موقف الامام جعفر الصادق من بيعة محمد بن عبد الله النفس الزكية

ان ما يهمنا هنا توضيح علاقة الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) بمحمد بن عبد الله وادعائه الخلافة. ويمكن القول ان رؤية الامام (عليه السلام) كانت تتميز عن الرؤى الأخرى بأنها تسعى لإعطاء الإمامة قيمة مضافة تربطها بالتقدير الإلهي، ومن هنا كان إصراره (عليه السلام) على سمتي العصمة والعلم الضرورتين في شخص الإمام، واللتين هما هبة إلهية وليستا اكتساباً، وفي المقابل فان محمد بن عبد الله أكد الجانب الدنيوي من الإمامة النسب والوراثة والأفضلية، وهناك بعض الإشارات إلى التقدير الإلهي الذي نجده في بعض النصوص المنسوبة إليه، ولكنها لا تمثل الأولوية في الخطاب السياسي له([1])، ولكن لابد ان نفرق بين الأطروحة السياسية التي قدمها الامام (عليه السلام) والظروف السياسية التي واجهته واضطرته إلى اتخاذ ردود أفعال مناسبة، كان من الصعب على الامام ان يتغاضى عن مساوئ الحكم العباسي، ولابد انه شعر بعمق المسؤولية فيما لو وقف ضد ثورة محمد بن عبد الله وهو يعد الناس بإعادة الخلافة إلى سابق عهدها وإزالة الظلم([2]).

وهذا الأمر انعكس في الصورة المضطربة في النصوص التي حاولت تصوير موقف الامام الصادق من ثورة آل عبد الله بن الحسن فبين المسؤولية الشرعية في الوقوف ضد الحاكم الجائر، وخطر مسؤولية إمامة المسلمين وشروطها الشرعية([3])، وقف الامام (عليه السلام) موقفا وسطا عندما قرر الابتعاد بنفسه إلى إحدى ضياعه بعيدا عن المدينة وليظهر التزامه بمبدأ الوقوف ضد السلطان الجائر ([4]

نرى هنا من الضروري الإشارة إلى مسألة مهمة حازت على الكثير من الجدل التاريخي تتعلق بصلة الامام الصادق والأئمة من نسله بالثورات التي قادها أبناء عمومتهم الحسنيين، وحقيقة دقة الطرح المبني على سياسة المسالمة والمداراة التي تنسب الى جعفر الصادق ([5]). لقد واجه الامام (عليه السلام) تحديات خطيرة على المستوى العقائدي، مع تزامن عصره مع بداية انطلاق المعرفة الدينية بعنوانها الفقهي والأصولي والتحديات التي فرضتها ظهور تيارات إسلامية متنوعة تقدم تفاسير خاصة بها للشريعة الإسلامية، فكان التصدي لتقديم تفسير مقابل، مبني على تراث النبي الذي توارثه آل البيت (عليهم السلام)، هو واجب فرضته بقوة طبيعة الرؤية الإمامية، وكذلك على مستوى الحفاظ على القاعدة التي بدأها أبوه الامام محمد الباقر (عليه السلام)، وحمايتها من التشتت والتبعثر في أطر مختلفة استجدت في عصره، فضلا عن محاولة توسيعها وتطوير فكرة الامامة لتجيب عن مستجدات عصره الخطيرة([6]). هذه التحديات كانت ذات ثقل كبير في تغيير ميزان القرار السياسي عند الامامان جعفر الصادق وموسى الكاظم (عليهما السلام)، ونعني بذلك أن الأئمة تعاملوا بعقلانية وواقعية مع ظروف عصرهم، وفرت التقية غطاءه الشرعي، وهذا يعني أيضاً أنهم قدموا بالأولوية مسألة الحفاظ على القاعدة الشيعية الموالية لهم على المجازفة بها بمغامرة سياسية غير محسوبة، تحت ولاية غير شرعية.

أعلن محمد بن عبد الله النفس الزكية نفسه الامير وتلقب بالمهدي ولكن أمره لم يدم طويلاً الا الشهرين تقريباً، وكان محتما ان تلقى ثورته في المدينة فشلا ذريعا، فلم تكن مقدرات الصمود متوافرة في هذا المكان، ولم يجد موسى بن عيسى قائد الجيش العباسي الذي أرسله أبو جعفر المنصور لقتال محمد بن عبد الله، مقاومة كبيرة لتنتهي المعركة بمقتل الأخير وعدد كبير من أتباعه([7]).

وهذا الانتصار السريع عزز موقف أبي جعفر المنصور في مواجهة خطر اكبر ثورة وهي ثورة إبراهيم بن عبد الله في البصرة، إذ أصبح ممكنا توجيه عيسى بن موسى وجيشه المنتصر سريعا نحو العراق لينظم إلى قطعات الجيش العباسي في مواجهة ثورة إبراهيم بن عبد الله في البصرة، وكانت أعظم خطراً على الخلافة العباسية([8]).

كانت موقعة باخمرى، المعركة الفاصلة والتي أنتهت بهزيمة إبراهيم ومقتله، ومن ثم النهاية السريعة لثورته في السنة نفسها 145هـ/763م([9])، تورد عدد من المصادر روايات تأخذ على محمد بن عبد الله وإبراهيم واخيه قلة خبرتهم العسكرية وتشبثهم بآرائهم المبنية على التقوى والأخلاق، وان ذلك كان سبب الهزيمة([10]).

ان هذه الروايات تدخل في إطار التعليل أكثر منها في إطار رواية الحدث، وهي بالتالي متأخرة عن الحدث وقد وردت في المصادر الموالية لأنها تتضمن تعليلاً للفشل على أساس التقوى والإيمان التي يتحلى بها محمد ابن عبد الله واخيه أي أنها تأتي في مدار المدح وليس الذم.

أظهرت الروايات التاريخية تحكم بعض أتباع إبراهيم بخطط المواجهة ما يعني وجود اختلاف في جنده، وكان ذلك أوضح عند أهل الكوفة والزيدية ما عرقل خططه في مفاجأة الجيش العباسي، وبالتالي انتهى الأمر إلى مواجهة مباشرة لم يكن جيش إبراهيم المكون من أهل البصرة والكوفة الذين تختلف مشاربهم الفكرية وأهدافهم من الثورة، ليكونوا نداً لجيش قد أحترف الحياة العسكرية وفنونها ويحمل عنوان الشرعية وإن ظاهرياً([11]). لقد حاول العديد من المؤرخين تفسير أسباب فشل الثورة باعتماد جملة روايات تاريخية ولكن اغلب هذه الأسباب ترتبط بالمواجهة مع الجيش العباسي فهي تتناول معركة وليس صراعاً، أن فشل الثورة يرتبط بعدم التكافؤ في القوى أكثر منه بـ(التكتيك) العسكري، وهو فشل سيستمر لان ميزان القوة لن يتغير، ولن نشاهد تبدلاً فيه حتى تنقطع صلة العباسيين بخراسان نهاية القرن الثالث الهجري ليصبحوا محكومين بقوى عسكرية بديلة للجند الخراساني وتصبح مقاومة المعارضة العلوية مهمة أولئك([12]).

إن فشل ثورة محمد بن عبد الله واخيه إبراهيم قد جرت معها حقبة جديدة من المطاردة والتضييق والسجن تعرض لها معظم أفراد البيت الطالبي والمدينة بعامةٍ([13])، وهذا السلوك والإجراءات القاسية في التعامل مع العلويين، التي اتبعها المنصور قبيل الثورة وبعدها سيصبح سمة للسياسة العباسية تجاه البيت العلوي مستقبلاً([14])، ومن هذا المنطلق وضع أبو جعفر المنصور عقوبات على المدينة فحرمها ميرة مصر وعاقب عدداً من أهلها فصادر أموالهم([15])، وواجه عدد كبير من العلويين المطاردة والسجن واستمرت الدولة العباسية في هذا السياسة بنشاط ملحوظ مدة حكم أبي جعفر المنصور الباقية (145-158هـ/763-775م) ثم أخذت شكلا أكثر هدوءا واقل توترا مع مجيء المهدي للحكم (158-169هـ/775-785م)([16]). ان ثورتي محمد بن عبد الله واخيه إبراهيم كانتا بمثابة اعلان لنهاية وحدة البيت الهاشمي، ومنذ ذلك الوقت نرى ان الخلفاء العباسيين ستلازمهم صفة الشك وانعدام الثقة بأبناء عمومتهم، في المقابل فأن الطالبيين يرون في العباسيين أعداءً لا يختلفون عن الأمويين إن لم يكونوا أسوء منهم، لأنهم اقرب منهم إليهم ([17]).

وكان أثر ثورة محمد بن عبد الله في المدينة واخيه إبراهيم في البصرة، شديدا على البيت الطالبي بل عم المدينة؛ وقاد ولاة المدينة - الذين تولوها بعد القضاء على الثورة – حملة قاسية ضد كل من خرج مع محمد ابن عبد الله، وبدا ان مرحلة تاريخية قاسية ابتدأت بالنسبة لأهل المدينة بعامةٍ، والبيت آل أبي طالب على وجه التحديد ولم يفلت منها حتى الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهذه الاجراءات عمت البصرة أيضا، القاعدة الثانية للثورة الحسنية([18]).

     الباحث الاكاديمي

الدكتور نذير صبار عبد الله

 

([1]) هذه الاشارات هي ما تعبر عنه النبوءات حول مهدوية محمد بن عبد الله العلوي والعباسي انظر، أنساب الاشراف، ج4 ، ص 73، 182.

([2]) كانت الدعاية لمحمد بن عبد الله واسعة، وخطابه الاول كان يعد بالكثير لاهل المدينة، الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص558؛ فاروق عمر، العباسيون الاوائل، ج1، 196-197 ؛ الليثي، جهاد الشيعة، ص126 وما بعدها.

([3]) الرواية الزيدية تظهر دعم جعفر الصادق لثورة محمد ولكنها تتجاهل، هل بايع له ام لا؟ اما الرواية الامامية فتذكر وجود صدام بين الاثنين حول البيعة، انظر الاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص183. والرواية الامامية في المصادر التالية، الصفار، بصائر الدرجات، ص173، 188-189، 195 ؛ الكليني، الكافي، ج1، ص358-366 (رواية غريبة بطولها ومصدرها وتفردها ببعض التفاصيل، فهي ذات توجه امامي رغم انها وردت على لسان موسى بن عبد الله بن الحسن المحض، في اسناد امامي).

([4]) الصفار، بصائر الدرجات، ص195؛ الاربلي، كشف الغمة في معرفة الائمة، ج2، ص374.

([5]) وهذا الموضوع سنتناوله بكثير من التفصيل في الفصل اللاحق.

([6]) سنتناول ذلك موسعاً في الفصل الرابع، ص 252 وما بعدها.

([7]) ان التفاصيل المتوفرة حول المعركة تظهر عدم التكافؤ في القوى، وفي التنظيم العسكري، وهذا الوصف يختصر جملة عوامل كانت السبب في فشل ثورة محمد بن عبد الله في المدينة، افضل المصادر واكثرها تفصيلا حول ثورة محمد بن عبد الله هو ما جمعه الطبري في تاريخه معتمداً رواية عمر بن شبة، الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص563 وما بعدها؛ والاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص171-183.

([8]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص638-639، 641-644 ؛ الاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص222.

([9]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص643-648 ؛ الاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص206 وما بعدها.

([10]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص580-582، 642-644 ؛ الاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص176، 215-216، 222.

([11]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص 642 – 646؛ الاصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص222.

(2) أنظر تفاسير مختلفة لفشل ثورة ابراهيم في البصرة وثورة اخيه قبله، فاروق عمر، العباسيون الاوائل، ج1، ص 202 ؛ الليثي، جهاد الشيعة، ص 166 – 187 .

([13]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص598-614 (وأحد نتائج سياسة العقاب الجماعي وسوء تصرف الجند الخراساني في المدينة، وثوب السودان فيها عليهم)، المصدر نفسه، ص655-656 (الاجراءات العقابية في من خرج مع ابراهيم في البصرة).

([14]) هذا ما سنراه يتكرر مع ثورة الحسين بن علي صاحب فخ لاحقا، ص194.

([15]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص577-578 (ميرة الشام)، ص620-631 (ميرة مصر)، وفيها ما يدل على ان قطع الامدادات عن الحرمين بدأت فور ثورة محمد بن عبد الله، بينما في رواية اخرى ان قطع الامدادات كان بعد مقتل محمد بن عبد الله، المصدر نفسه، ص603.

([16]) انظر الفصل الثاني، ص144.

([17]) يمكن ان نرى ذلك في الرسائل المتبادلة بين محمد بن عبد الله وابي جعفر المنصور، وفيها يبتدأ الأخير الرؤية السياسية للعباسيين بتأييده حق العباس بن عبد المطلب وافضليته على علي بن ابي طالب، وهو الاساس الذي سيبني عليه المهدي اطروحة الامامة العباسية، بينما سيرى العلويون فيهم اناساً مغتصبين للخلافة، الطبري, تاريخ الطبري, ج7 ص 565- 571.

([18]) الطبري، تاريخ الطبري، ج7، ص600-614.

المرفقات