يحمل هذا التكوين الفني توقيع الراحل شاكر حسن آل سعيد، الذي يعد احد التشكيليين العراقيين الذين سخروا لوحاتهم لمحاكات الواقع العراقي والعربي بأحزانه ومسراته ، حيث انطلق بمنجزاته الفنية التأملية من نظرة روحية اخترق من خلالها مكونات العالم الخارجي.. ليصل بها الى أسلوب تجريدي مشتق من مورثه الشعبي والحياة اليومية للفرد والمجتمع المحملة بالأساطير والقصص العربية والاسلامية، متأملا من خلالها الحرف العربي واعتماده كوســيلة للتعبير عن دواخله وثيمة للتأثير المباشر على المتلقي بمنحى روحاني مؤثر، يكشف عن علاقة جدلية وطيدة بين ذات الفنان والموضوع المراد طرحه في تكويناته الفنية المختلفة، والتي لا تتم الا من خلال تواصلية القلق والبحث الدائمين كجزء من القلق الإبداعي الذي يشكل يحمله الفنان المبدع .
رسمت اللوحة بمادة الزيت على الخشب عام 1975م وهي تحمل عنوان ( فتح قريب).. وهي من اللوحات ذات القوام التجريدي من حيث تراكيبها اللونية الهادئة، المبنية وفق توزيعات قائمة على الانسجام وخلق مناخ ذي مسحة لونية تعالج الاجواء العالية التركيب، في محاولة للوصول الى الالوان كما هي موجودة في الطبيعة والاقتراب من التراكيب الشكلية كما هي قدر المستطاع، مع اضافة شيء مما تمليه الرؤية الذاتية للفنان، مما يجعل التكوين كما هو ظاهر للمتلقي يذهب باتجاه الكشف عن خفايا الاشكال والالوان المرسومة والتأثر بها.
اعلن ال سعيد في هذه اللوحة عن رؤيته المتعلقة بمفهوم البعد الواحد، وهذا يربط بين طبيعة اللوحة وهذا المفهوم الذي دعا اليه الفنان في اغلب اعماله الابداعية، فاللون يعكس الوان الجدران العتيقة.. وان العملية الاكثر تركيزا في منجزه هي البنية الهندسية والشكلية لطبيعة الشرخ الذي يقسم اللوحة افقياً، وبنفس الوقت تظهر الفجوة التي تتوسط اللوحة وكأن الجدار قد ثقب فأن البعد الواحد لم يعد بعدا واحد بل هناك عمق من خلال هذه الفجوة، وهي تعطي ايحاء للمشاهد بأن هناك بعدا واحدا فالتسطيح الذي دعا له يحيى بن محمود الواسطي وتأثر به الفن العراقي بشكل عام.. هو الهدف المبتغى وما هذه الفجوة في الوسط الا تأكيداً لوجود البعد الواحد الذي يغادره المتلقي لحظة التركيز الى هذه الفجوة.
ان من بعض المسلمات في عملية الرسم وحين وضع درجات لونية متعددة حتى وان كانت من جنس اللون نفسه، فهي تعلن عن وجود عمق في اللوحة، الا ان محاولة شاكر ال سعيد كانت تذهب باتجاه جعل السطح يمثل الموضوع والهدف الذي يعالج بصريا في نفس الوقت، وان الدخول في مشهد من الطبيعة يُمثل لونياً كما هو في الطبيعة نفسها، مع الاخذ بنظر الاعتبار بأن ملاحظة تفاصيل اللوحة هو طريق الوصول الى استنتاج بأن النظر الى الاجزاء هو شيء من اكتشاف الكل ان لم يكن اكتشاف الكل كاملاً، وهذا ما جاء به ال سعيد في هذه اللوحة فمن خلال العملية التي تذهب باتجاه التراث ولكن من زاوية اخرى ذات غرابة اكثر مما نراه في اعمال الاخرين العراقيين الاخرين ذات الرؤية التراثية ، فالأجزاء او النظر الى المقطع الذي يكشف عن الطبيعة التراثية للمكان لم يتطرق لها غيره، فقد اعتمد الفنان تقنية التعتيق حتى صبحت ضرورة في صياغة تراكيبه اللونية التي يستفاد منها بصريا في الكشف عن طبيعة المكان، مما يحيل اللوحة باتجاه تجريدي، حيث ان درجة اللاتشخيص هنا توغل العمل في حلبة تحطيم البنى التشخيصية من اجل الوصول الى عالم تجريدي، لكنه في نفس الوقت يكشف عن مضمون ريادي يتبع صيغة المكان في اللوحة في كل الاحوال، ففي العالم كثير من الاشياء القديمة المعتقة والكثير من الجدران لكن خلق المكان التجريدي.
اما الشرخ- المميز في اغلب جدران الابنية القديمة - الواضح في وسط اللوحة، فيبدو انه قد خلق حركة بصرية خلقت مجموعة من الموازنات الشكلية واللونية في التكوين، فضلا عن قيمته الجمالية التي تترك اثرها في شكل الرؤية الذاتية للوحة، وقد نوه الفنان بدراية تامة الى ان هناك عالم اخر كان متزامنا مع طبيعة المكان وقد اظهره من خلال الاضافات التي توزعت على شكل كلمات وحروف وعلامات في محيط اللوحة، وهي كتابات وحروف عربية عززها الفنان ببعض الاشارات والرموز، ليبدو جلياً للمتلقي طبيعة هذا المكان التجريدي الشكل والهيئة، حيث تحققت من خلال هذه الحروف والرموز وجهة العمل الفني من خلال النظر الى طبيعتها التي تشكل كلمات ذات معنى متفق عليه، وهذا ما يؤكد بشكل كبير عن هوية العمل او اللوحة والكشف عن مضامينها المكانية والرمزية الدلالية بالرغم من تجريدها العالي، فالمكان ليس غريباً على الشرق بالرغم من ان مثل هكذا اجواء في الفن الحديث موجودة ايضاً في دول الغرب، ولكن يمكن للمتلقي الجزم على انها لوحة تنتمي الى الشرق والى العراق بشكل خاص، اذ تعمل المنظومة الحروفية على الاخذ بيد المكان والكشف عن هويته، فهذه الكتابات تتواجد في اكثر الاحيان ضمن نطاق البيئة العراقية وازقة احيائها القديمة والبسيطة بأبنيتها ومجتمعاتها، حيث الكتابات على الجدران العتيقة التي تعكس عالماً فطرياً اقرب ما يكون الى عالم طفولي لكن فيه مضامين لها دلالات قد تكون اجتماعية او دينية او سياسية تكشف عن نفسها من خلال زمان ومكان تواجدها.. وفي احيان اخرى تبقى غامضة من اجل خلق تأويلات جديدة والانفتاح على المعنى المبتغى من وجودها.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق