نقد الفنون و النشاط الإدراكي للجمال..

تنطوي عملية الأدراك  الجمالي لدى الفرد المتلقي للعناصر الفنية على مجموعة من القدرات الفسيولوجية المتعلقة بوظائف الحواس، وهي تتحكم في آليات الأدراك البصري، كما يتعلق الادراك الجمالي من جانب آخر بالقدرات العقلية والنفسية التي تتظافر مع القدرات الفسيولوجية للأفراد.. لتتشكل بالمحصلة عملية الادراك وفق منظور الفروق الفردية والتي تعكس بدورها العوامل الثقافية والبيئية للمتلقين ومن ثم مستقبل العمل الفني ونجاحه بين المجتمع.

تمر عملية الأدراك الجمالي بأطوار متتابعة انطلاقاً من دور النظرة الكلية للعمل الفني، ثم الاحاطة به وبدء عملية التحليل وأدراك العلاقات القائمة بين الأجزاء والعناصر المكونة له، ومن ثم إعادة تكوين الأجزاء في هيئات كلية، وأن عملية الأدراك تبدأ في الأغلب بالكليات وتتحول الى الجزئيات.. بهدف التحليل والتأمل تمهيداً لإعادة التوجه نحو الكليات، فبالرغم من أن النظرة الإجمالية لأي عمل فني تسبق النظرة التحليلية، الا انه لا يمكن أدراك العلاقات بين الأجزاء ما لم يشمل أدراك المتلقي للعمل الفني بأكمله كمرحلة اولى، ويعود سبب ذلك الى ان الأجزاء لا معنى لها وهي منفردة او كانت بمعزل عن بعضها البعض، بل يتوقف معناها على موقفها بين سائر الأجزاء وعلى كيفية انتظام الشكل الكلي في أجزائه، فالأدراك الجمالي لا يعكس الخصائص المتفرقة للأشياء التي تؤثر بشكل مباشر في مجسات واعضاء الحواس، وإنما يمثل صورة كلية ناجمة عن تنظيم الأحاسيس بصيغة اشكال أو انماط أو بنىً متماسكة وإظهار خصائصها الجمالية، فضلاً عن الكشف عن العلاقات والروابط التي لا يمكن إظهارها أو اكتشافها عن طريق الحواس فقط، اذ تتكون الصورة الإدراكية الكلية عن طريق تعميم كل ما هو مشترك وعام من الصفات والخصائص لفئة أو صنف من الموضوعات، لذا يمكن الجزم أن مهمة الأدراك الرئيسة في مجال الفنون الجميلة تكمن في اكتشاف البنية الكلية الثابتة والجوهرية للموضوع المُدرك المتمثل بالتكوين الفني .

تشير اغلب الدراسات المتعلقة بعملية الادراك الى انها عملية معقدة وغير مباشرة، سواء اتخذت شكل عملية ادراكية عقلية معرفية أو عملية توجيهية تكيفية او تفاعلية اتصالية، فاكتمال عملية الادراك وتحقيقها للوظيفة المناطة بها، يحتاج بلا شك إلى توفر عدد من الشروط الضرورية لحدوث عملية الادراك ونجاحها.. ومنها وجود عالم خارجي مستقل عن الفرد وحافل بموضوعات واشياء وخصائص وصفات لا حصر لها، شريطة أن تكون للخصائص المؤثرة درجات من الشدة تقع في حدود معينة تكفي لتنبيه واستثارة أعضاء الحواس التي يستقبلها الفرد، ومن ثم تحويل قوة هذا التنبيه من طاقة فيزيائية أو كيميائية إلى طاقة عقلية عصبية، ولكي يتم ادراك العالم الخارجي لابد من وجود حواس، فلا مناص أن وعي الفرد بالعالم الخارجي يعتمد كلياً على نشاط أعضاء الحس والتي يجب ان تكون سليمة تماماً.. كي يستطيع الفرد ان يدرك الاشياء ادراكاً مباشراً، وايضاً لابد من ان تتوفر في المرء أجهزة حركية سليمة ونشطة مهمتها التآزر مع أعضاء الحواس لفحص الموضوعات والتدقيق بها، بغية الحصول على معلومات أشمل وأدق عن تلك الموضوعات.. وهذا بالتأكيد متعلق بوجود مجسات عصبية ناقلة للمعلومات أو التنبيهات التي أحدثتها موضوعات الادراك من أعضاء الحواس إلى الجهاز العصبي المركزي المتمثل بالجزء الدماغي المتخصص في معالجة المعلومات الواردة .

 ان عملية الادراك لا يمكن لها ان تتم الا من خلال وجود جهاز عصبي مركزي سليم من الناحية التشريحية والوظيفية الفسيولوجية، فتقع على عاتقه مهمة تلقي المعلومات الحسية الواردة عن طريق أعضاء الحواس وتجميعها وتنظيمها تمهيداً لمعالجتها، ومن ثم تأويلها وتفسيرها من أجل صنع انموذجا لها أو ألحاقها بآخر سابق لها في التكوين، ولابد من وجود القدرة على التفسير والتأويل لدى الفرد من منطلق ان الاحساس بحد ذاته غير كاف ولا قيمة له اذا لم يكن له معنى، فالأحاسيس وحدها عاجزة عن التفسير والتأويل بعيداً عن اجتماعها بالمكتسبات المتمثلة بالخبرة والتعلم، فالأخيرة هي التي تمكن الفرد من ترجمة أحساساته التي يتلقاها من العالم الخارجي، أو إعطائها المعاني اللازمة التي توائم الشيء المدرك، فكلما زادت خبرات الفرد ازداد ادراكه للأشياء والعناصر المختلفة.

مكونات النشاط الادراكي..

تشتمل ايضاً العملية الادراكية على مجموعة من المكونات المهمة منها :

1. المكونات الحسية :  ويطلق عليها تسمية العمليات الحسية ايضاً..  وهي تتمثل في ان الادراك الحسي يتضمن تنبيه الخلايا المستقبلة بالمنبهات الحسية الواقعة عليها من العالم الخارجي، فلا تنبيه في الادراك الحسي لحاسة واحدة فقط وإنما لحواس متعددة في آن واحد.

2. المكونات الدلالية والرمزية : ويطلق عليها بعض علماء النفس بالعمليات الرمزية..  وهي تنص على أن الادراك هو عملية لتنظيم الاحاسيس وتوحيدها وأضفاء المعنى عليها، اذ يتم تثبيت معنى المدركات من خلال تسميتها بكلمات أو عبارات معينة، فالكلمات هي بمثابة رموز تشير إلى ما هو مهم وجوهري في الادراك، وهكذا نجد أنه عندما تحل الكلمة الرمز محل الخصائص والصفات الحسية الجوهرية لشيء ما، فأنها تختزل الكم الحسي الهائل إلى أقصى درجة ممكنة واصبحت مفتاحاً لإعادة نشر الخصائص الحسية بكامل تفاصيلها وجزئياتها بشكل دقيق ومفهوم.

3. المكونات الانفعالية: ويطلق عليها تسمية العمليات الوجدانية وتتمثل في ان كل ادراك يتضمن ناحية وجدانية مرافقة له، فالفرد لا يرى الشيء فقط أو يتذكر الخبرات السابقة المرتبط به فحسب.. بل ينتابه الشعور بحالة وجدانية معينة إزاءها، فقد يُسر أو يفرح أو يغضب لرؤية الاشياء والاشكال او المواقف الفنية، فالحالة الوجدانية التي تثار في الفرد عند رؤية شيء ما تعتمد على المواقف السابقة بهذا الشيء وخبراته المتراكمة منها.

مراحل العملية الادراكية..

وان لعملية النشاط الادراكي مراحل متعددة قبل أن تحقق هدفها ومن أهم المراحل التي أشار اليها العلماء :

1. مرحلة الانطباع الاجمالي المبهم : ويسميها بعض العلماء بمرحلة بروز الشكل في المجال الادراكي، وتمتاز هذه المرحلة بان الفرد لا يتمكن من تحليل الموضوع المُدرك إلى جزيئاته وتفاصيله، ويكون عاجزاً نوعاً ما عن تمييز عناصره المستقلة المكونة له الواحد عن الاخر.

2. المرحلة التحليلية: وهي تعنى بتحليل الموقف أو الشكل أو الموضوع إلى مكوناته واكتشاف العلاقات القائمة بين هذه المكونات.

3. اعادة تأليف الاجزاء: ويقصد بها اعادة جمع الاجزاء وتأليفها في كل موحد والعودة إلى النظرة الكلية من جديد.

4. المرحلة العقلية النفسية: وهذه المرحلة تمثل المحطة الاخيرة التي تتحول فيها المعلومات الحسية إلى معانٍ ورموز مفهومة، ويفترض فيها ان تكون الصور او الاخيلة البصرية للأشكال التي يراها المرء تكون مطابقة لهيكلها او جسدها البنائي.

ومما يلفت الانظار في هذا الموضوع.. هو ان الفرد عادة ما يدرك حركة الاشياء بادراك تغير وضعها في المكان او الحيز الذي تشغله، حيث تظهر الحركة بالنسبة للمدرك اعتمادا على وجود نقطة ثابته او اكثر، وتقوم هنا اجهزة الادراك بتميز ما هو متحرك وما هو ثابت منها وفق الاطار المرجعي للفرد المدرك، وفي هذا المجال فقد قام مجموعة من العلماء المتخصصين بدراسة الاشكال والمدركات بتجارب عن ادراك الحركة، وكانت حصيلة تلك التجارب ان ادراك الاشكال عادة ما يكون خاضعاً لقوانين ادراك الثوابت، فالحركة الظاهرة توضح بان ادراك الحركة لا يعتمد الحركة الفيزيقية الحقيقية للمثيرات الموجودة في البيئة فحسب، بل تعداه الى ان اجهزة الادراك هي من يقرر ما هو المتحرك و الثابت من الاشياء.. وذلك بالطبع سيكون وفق الاطار المرجعي المعين للفرد وخبراته العملية المتراكمة ومن ثم اطلاق الحكم النهائي على الاشكال بانها جميلة.

*الفسيولوجي هو مصطلح مأخوذ من ( علم الفسيولوجيا ) وهو العلم الذي يدرس العلاقة بين السلوك والأعضاء من أجل إيجاد تفسير فسيولوجي أو عضوي للسلوك الإنساني، كما يهدف من جانب آخر إلى البحث في الأسس الفسيولوجية للظواهر النفسية المرضية كالأساس الفسيولوجي لكل من امراض الفصام والاكتئاب والوسواس الذي يصيب الانسان.

اعداد

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات