مكانـة المرأة في التراث الأسلامي ... السيدة زينب انموذجا

حازت المرأة على مكانة عظيمة حفظها لها الدين الاسلامي ، وتجلت مكانتها في العديد من الآيات القرآنية بلغت (1372) مرة ، فضلاً عن الاحاديث اللامعدودة في ذكر المرأة ،إذ جعلها الله في مستوى الرجل في الحظوة الإنسانية الرفيعة , بعدما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مهانة وضيعة القدر , لا شأن لها في الحياة سوى كونها بُلغة المطامع الحياتية فقال تعالى :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[1].

وعلى هذا الاساس يمكن القول ان الدين الاسلامي اعطاها اولاً حق المساواة مع الرجل، ومن ثم بين ان كلاهما متساويان من حيث الاهلية في تحمل المسؤولية، وضرب في سورة النساء اروع الامثلة على قيمتها من حيث التسمية، ومدى المسؤوليات الملقاة على عاتقها، وما ذلك الا لقدرتها العقلية والقلبية والجسمية على التحمل بالرغم من رقتها، وقد تجسدت تلك المكانة بشكل واضح في أقوال العلماء منهم على سبيل المثال السيد محسن الأمين في السيدة زينب (عليها السلام) قائلا: " كانت زينب من فضليات النساء، وفضلها أشهر من أن يُذكر، وأبين من أن يسطر، وتُعلم جلالة شأنها وعلو مكانها وقوّة حجّتها ورجاحة عقلها وثبات جنانها وفصاحة لسانها وبلاغة مقالها حتّى كأنّها تفرع عن لسان أبيها أمير المؤمنين(عليه السلام) من خطبها بالكوفة والشام، واحتجاجها على يزيد وابن زياد"[2]. ولعل في ذلك دلالة واضحة من نسبٍ وعلمٍ وتقوى، بالإضافة الى الامتداد الطَّبيعيَّ والرّساليَّ لأبيها الامام علي (عليه السلام)، في صبره وجهاده وتقواه.

ومما لا شك فيه ان المتأمل في شخصية السيدة زينب وسيرتها يجد الكثير من الدروس والقيم الاجتماعية في شخصيتها، اذ أن شخصية وصفات السيدة (عليها السلام) واضحة في افعال النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) مع حفيدته (عليها السلام)، ولعل في الحديث الشريف دلالة على ذلك، عندما قال:" من بكى على مصاب هذه البنت، كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين (عليهما السلام) مكانه" [3] ، مما يدل على ان  السيدة ستشاهد المصائب تلو المصائب، وانها ستفجع بأخيها الحسن المجتبى (عليها السلام) ، ثم تفجع بمصيبة أعظم وهي مصيبة قتل اخيها الامام الحسين بن علي(عليهما السلام) في ارض الطفوف ، ولهذا نرى تلك المكانة قد تجسدت في معركة الطف حينما خرجت (عليها السلام) مع نسوة من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة، حيث وقفت الى جانب اخيها (عليه السلام) في تلك الشدائد والمصائب المؤلمة التي يشيب لها رأس الطفل الرضيع، اذ كان همهّا الشاغل مواساة أخاها الامام الحسين بوجودها، وقد رويّ انها دخلت على اخيها الامام الحسين في خبائه ليلة عاشوراء، فوجدته يصقل سيفه ويقول :" يا دهرُ أفًّ لك من خليلٍ ...،" فذرعت وعرفت أن أخاها قد يئس من الحياة، وانه مقتول لا محالة ، فصرخت نادبة اخاها.. وقالت: "واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة امي وعلي ابي وحسن اخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي" [4]. وفي موقف السيدة (صلوات الله وسلامه عليها ) دلالة على مكانة المرأة  واهميتها في ساحة المعركة، وهو اشارة خفية عن الحاجة النفسية للرجل الى التشجيع تارة والى الحنان تارة اخرى، وما يمكن لمشاعر المرأة الرقيقة ان تعمل وسط تلك الاجواء المشحونة بالسهام.

بالإضافة الى ذلك فان السيدة الطاهرة قدر لها دور في التاريخ الاسلامي كتب في صفحات من النور، يُستلهم منه العبر والدروس في مواجهة متغيرات الحياة والوقوف بوجه الطغاة، حيث جعلت من مصرع أخيها الامام الحسين ثورة خالدة اصلحت أمم واستمدت منها الدروس والعبر في النهوض بواقعها القيمي والاخلاقي، واكدت ان للمرأة دور قيادي وله تأثير في الحرب والسلم لا من خلال حمل السلاح وخوض غمار المعارك ، وإنما من خلال فكرها وتوجيهها وتحملها القيادة من خلف السواتر بشحذ الهمم وشد العزيمة، لذا تعد (عليها السلام) من القادة الحقيقيين في قضية مأساة كربلاء.

لقد تميزت السيدة الحوراء بان لها لسان ابيها الامام علي (عليه السلام)، فقد قال بشر بن خزيم الاسدي :" نظرت الى زينب بنت علي يومئذ فلم ارى حفرة انطق منها كأنها تفرغ عن لسان امير المؤمنين"، وعندما نظرت (عليها السلام) الى قاتل اخوها متربع على عرش السلطة ويتحدث بسفاهة قامت (عليها السلام) فصكت مسامعه بخطبتها :"  أمِن العدلِ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ ؟ حْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف.." يمكن القول ان بكلماتها قلبت اجتماع النشوة في مجلس يزيد الى فضيحة ، فالقصر الذي كان يزهو بزينة النصر قد ضج بالبكاء والنحيب على سبط النبي الاكرم الامام الحسين (عليه السلام) .

هذا على الصعيد الجهادي اما على الصعيد الفكري، فقد أخذت على عاتقها الاهتمام بالدراسات الدينية، لفهم تعاليم الدين، ولتنعم برواية أحاديث النبي الاكرم (صلى الله عليه واله)، حيث تعد من النساء اللاتي حملن لواء الحركة الفكرية في المجتمع الاسلامي، فقد عرفت (عليها السلام) من خلال امها فاطمة الزهراء وابيها علي المرتضى (عليه السلام) الدين وحقيقته، فأفنت ذاتها فيه، وأدركت ان الانبياء والأوصياء (عليهم السلام) بعثوا ليقروا دساتير روحية، بها يتكامل الانسان ويخرج من اثر الجهل والوحشية فيكون انساناً كاملاً .

وان جهدها المتواصل في طلب العلم ونشره قد جعلها من كبريات رواة الحديث في القرن الأوّل الهجري، فقد روت أحاديث عن الإمام علي والسيّدة فاطمة الزهراء والإمامين الحسن والحسين(عليهم السلام)، ولمّا كانت في الكوفة مع ابيها امير المؤمنين (عليه السلام) كان لها مجلس خاصّ تزدحم عليها النساء، فكانت تلقي عليهنَّ دروس في علوم الحديث وتفسير القرآن والاخلاق والعقائد، فكنّ يأخذنَ منها أحكام الدّين وتعاليمه وآدابه، وفي الوقت نفسه كانت تنوب عن أخيها الإمام الحسين (عليه السّلام) في حال غيابه، فيرجع إليها المسلمون في المسائل الشرعيَّة .

وتشير المصادر التاريخية أنّ ابن عباس كان يسألها عن بعض المسائل التي لا يهتدي لحلّها، وكان يعتزّ بالرواية عنها، ويقول: "حدّثتنا عقيلتنا زينب بنت عليّ" ، وقد نابت عن ابن أخيها الإمام علي بن الحسين (عليه السّلام) في أيام مرضه، فكانت تجيب عمّا يرد عليه من المسائل الشرعيَّة، وقد قال (عليه السّلام) في حقّها: "إنّها عالمة غير معلّمة"، وإلى جانب علمها بالتفسير والحديث والفقه، فهي عالمة وعلى مستوى عالٍ بالطب، والشعر وعلوم اخرى، فهي عالمة غير معلمة.  

ونستنتج من ذلك ان التراث الاسلامي شهد حضوراً كبيراً لمكانة المرأة، فتأثر بالقرآن الكريم وتشريعاته، التي اعطت للمرأة حقوقها وجعلتها موضع رعاية، بعد ان رفعها من المهانة الى مكانة الانسان المعدود في ذرية آدم وحواء(عليهما السلام)، بريئة من سمة الانحطاط والدونية التي لحقت بها .

وكما علينا أن نفهم السيدة زينب الحوراء (عليه السلام) في فكرها وثقافتها وحركتها، وأن نبحث وندرس خطبتها الغراء في مجلس يزيد بن معاوية ، فلعلّنا نجد في السيدة زينب أمَّها فاطمة المظلومة (عليها السلام) في دفاعها عن الحقّ الذي غاب عن الأذهان ، حيث عملت على ابراز قضيّة اخيها الحسين في أرسى قواعد الحكم الإسلاميّ رافضة سلطة الباطل والطّغاة و سلطة الضّعف والخوف، ولا يمكن أن تطوى أو يُصرف النّظر عنها تحت أيّ اعتبار.. وكما ان السيّدة (عليها السلام) تدعو نساء الكون إلى أن يقفن موقف قوة الحقّ في كلّ ساحات الحياة، وأن يدرسن تجربتها الَّتي كانت ولا تزال تجربة المرأة الرساليَّة في وعيها وحكمتها وتحمّلها للمسؤوليَّات الكبيرة.

جعفر رمضان

 

[1] سورة النساء ، الآية 42.

[2] محسن بن عبد الكريم الحسيني الامين، اعيان الشيعة ، تحقيق : السيد حسن الامين ، (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي  دار التعارف للمطبوعات،1406هـ)، ج7، ص137.

[3]محمد حسين الحسيني ، مهرس التراث، تحقيق: محمد جواد الحسيني،(الكويت: دار الولاء، 2015)، ص22-23.

[4]محمد الحسيني الشيرازي، السيدة زينب عالمة غير معلمة، (بيروت: دار المؤمل للطباعة،2013)،ص26.

المرفقات