدث في مسجد الكوفة، فأعطى بذلك إحساسا بمدى هول المشهد والفاجعة ليمتد بصر المشاهد إلى عمق اللوحة باتجاه هالة النور التي مثل بها قدسية المكان وعظمة شخص امير المؤمنين عليه السلام.

 استطاع بحريني التعبير عن معالجاته البنائية ذات المنحى التعبيري الرمزي وبشكل واضح للمتلقي، من خلال استدراجه للمشاهد المتأمل للوحاته التي اكد فيها مبدأ حرية التعبير المباشر عن الحالة الذاتية بواسطة الألوان والأشكال الموزّعة على سطح اللوحة، والتي نفذ اغلبها على شكل مجاميع نصف دائرية موزّعة طولياً (الهالات البيضاء في عمق اللوحة وبعض البقع اللونية) بما بتوافق واستطالة اللوحة، مما أعطى فرصة لتخيّل احداث اللوحة وإعطاء مساحة واسعة وأبعاد معنوية للمشاهد، لتكون المحصلة ان المشاهد امام أشكال روحية تحاكي نفسه ووجدانه وتحفّز نظام الإدراك لديه وتفتح في نفس الوقت الباب الاوسع أمام تأملاته وتخيّلاته ليقترب من المعنى الروحي للتكوين الفني، فالمتلقي هو جزء من العمل الفني ولا يكتمل إلّا بحضوره وتفاعله مع فكرة اللوحة واشكالها.

ومن الملاحظ ان الفنان عمد من خلال تقنياته الفنية المستخدمة في هذه اللوحات وغيرها على ان يتم الانتقال من اللامكان إلى المكان المتمثل بمسجد الكوفة ومحرابه ومن اللازمان الى زمان محدد بصلاة الصبح لليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، وقد تم ذلك من خلال الإيحاء عن طريق الخط واللون، فبالخط تم تحديد اعمدة المسجد وبين اللامكان والمكان لإعطاء إيحاء بمساحة المسجد وارتفاع سقفه، ومن جانب آخر نجد ضربات الفرشاة المتناثرة وانصاف الدوائر المختلفة الالوان والاحجام، لتشكل دلالة رمزية لزمان الفجيعة عند الفجر ولتكون الرابط الاهم للعلاقة بين مفاصل اللوحة عموماً والمشهد المعين خصوصا – ضربة امير المؤمنين -، وهنا استطاع الفنان ان يمهد الطريق لأي متلق لأدراك إيقاع المشهد ليعطي دلالة حب آل البيت عليهم السلام من خلال استخدام التقابل والتناظر والتكرار اللوني والتي تعطي مفهوما للحركة والتوازن في المشهد، مع ملاحظة أشتغالات الخط في إظهار الانفعال وردة الفعل والتبادل اللوني في تميز الأشكال وحضورها، وسيادة الوان السمائي والابيض المنير في المشهد وتوسطه كنقطة ارتكاز شكلت مركز البصر الذي يمتد من وسط اللوحة مشعاً نحو اطرافها  لربط مركز البصر بتكوينات اللوحة الاخرى.

وجدير بالذكر في هذا المكان ان استخدام الرسام لبعض الالوان واعطائها مساحة غالبة في لوحاته، انما جاء بما يتوافق مع الحالة النفسية للمشاهد حين تفاعله مع فكرة العمل وعلاقتها وتأثره به، فالبنية اللونية هي الدافع لتشكيل علاقة رابطة لكل فكرة العمل، وبالمحصلة يكون رسام اللوحة قد استطاع التوفيق بين الشكل والمضمون من خلال البنية اللونية المنسجمة مع مجريات المنجز وتفاصيله بتوظيف عقيدته الدينية وملكته الفنية بحنكة ودراية واسقاطها على سطح اللوحة.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات