الالتفات في نثر الإمام الحسين (عليه السلام) .. التفات العدد انموذجا

 

م.م شيماء جاسم عبيد

مما لا شك فيه ان كتب البلاغيين الأوائل نجد آراء وتنظيرات مهمة تناولت النص ودرسته بإسهاب وحددت قدرته على التوصيل وأثره في المتلقي من فكرتين أساسيتين دارت في أكثر كتب البلاغة والنقد، هما : (المقام) و (المقال) ، إذ لا يريدون من المقام إلا (الموقف)،ومن المقال إلا(التركيب النحوي)، وبين هذا وذاك تقع  صور الالتفات، فالتراكيب النحوية يجب أن تدرس عبر السياقات الواقعة فيها التي قد تحدث تأثيراً معنوياً اسلوبياً وهذا التأثير الأسلوبي يمثل جزءاً من اغراض الكلام ، أي استعمال اللغة ووظائفها الدلالية لتكشف جانباً مهماً من موقف المتحدث ([1]) ، وهذا ما سنلاحظه في نصوص الإمام الحسين(عليه السلام).

الالتفات من المفرد الى المثنى:

 يأتي أسلوب الالتفات من لفظ المفرد إلى التثنية لأسرار بيانية تدرَكُ من خلال سياق النص ، وتكشف لنا الباحثة شيماء كاظم عن  الغايات التي يتضمنها هذا النوع من العدول ،((فالعدول من المفرد إلى المثنى، يتضمّن غايتين هما: الانتقال جرياً على سنن العرب في الكلام ، والاشتمال))([2]) . ولكن نحن لا نحصر هذا الأسلوب بهاتين الغايتين فحسب ؛لأن ما قال به الزمخشري وأضافه ابن الأثير فيما يتعلق بفوائد الالتفات والتي يفهم من عبارتهما إنه لا يمكن حصر فوائد الالتفات  فهي كثيرة يكشفها لنا السياق الذي يختلف من نص لآخر.

إذ إنّ بيانَ وظيفة الالتفات عند ابن الأثير تتبدّى في قوله: ((إن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرةٍ واحدةٍ، وإنما هو مقصورٌ على الغاية بالمعنى المقصود،  وذلك المعنى يتشعب شُعَباً كثيرةً لا تنحصر، وإنما يؤتَى بها على حسابِ الموضع الذي ترد فيه.))([3]) ، ولا شكّ أنّ هذه الرؤية تتَّفقُ تماماً مع ما ذهب إليه الزمخشري، حين قال: ((وقد تختص مواقعه بفوائد))([4])

ومن أمثلة هذا النوع من العدول قوله(عليه السلام): (( أتأذن لي أن أكون معكما تحت الكساء؟))([5])، إذ إنّ موضع العدول في قوله(معكما) بالتثنية، وهو عدول عمَّا تقدم من السياق الدَّالِّ على المفرد في قوله( أتأذن) ، فلماذا عدل إلى ضمير المثنى العائد على الاثنين وهما  )الرسول والإمام الحسن)  وكان المتوقع من السياق أن يقول )معك) وهذا ما أشار إليه أبو السعود بقوله: وتثنية الضمير بعد إفراده فيما تقدم من المقام بوصف شمول الأذن منهما (عليهما السلام (واستلزام القبول وإعطاء الإذن لأحدهما يكون للآخر كذلك .([6]) ، فإذا كان السياق الأول قد حافظ على المكانة السامية للإمام الحسن(عليه السلام) واقترانه بشخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) نجد في سياق مخالف تماما لتلك المنزلة الرفيعة ،إذ تحدث لنا الإمام الحسين (عليه السلام) عن رجلين هما مروان وأبيه الحكم بن العاص يخاطب أحدهما ويضع الوصف لكليهما مشاركة فيقول: (( وَإِنّي لا أَعْلَمُ أَنَّ فِي الْأَرْضِ مَلْعُونٍ ابْنَ مَلْعُونٍ غَيْرُ هذا وَأَبيهِ طَريدَيْ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ مَا بَيْنَ (جابَرْسٍ وجابَلْقٍ) أَحَدِهِما بِبابِ الْمَشْرِقِ وَالْآخَرِ بِبابِ الْمَغْرِبِ رَجُلانِ مِمَّن يَنْتَحِلُ الْإِسْلامَ أَعْدى لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْكَ وَمِنْ أَبيكَ))([7]) لا يخلو هذا العدول من الإفراد إلى التثنية من فائدة، وهي تعميم صفة اللعنة، ودفع توهم اختصاصها بواحد([8]) نشير هنا إلى أن الايحاءات التعبيرية الناشئة من تماسك (المقام والمقال والسياق) في هذا النص من ترابطها فيما بينها في التراكيب النحوية يقودنا إلى مفهوم أوسع يمكن أن نسميه (المستوى الأسلوبي) للتركيب النحوي المتجاوز للترابط اللفظي وأن الفاعلية الأسلوبية والمتمثلة (بأسلوب الالتفات) في بنية هذا التركيب ترجع قيمتها إلى نظام العلاقات القائمة بين عناصر ذلك التركيب التي خلقت بنية جديدة شأنها إظهار إمكانية اللغة في استثارة المتلقي ([9]).ومن امثلته أيضاً([10]).

الالتفات من المفرد الى الجمع.

ومن نماذج الالتفات من المفرد الى الجمع قوله (عليه السلام ):(( الّلهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّماءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنَين كَسِنيِّ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَليْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسْقيهِمْ كَأْساً مُصْبَرَّةً، فَلا يَدَعُ فيهِمْ أَحَداً، قَتْلَةً بِقَتْلَةٍ، وَضَرْبَةً بِضَرْبةٍ، يَنْتَقِمُ لي وَلِأَوْلِيائي وَأَهْلِ بَيْتي وَأَشْياعي مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ غَرُّونا وَكَذَّبُونا وَخَذَلُونا، وَأَنْتَ رَبُّنا، عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصيرُ.))([11])

ذهب ابن كثير (774هــ) إلى أن الالتفات من الواحد إلى الجمع أفصح في الكلام وأبلغ، إذ قال: (( وقد التفت  من الواحد إلى الجمع[...] وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام))([12])، وأضاف صاحب كتاب الإرشاد إنَّ الانتقال لصيغة  الجمع هو لتفظيع حال المنافقين وإظهار كمال غدرهم  ونكثهم لمواعيدهم  لابن رسول الله ([13]). إن الوصول إلى المعنى الذي أراد الإمام أن يكشف عنه لم يتأتَ لنا من تتبع مفردات النص فحسب؛ وذلك لأنّ اللغة لا يمكن أن تقف عند استعمال الكلمات المفردة، وإنما ترتيب تلك الكلمات في تراكيب واختلاف معانيها تبعاً للمعنى المقصود في العبارة التي ترد فيها لذلك لا يمكن أن يفهم الكلام من ألفاظ مفردة ((لأنّ الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن ؛لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها من فوائد)) ([14]) .

    والألفاظ لا تؤخذ دوالّ لذاتها بل تؤخذ دلالتها من ارتباطها مع جيرانها ([15])، ((والكلمة عندما تدخل في تركيب ما ، فإنها تكتسب قيمتها من مقابلتها لما يلحقها من كلمات أو يسبقها))([16])، وإن أي تغيير في بنية التركيب النحوي ما هو الا استجابة لحاجات المتكلم لكي يعبر عما يفكر به من معانٍ، وذلك (( لأن كل عنصر لغوي مكانه في نظام معين أو وظيفة أو قيمة تستمد من العلاقات التي يرتبط بها مع العناصر الأخرى من ذلك النظام)) ([17]) فترتبت الألفاظ هنا لتأخذ اسمى غاياتها والتي تحدثنا عنها الباحثة شيماء محمد كاظم: ((ولهذا النوع غاياته واغراضه في [التعميم ، والتعظيم، والمبالغة، والاشتمال]))([18]).

وقد اجتمعت هذه الغايات هنا، وهذا ما يوحي به السياق فقد أشرك الإمام الحسين (عليه السلام) أعداءه بصفة الغدر له، ولمن كان معه من أنصاره وأهل بيته، وانتقل إلى الجمع لبيان عظيم ما اقترفوه من ذنب في معاملتهم مع إمام زمانهم ، وأنه على الرغم من كل هذا فقد لاقى الغدر والخيانة من الفئة الباغية كما يصفهم رسول الله في وحيه لخبر مقتل حفيده وريحانته ،إذ قال لابنته فاطمة (عليها السلام) (( تقتله الفئة الباغية من بني أمية))([19]) .

وهناك سياق آخر ينتقل فيه الإمام الحسين من المفرد إلى الجمع لبيان المنزلة العظيمة له ولمن كان معه من أهل بيته وأنصاره فأشركهم الإمام بعظمة البلاء الذي أنزله بهم خليفة المنافقين فيشبه لنا حاله بعد القتل بصورة يتضافر فيها التشبيه والالتفات في رسمها فيقول:(( كَأَنِّي بِأَوصَالِي* تُقَطِّعَهَا عُسْلانِ الفَلَوَات*([20]) , بِينَ النَوَاوِيسِ* وَكَرْبَلاَ فَيمْلاَن مِني أَكْرَاشاً* جُوفا* وَاجْرِبَةً* سُغْبَا* لا مَحَيص عَنْ يَوْمٍ، خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضىَ اللهِ رِضانا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ))([21]) .

نلاحظ من قراءة النص أن الالتفات في هذه المرة تمثل في ))استئناف نظام جديد في توالي الجمل يخالف السابق[...] ويتصل بتوزيع وتنويع النسق النحوي بطريقة تنتج شكلاً بلاغياً جديداً ((([22]).

     وعند إعادة النظر في هذا النص نلاحظ  تمكن الإمام(عليه السلام) من التفنن في الكلام والتصرف فيه بوساطة تسخير إمكانات اللغة وتوظيف أساليبها مستغلا  (( ضغوط الدلالة وضغوط الإبلاغ ))([23])، فضلاً عن هذا استطاع الإمام  توظيف أسلوب الالتفات توظيفا نفسيا والذي يتضح عن طريق الانتقال بين صيغتي المفرد(كأني) و الجمع(نصبر).

  أن هذا النص جمع ضربين من الالتفات. تحقق الأول عن طريق الانتقال من التكلم إلى الغيبة ، وتحقق الثاني عن طريق الانتقال من صيغة الإفراد إلى صيغة الجمع فعند قراءتنا للنص المتقدم نجده( عليه السلام) انتقل من التكلم (كأني) إلى الغيبة (أجور الصابرين) ثم العدول من المفرد (كأني ) إلى الجمع (رضانا) وهذا الانتقال حقق عدولا أسلوبيا ذلك بكسر المتوقع، إذ يتبادر إلى الذهن الاستمرار في أسلوب التكلم (اجورنا) إلا أنه(عليه السلام) عدل عن هذا المتوقع وأتى بما جاء في النص، وفي هذا إعظام وإكبار لشأن الصابرين.

  تحدث الإمام الحسين(عليه السلام)  في نصه بصيغة الإفراد، ثم انتقل إلى صيغة الجمع ، والذي بدوره حقق أكثر من وظيفة: منها ما يمكن أن ينتجه أي نص أدبي لما يتمتع به من جمالية الإداء وهي الوظيفة (الجمالية).

   إجمالا نقول إن القراءة الكلية للنصوص الحسينية في هذ الصورة من الالتفات وغيرها تبين لنا أن أسلوب الالتفات شكل (( خاصية تعبيرية تتميز بطاقتها الإيحائية))([24]) ويمكن لنا أن نطلع على أمثلة من هذه النماذج في موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) ([25]).

الالتفات من المثنى الى المفرد:

   ((هذا النوع من الالتفات عكس الانتقال من المفرد إلى المثنى، لكنه أقل وروداً منه. إذ لم أجد كثير عدد له))([26]) ،لكن نجد عكس ما صرَّح به الباحث في نثر الإمام الحسين (عليه السلام) إذ يأتي أسلوب العدول من لفظ التثنية إلى المفرد لأسرار بيانية تدرَكُ من سياق النص الحسيني :(( أُنْشِدُكُمْ بِاللهِ إِلاّ صَدَّقْتُمُوني إِنْ صَدَقْتُ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ في الْأَرْضِ حَبيبَيْنِ كانا أَحَبَّ إِلى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مِنّي وَمِنْ أَخي ))([27]) ،إذ عدل في النص من المثنى( حبيبين) إلى المفرد ( مني )، وبيّن الثعالبي أنَّ من سنن العرب وأسرار العربية )) الجمع بين شيئين اثنين، ثم ذكر أحدهما في الكناية دون الآخر، والمراد به كلاهما معاً(( ([28])

ونكتة العدول أنها جاءت للدلالة على توحيد الشخصين في الصفة، نفسها والإشعارِ بأنَّ ما ينطق به من الصفات تنطبق عليهما وتشملهما ونكتة العدول تكمن في تأكيد توحد (الحبيبين) ؛ وذلك أن شخص الإمام الحسين(عليه السلام) لا ينفكّ عن شخص أخيه الحسن (عليه السلام) وهو تابع له ، وحصول المخالفة بينهما ممتنع، فلتلازمهما جعلا كشيئاً واحداً فعاد إليهما الضمير المفرد.([29])

ومن نصوصه (عليه السلام)  : (( فَانْطَلِقا فَلا تَسْمَعا لي واعِيَةً، وَلا تَرَيا لي سَواداً، فَإِنَّهُ مَنْ سَمِعَ واعِيتَنَا، أوْ رَأى سَوادَنا فَلَم يُجِبْنا وَلَمْ يُغِثْنا كانَ حَقّاً عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكِبَّهُ عَلى مِنْخَرَيْهِ فِي النّارِ))([30]).

نقف على موضع الالتفات في هذا القول ،إذ التفت من خطاب الاثنين في قوله (انطلقا) إلى المفرد في قوله (من سمع) فيلحظ أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد وجّه الخطابَ إلى عمرو بن قيس وابن عمه ثم عدل إلى المفرد، ووجّه النداء إلى شخصى آخر، فضلاً عن هذا أن الاختلاف بين المنافقين في كل شيء ،والاتفاق في عدائهم للنبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ويقول عز وجل في سورة (المنافقون)﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ(4)﴾،ولو جاء الخطاب في غير القرآن لكان القياس (هم الأعداء)،ولكن أراد عزَّ وجل أن يجعلهم واحداً في عداوتهم وهم كذا ؛لذا فأن سبب العدول إلى المفرد أنّ شأن عمرو بن القيس وابن عمه واحدٌ، وكلٌ منهما صار مشركا بالأمر، ولهذا عدل إلى المفرد بعدهما واحدا في أمر عدم تلبية النداء للأمام ونصرته.([31]) ويمكن لنا أن نطلع على أمثلة من هذه النماذج في موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام)   ([32]).

4- الالتفات من المثنى الى الجمع:

أنَّ هذه الصورة من الالتفات قليلة الدوران في نصوص النثر الحسيني ولم نجد سوى انموذج واحد لهذه الصورة وهو(( فَاصْنَعْ ما أَنْتَ صانِعٌ، فَإِنَّكَ لا تَفْرَحُ بَعْدي بِدُنْيا وَلا آخِرَةٍ، وَكَأَنّي بِرَأْسِكَ عَلى قَصَبَةٍ قَدْ نُصِبَ بِالْكُوفَةِ، يَتَراماهُ الصِّبْيَان وَيَتَّخِذُونَهُ غَرَضاً بَيْنَهُمْ))([33]).

       فقد انتقل من المثنى في قوله ( يتراماه ) وعادة ما يكون الرمي بين شخصين أو جهتين إلى صيغة الجمع في قوله ( يتخذونه ) والأخذ يكون لأكثر من شخص ، وإذا كان لهذه الصورة أغراض كما ترى الباحثة ((ولهذا النوع غرضان هما: [التعظيم، والمشاركة]))([34]) ، وفيما يبدو أنه ورد  غرض التعظيم هنا فالتنبؤ بعاقبة هذا الشخص وما سيؤول إليه أمره ليس أمراً سهلاً ،فهو لا يتأتى إلا لذوي المكانة والشأن الرفيع ممن يفضل عليه الله في الاطلاع على الأمور الغيبية أمثال هذا وما قاله الزمخشري بشأن هذا العدول : فإن قلت :كيف نوّع الخطاب فثنى أولاً ثم جمع[...] قلت: وجّه الخطاب لاثنين لأن أصول اللعبة تقتضي ذلك ، ثم سيق الخطاب عاماً لغيرهما  وخصَّ بالغرض تعظيماً لكون هذا الأمر لم يحصل بعد وهو أشبه ببشارة لهم([35]).

5- الالتفات من الجمع الى المفرد:

ومن أمثلة هذا النوع (( يا نُورَ عَيْني! كَيْفَ لا يَسْتَسْلِمُ لِلْمَوْتِ مَنْ لا ناصِرَ لَهُ وَلا مُعينَ!؟ وَرَحْمَة اللهِ وَنُصْرَتُهُ لا تُفِارقُكُمْ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَة،ِ فَاصْبِري عَلى قَضاءِ اللهِ ))([36])، فتوحيدُ )الصبر( إنّما جاء لتوحيد المعنى الذي يدورُ عليه صبر أهل بيت النبي على ما هم فيه من المحنة والبلاء، فيكونوا في صبرهم مثل الشيء الواحد وإلى هذا المعنى أشار الزمخشري بقوله:((فإن قلتَ: لِمَ وَحَّدَ؟ قلتُ: وَحَّدَ توحيدَ قول(صلى الله عليه وآله ): وَهُم يَدٌ عَلى مَن سِوَاهُم (؛ لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيءٍ واحدٍ لفرطِ تضامهم وتوافقهم))([37]).

وتوجز لنا الباحثة غايات هذا النوع من الالتفات قائلةً:(( إنّ لكل انتقالٍ غاياتٍ وأغراضاً معينة يحددها المعنى الذي يتضمنه النص الشعري، فان لهذا المبحث غاياته واغراضه التي يتضمنها، وهي: (التخصيص، توحّد الرؤية، إظهار التفرّد).)) ([38])، وله أيضاً (عليه السلام )((هَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! أَبىَ اللهُ ذلِكَ لَنا وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ، وَحُجُورٌ طَهُرَتْ وَجُدُودٌ طابَتْ، أَنْ يُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ  الْكِرامِ، أَلا وَإنَّي زاحِفٌ بِهذِهِ الْاُسْرَةِ عَلى قِلَّةِ الْعَدَدِ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَخَذْلَةِ النّاصِرِ))([39]).

نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد تحدث بصيغة الجماعة ليظهر منها تعظيمه لجميع أهل بيته وأبناء عمومته وحتى أنصاره وتفخيم مكانتهم في نفسه، وفي نفوس الآخرين بعدها ينتقل الإمام إلى صيغة الإفراد فنراه يستعمل ضمير التكلم؛ ليخصص الحديث عنه بعد أن كان حديثاً عاما شاملاً، يظنه كلُّ سامع موجهاً إليهم، ليضع في حساب أهل المدينة أنه على الرغم من تراجع البعض عن الذهاب مع الإمام  فأخذ هو على عاتقه القيام بهذه المهمة لوحده ، ولعل هذا هو ما أراد الإمام إيصاله للمتلقي، فعندما أراد في نيته (التخصيص) انتقل إلى الافراد تحقيقاً لهذه الغاية، وبهذا استطعنا أدراك الخواص الالتفاتية لبنية التركيب عن طريق السياق والمقام والمقال لأن الشكل النهائي لهذه البنية لن يتحقق إلا بفضل تركيب المفردات تركيباً مخصوصاً من خلال الاحتمالات النحوية المتاحة للمتكلم([40])؛لأن المفردة في التركيب هي التي تفضي إلى ثراء المعنى نتيجة لترابطها مع ما يجاورها من كلمات وذلك ما يجعل وظيفتها في سياق التركيب النحوي ذات فاعلية مؤثرة في قارئ النص، ومن أمثلة هذا النوع([41]).

6- الالتفات من الجمع الى المثنى:

ومن أمثلة هذا النوع قوله. (عليه السلام) ((اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْداً تَضَعُ لَكَ السَّمواتُ كَنَفَيْها، وَتُسَبِّحُ لَكَ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْها، اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ حَمْداً يَصْعَدُ أَوَّلُهُ وَلا يَنْفَدُ آخِرُهُ))([42])

نجد مثل هذا العدول الذي موضعه في قوله :( كَنَفَيْها) بلفظ التثنية, وكان المتوقع من السياق أن تكون بلفظ الجمع، فيقال: (أكنافها) لِما تقدَّم من ذكر الجمع، ولكنه عدل إلى لفظ التثنية مُؤثِراً إياه على الجمع؛ وذلك لأن الضمير يعود على طرفي السماء وما تضم بين دفتيها من الطبقات الأخرى وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ بقول): وإنّما قيل: (كنفيها) دون (أكنافها((لأن المراد جماعة السموات)).([43])وقوله : (( نَحْنُ حِزْبُ اللهِ الْغالِبوُنَ، وَعِتْرَةُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) الْأَقْرَبُونَ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ الطَّيبِّونَ، وَأَحَدُ الثِّقْلَيْنِ.))([44]).

يبدو أنَّ هذا النص يؤكد شيئاً مهماً لا بد من التركيز عليه وهو أنَّ ((الانطلاق من الرؤية المتكاملة لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) ، فكما أن القرآن يصدّق بعضه بعضاً ، كذلك مسيرة أهل البيت وخطابهم يصدّق بعضها بعضاً ، لأنهم عدل القرآن الكريم))([45])، ولعلّ أكثر عناية الدارسين بجماليات الالتفات كانت من زاوية المتلقي،ومن الإشارات التراثية الرائدة في هذا السياق قول الزمخشري (( إن الكلام إذا نقل من أسلوبٍ إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطريةً لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ))  ([46]) وما يهمنا هنا هو قوله إيقاظاً للإصغاء و، وبرأيي المتواضع أن هذا ما أراده الإمام الحسين في التفاته هذا فمهمته هنا هو (السامع)  وكثيرا ما يتردد على اذهاننا هذا المصطلح فهو مصطلح تراثي يناظره في الدرس اللغوي الحديث مصطلح (المتلقي( ، والزمخشري في نصّه السابق يؤكِّد وظيفةً أساسّيةً من وظائف الالتفات هي وظيفة تجديد نشاط السامع وإزالة السأم ،أما ابن الأثير يرفض التقويم الفني الذي قدَّمه الزمخشري للوظيفة الجمالية لتقنية الالتفات ،ويعلِّل هذا الرفض بقوله)): لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم يكن إلا تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليه ، فإن ذلك دليل على أن السامع يملُّ من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماع ، وهذا قدحٌ في الكلام .لا وصفٌ له ؛ لأنه لو كان حسناً لما ملَّ))([47])، ثم يشير إلى أن هذا التقويم  إن صحَّ إنما يصح على نماذج الالتفات ذات السياقات الطويلة والحاصل أن نماذج الالتفات تتكرر في القرآن الكريم في سياقات قصيرة([48]).

والذي يظهر أن كلام الزمخشري ليس خطأً محضاً ولا صواباً محضاً ، فهو قد يصح على نماذج من الالتفات ذات السياقات الطويلة باستثناء السياق القرآني في حين تظلُّ بنماذج الالتفات في السياقات القصيرة حاجةٌ للكشف عن مسوغات أخرى لها ،وفي نص الزمخشري السابق إشارة عامة إلى هذه المسوغات في قوله وقد تختص مواقعه بفوائد.

 

ومن أقواله (عليه السلام) ((أَما وَاللهِ ! لَتَعْلَمُن َّ لَوْ قَدْ قُبِضَتْ أَرْواحُكُمْ وَمُتُّمْ عَلى أَعْماِلكُمْ أَيُّنا مَرَقَ(*) مِنَ الدّينِ وَمَنْ هُوَ أَوْلى بِصِليِ النّارِ ؟))([49]).

لعلَّ النكتة البلاغية في هذا النص أن لفظ )أينا) يدل على  الفريقُ أو الفوج، فيقال:(فريقان( أو (فوجان متخاصمان)فكل )خصم(هو)فريق( يجمع طائفةً من الناس ومن هنا يتضح أنّ لفظ (أينا) يراد به جهتين أو فريقين ،وعدوله إلى لفظ التثنية مُؤثِراً إياه على الجمع (أيُّكم)؛ وذلك لأن الضمير يعود على الطرفين  وسرُّ العُدُول عن الجمع إلى التثنية في هذا النص أنه جاء مراعاةً لحال أقلِّ عددٍ يقع بينهم التشاجر والخصام وهذا ما ذهب إليه الزمخشري بقوله: (( أن قلتَ : فَلِمَ خُصَّ الاثنان بالذكر دون الجمع؟ قلتُ: لأن أقلَّ من يقع بينهم الشقاقُ اثنان.))([50])، ومن يتأمل أسرارَ الالتفات بجميع صوره  في النص الحسيني  يلمس أنّها تأتي على حسب الأحوال الداعية، فالسياق له أهمية كبيرة في كشف المعنى والوقوف على بلاغة الالتفات من صيغة إلى أخرى ونستشفُّ هذا عند ابن جني في معرض حديثه عن استعمال صيغٍ مكان صيغٍ أخرى بقوله: ((ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنَّا نقول: إنَّه يكون لمعناه في موضعٍ دون موضعٍ على حسب الاحوال الداعية إليه والمسوِّغةِ له.))([51]) ، وهذا ينبئ عن شجاعة الخطاب، وقدرتِه على الإبداع في التعبير،والقدرة على تصريف القول وفقَ ما يقتضيه المعنى ويطلبه السياق.

 

([1]) ينظر: التطور الدلالي بين لغة القرآن ولغة الشعر الجاهلي،عودة خليل ابو عودة، مكتبة المنار ، ط1 ، 1985: 75-76.

([2])الالتفات في شعر الجواهري: 304 .

([3]) المثل السائر : 2/170 .

([4]) الكشاف :1/120 .

([5]) موسوعة كلمات الإمام الحسين :1/76.

([6]) ينظر :  ارشاد العقل السليم :2/698 .

([7]) موسوعة كلمات الإمام الحسين:1/ 305.

([8]) ينظر: روح المعاني:5/168 .

([9]) ينظر: النظم في المنظور النحوي والبلاغي ، هدى محمد صالح عبدالرحيم الحديثي (أطروحة دكتوراه) ، كلية الآداب – جامعة بغداد ، 1993م:33.

[10])) ينظر: موسوعة كلمات الإمام الحسين: 1/952 ،2/640 ،1/276 ،1/299 ،1/447 ،2/697 .

([11]) موسوعة كلمات الإمام الحسين :1/512 .

([12]) مختصر تفسير ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ،تح : محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم – بيروت، ط7 ، 1981 م: 1/37.

([13]) ينظر : إرشاد العقل السليم: 3/61.

([14]) دلائل الاعجاز : 415.

([15]) ينظر: اللغة بين العقل والمغامرة، الدكتور مصطفى مندور ، الناشر دار المعارف بالإسكندرية ، مطبعة اطلس ، القاهرة ،(د.ط)، 1974م: 97.

([16]) نظرية البنائية في النقد العربي، الدكتور صلاح فضل ، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد ، 1998م: 27 ، والبلاغة والأسلوبية :307.

([17])علم الدلالة ، جون لاينز، تر: مجيد عبدالحليم الماشطة، وحليم حسين فالح ، وكاظم حسين باقر، مطبعة جامعة البصرة، كلية الآداب،(د.ط) ، 1980م: 69.

([18])  الالتفات في شعر الجواهري:185.

([19]) مناقب أمير المؤمنين( u) ، محمد بن سليمان الكوفي( من رجالات القرن الثالث الهجري)، تح :محمد باقر المحمودي، مجمع احياء الثقافة الاسلامية، (د.ت) ، (د.ط):2/234 .

(2) * الأوصال : هي الأعضاء ،*عسلان الفلوات : ذئابها ،*النواويس: أرض تقع شمال غربي كربلاء . والنواويس جمع ناووس : وهو مِن القبر ما سدّ لحده . وكانت بها مجموعة مقابر للنصارى والأنباط ، واليوم يقال لها أراضي الجمالية . وقيل : إنها في المكان الَّذي فيه مزار الحر بن يزيد الرياحي ،* الأكراش : جمع كرش ،* وجـُوَفا : أي واسعة،* والأجربة : الأوعية  * والسُّغب : الجائعة.

(3)موسوعة كلمات الإمام الحسين:1/397 .

([22]) بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل، المجلس الوطني للثقافة للفنون والآداب، الكويت،(د.ط)، 1992م: 198.

([23]) البلاغة والأسلوبية: 210.

([24]) البلاغة والأسلوبية:276 .

[25]) ) ينظر:موسوعة كلمات الإمام الحسين:2/945 ،1/321 ،2/847 ،2/640 ،2/512 ،1/337 ،1/511 ،1/433 ،1/344 ،1/412 ،1/389 ،1/380 ،1/180-181 .

([26])  الالتفات في القرآن الكريم :257.

([27])  موسوعة كلمات الإمام الحسين :1/305.

([28]) فقه اللغة وأسرار العربية, أبو منصور عبد الملك بن محمد بن اسماعيل الثعالبي(430هـ), تح: ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية ، ط2 ،2000 م: 361 .

 ([29])ينظر: روح المعاني: 10/128.

([30])  موسوعة كلمات الإمام الحسين: 1/447.

([31]) ينظر: روح المعاني 18/37- 38 .

([32])  ينظر:1/305 ،2/894 ،1/531 ،1/541 .

([33]) موسوعة كلمات الإمام الحسين :1/513.

[34]) ) الالتفات في شعر الجواهري :207 .

([35]) ينظر: الكشاف 3/166.

([36])  موسوعة كلمات الإمام الحسين:1/591

([37])  الكشاف :4/53.

([38])  الالتفات في شعر الجواهري:197.

([39]) موسوعة كلمات الإمام الحسين:1/514.

([40]) ينظر: النحو بين عبد القاهر، وتشومسكي، الدكتور محمد عبد المطلب، مجلة فصول ، المجلد الخامس، ع1، القاهرة ، 1984م : 28.

  (2) ينظر: موسوعة كلمات الإمام الحسين:2/923 ،2/897،1/519،1/511 ،1/506،1/4 34،1/321.

([42])  م.ن:2/938 .

([43])  الكشاف :4/140.

([44])  موسوعة كلمات الإمام الحسين:1/295.

([45]) نهج الإصلاح قراءة في الخطاب الإصلاحي للإمام الحسين:11 .

([46])  الكشاف : ١/120 .

([47]) المثل السائر : ٢/ 169.

([48]) ينظر: م.ن:2/169.

(*) * مرق الشخص من الدين : خرج منه ببدعة أو ضلالة ، أنكره ، جحد به تولى الحاكم قتال المارقين بنفسه - اتهمه بعض الناس زورا بأنه مرق من دينه .

([49])  موسوعة كلمات الإمام الحسين:1 /531 .

([50])  الكشاف:5/573 - 574.

([51]) الخصائص :2/308.

المرفقات