السيدة الرّباب بنت امرئ القيس ... رمز الوفاء

لقد كان للنساء دور عظيم في نصر ثورات الحقّ وترشيدها على مرّ العصور، فما زالت المرأة منذ أن وضع نبيّنا آدم عليه السلام قدميه على هذه المعمورة، وليومنا هذا .تشاطرُ الرجلَ في كثير من حركاته السياسية والاجتماعية وما شاكلها، بقدر ما تستطيع أن تقدّمه على أرض الواقع؛ ومن تلك الثورات العظيمة التي كان للمرأة دور بارز ومصيري فيها هي ثورة كربلاء، التي أجّج شعلتها الإمام الحسين (عليه السلام)، لتبقى مناراً لكلّ البشرية على مرّ الزمن.

 ومن بين العناصر النسوية التي كان لها دور عظيم في كربلاء هي زوجة قائد تلك الثورة، السيدة الرباب بنت امرئ القيس الكلبية، المرأة التي جسّدت بحضورها في كربلاء الكثير من القيم الإنسانية، كالصبر والتضحية والفداء، لكنّ أكثر ما تجلّى في تلك الشخصية هو مبدأ الوفاء، وها نحن نتطرّق لشخصية تلك السيدة الجليلة، مع تسليط الضوء على ما امتازت به من تجسيد لتلك القيم الإنسانية العظيمة.

اختاروا لنطفكم

الزواج من السنن التي دعَت لها الشريعة الإسلامية، بل أكّدت عليها كثيراً، لكن بشرطها وشروطها؛ ومن الشروط الأساسية والمهمّة التي عنونتها رسالة الإسلام هو اختيار الزوجة من نسب أصيل، فقد جاء على لسان نبيّ الرحمة (صلى الله عليه وآله): "اختاروا لنطفكم" [1]، وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضاً: "أنْكِحُوا الأَكْفَاءَ وانْكِحُوا فِيهِمْ، واخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ"[2]؛ إذ لا شك في أنّ الوراثة من العوامل التي تؤدّي دورها الكبير في شخصية الفرد وتكوينه، وهذا ما أثبتته تجربة الإنسان على مرّ العصور.

وقد درجت سنّة المعصومين عليهم السلام على ذلك، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لأخيه عقيل: "اُنظر إلى امرأةٍ قد وَلَدتها الفحولةُ من العرب"[3]، فأرشده إلى السيدة أُمّ البنين الكلابية؛ لشجاعة آبائها، وكذا الحال في السيدة الرباب (سلام الله علیها) ، لمّا جاء أبوها إلى المدينة المنوّرة في عهد الخليفة الثاني، بادر الإمام علي عليه السلام إلى خطبة بناته[4]؛ وذلك لما كان يعرفه عليه السلام عن تلك القبيلة وعن تلك الأُسرة بالذات.

امرؤ القيس بن عدي الكلبي، أبو الرباب ، الرجل الذي وُلِّيَ على مسلمي قضاعة فور دخوله الإسلام، والذي زوَّج بناته الثلاثة بأمير المؤمنين ونجليه عليهم السلام، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على بصيرة ذلك الرجل في تشخيصه لصاحب الحقّ، والأهل، والكفؤ.

وقد ذكرت كتب التاريخ ذلك الموقف، حيث جاء امرؤ القيس في أيام خلافة عمر، فعرّف نفسه بأنه امرؤ نصراني، وأنّ اسمه امرؤ القيس بن عدي الكلبي، فلم يعرفه عمر، فقال له رجل: هذا صاحب بكر بن وائل الذي أغار عليهم في الجاهلية، قال: فما تريد؟ قال: أُريد الإسلام، فعرضه عليه، فقبله، ثمّ دعا له برمح، فعقد له على مَن أسلم من قضاعة، فأدبر الشيخ واللواء يهتزّ على رأسه؛ حتّى قال الراوي من شدّة تعجبه: ما رأيت رجلاً لم يصلّ صلاة أُمِّر على جماعة من المسلمين قبله؛ ثمّ يذكر الراوي أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) قد نهض آنذاك ومعه ابناه عليما السلام حتّى أدركه، فقال له: أنا علي بن أبي طالب، ابن عمّ النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهذان ابناي من ابنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. قال: قد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرئ القيس، وأنكحتك يا حسن سلمى بنت امرئ القيس، وأنكحتك يا حسين الرباب بنت امرئ القيس[5].

كما عُرف عن قبيلة الرباب أي القبيلة الكلابية أنّها من القبائل الأصيلة، التي يشهد التاريخ لمواقف أبطالها، فمنهم مَن سبق للإسلام كالصحابي الجليل زيد بن حارثة الكلبي، الشهيد القائد في غزوة مؤتة[6]، والصحابي دحية بن خليفة الكلبي[7]، المبعوث من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قيصر الروم[8]، ومنهم مَن يشهد التاريخ لمواقفه البطولية الشهمة، كما جاء عن موقفهم تجاه نصرة الإمام علي (عليه السلام) وأتباعه، وذلك حينما أغار الضحّاك بن قيس على أهل العراق، وقتل مَن قتل، ونهب ما نهب، ولم تسلم منه حتّى قوافل الحجيج، فدعا الإمام عليه السلام آنذاك أهل الكوفة للخروج مع عمرو بن عميس، لكنّهم تقاعدوا عنه، ولم يجِبه إلّا النزر القليل، فعقد لحجر بن عدي الكندي على جيش سار به حتّى مرّ بالسماوة وهي أرض كلب فلقي فيها امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي وهم أصهار الحسين عليه السلام فكانوا أدلّاء حجر بن عدي على طريقه وعلى المياه[9]، وليس ذلك إلّا موقفاً مسجّلاً في تاريخ الحقّ والباطل، وما الحياة إلّا مواقف. 

فعندما تكون العائلة هكذا فلا عجب إذن أن تبرز منها سيدة فاضلة كالرباب، لتسجّل مواقفها الشهمة من تشخيص الحق، والولاء المطلق لإمام العصر (عليه السلام)، والسير معه رغم كلّ المخاطر المنبثقة من إرهاصات ذلك السفر نحو الكرب والبلاء.

وأنا اخترتك

عندما يكون الهدف عظيماً كعظمة كربلاء، وعندما يكون المسيرُ ذاتَ الشوكة كمسير كربلاء، سوف يكون القائدُ لمثل هذه المهمّة الصعبة صفوةً مختارة كسيد الشهداء عليه السلام، وسوف يكون أنصارُه (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)[10] ؛ لأجل أن يتحقّق الغرض، وإلّا انتقض.

والسيدة الرباب من المصطفيات المختارات لصحبة الإمام الحسين (عليه السلام)، لتحمل وسام أُمّ الشهيد، وزوجة الشهيد، وليقترن اسمها بثورة الطف العظيمة، فالاصطفاء من المفاهيم القرآنية التي تؤكّد لنا أنّ هناك عناصرَ بشرية قد سمت أرواحها بالمعرفة والإيمان والسلوك الحسن؛ لأجل أن تتقبل فيض الاصطفاء والاختيار الإلهي، فكانت زوجة السبط الشهيد من تلكم الثلّة المصطفاة؛ تلك السيدة التي غبنها التاريخ في ذكر فضائلها، لكنّه ما وجد بدّاً من أن يذكر كلمات مفتاحية تجعلنا نفهم القصّة إلى آخرها، ونطّلع على جوانب بطلتها الرباب بنت امرئ القيس الكلبية.

أجل، لم يذكر التاريخ إلّا اليسير، لكنّه جمع كلّ الفضائل بعبارة واحدة: "كانت الرّباب من خيار النساء وأفضلهنّ"[11]، أفضلهنّ في الطاعة والولاء، في العفّة والحياء، في الصبر على كلّ المصائب والبلاء، وغير ذلك ممّا تحتويه فضليات النساء من شمائل وسجايا كمالية، وهذا هو الأمر الذي دعا الإمام الحسين (عليه السلام) لأن يصطحبها معه إلى حيث رسالة كربلاء العظيمة، التي رُصِّعت ببصمات النساء المسبيّات، بما فيهنّ رباب الحسين (عليه السلام)، لتكون مصداقاً لقوله (جلّ وعلا): (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ)[12]؛ إذ لا شك أنّ من حضر ركب الحسين (عليه السلام) كان ممّن اختاره الله تعالى، فكانت الرباب من المختارين لتحمّل هذه المسؤولية، لتستمع لوحي الحسين عليه السلام حيث يقول: "إنّ الله قدْ شاءَ أنْ يراهنّ سبايا"[13].

قرّة أعين

سطّر الوحي المبارك في أغلى دفّتين عُرفت في تاريخ البشرية هذا الدعاء المبارك لعباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[14] ؛ إذ إنّ من صفاتهم، بل وصفات كلّ الأنبياء والمرسلين، الاهتمام بالأُسرة وصلاحها، ولذا نقرأ ما ورد في أدعيتهم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)[15]، فيُستجاب دعاؤه الذي أكّده نبي الرحمة بقوله: "أنا دعوة إبراهيم"[16]، ونكون نحن أُمّة مسلمة ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)[17]، وقد استجاب الله تعالى لسيّد الشهداء (عليه السلام)، فكانت قرّة عينه الرباب خير الزوج، وخير الوعاء للذّرية الصالحة؛ أو ليس الوعاء ينضح بما فيه؟ وهذا ما جعل الإمام الحسين (عليه السلام) يقول[18]:

لعمركَ إنَّني لأُحبُّ داراً     تحلُّ بها سكينة والربابُ

أُحبُّهما وأبذل جلَّ مالي   وليس لعاذلٍ عندي عتابُ

أجل، إنّها سكينة، ذلك النور الذي انبثق من "الأصْلابِ الشَّامِخَةِ، وَالأَرحامِ المُطَهَّرَةِ"[19]، ليصبح من أنوار كربلاء الساطعة في العطاء، والعبادة، والسكون،  والمناجاة، والعفّة، والحياء، والبلاغة، والشجاعة، والصبر، والإيثار، وكلّ ما يمكن للقلم أن يكتب، وما للمفاهيم أن تحتوي. فالسيّدة سكينة (سلام الله علیها) مصداق متجسّد لكلّ ما تحمله مفاهيم الكمال الإنساني من قيم وسجايا صالحة، وكأنّها آية متحرّكة في الواقع الإنساني.

وعبد الله الرضيع، النور الآخر المصطفى من قبل الله تعالى، وهو في صغر سنّه، ليكون نبراساً ورمزاً من رموز كربلاء الخالدة، رمزاً لعطش أطفال الحسين (عليه السلام)، ورمزاً لاستشهاد براءة الطفولة، فكلّ شهداء كربلاء حتّى صغيرهم من أبناء الحسن (عليه السلام) قد حاولوا الدفاع عن أنفسهم، ولو بالشيء اليسير، إلّا رضيع الرباب (سلام الله علیها) ، فقد كان مستسلماً لوسام الشهادة، وأنّ كلّ شهداء كربلاء قد نووا الشهادة بأنفسهم، إلّا رضيع الرباب، فلقد نوى عنه أبوه سيّد الشهداء (عليه السلام)، ومَن أخلص نيّةً وأصفى قصداً منه (عليه السلام).

هذا كلّه يشير إلى أنّ ذلك الطفل قد اختير من قبل الله تعالى لأجل أن يكون من كوكبة شهداء كربلاء، ولأجل أن يُرفع دمه الطاهر إلى السماء، ويُدفن على يدٍ لم يُعرف منها إلّا الجود والسخاء والطهارة[20]، ليكون قبره أقرب قبر لسيّد الأحرار (عليه السلام)، وما ذلك إلّا للصلب الشامخ الذي انحدر منه ذلك الرضيع، والوعاء الطاهر الذي كان يحتضنه، واللّبن الزاكي الذي كان يشرب منه. وهكذا أصبحت الرباب وذرّيتها ( قُرَّةَ أَعْيُن) للإمام الحسين (عليه السلام) الذي كان (لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

فداكَ نفسي ومالي

عندما يكون الحديث عن دعم الزوجة لزوجها، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، تُعرِّج الأذهان إلى الكبرى خديجة (سلام الله علیها) ، تلك السيدة التي أسّست مدرسة الدعم المادي والمعنوي للزوج القائد، مهما بلغت الكلفة، حتّى سطّر الوحي المحمدي: "وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها"[21].

ولم تكن بنات خديجة (سلام الله علیها) بغافلات عن مدرسة أُمّهنّ، خاصةً إن كنّ من فُضليات نساء عصرهنّ، كما هي الرباب بنت امرئ القيس، حيث آزرت الإمام (عليه السلام) بمالها ونفسها، وإن كان ما يذكره التاريخ شيئاً يسيراً في هذا الخصوص.

فلقد اقترن اسم عقبة بن سمعان بالإمام الحسين (عليه السلام) أكثر ممّا اقترن باسم الرباب (سلام الله علیها)، في حين أنّه كان مولىً لها[22]، لكنّه كان في خدمة أبي عبد الله (عليه السلام) أكثر ممّا هو للرباب، حيث نقرأ في كتب التاريخ أنّ عقبة بن سمعان كان مرافقاً لسيّد الشهداء (عليه السلام) في مسيره إلى كربلاء، وهو الذي أخرج كتب أهل الكوفة التي دعوا فيها الإمام (عليه السلام) للمجيء، ونثرها بين يدي الحرّ الرياحي، وذلك بأمر من الإمام (عليه السلام)[23]؛ وهو الذي روى لنا الكثير من الوقائع فيما يرتبط بمسير الإمام (عليه السلام)، كاعتراض رسل عمرو بن سعيد بن العاص عليه (عليه السلام)[24]، قال عقبة: "قال صحبتُ حسيناً، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله، إلّا وقد سمعتها"[25]، فهو من الأحياء الذين بقوا من واقعة الطف، حيث خلّى عمر بن سعد سبيله لمّا علم أنّه عبد مملوك[26].

فلا نسيتُ حسيناً

"تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ"[27]، كلماتٌ عرفناها من سيّد الأوصياء (عليه السلام)، ولمسناها من خلال ممارساتنا في الحياة، فعندما يتكلّم الإنسان سوف يفصح عن هويته الثقافية والفنية وغيرها، شاء ذلك أم أبى، خاصّةً إن امتزج الكلام بالفصاحة والبلاغة، وتناسب مع مقتضىات الحال ومتطلّبات المقام، ليأخذ سبيله إلى القلوب، مثيراً فيها حسّ الرأفة والحنين، تاركاً تأثيره في النفوس، موقظاً فيها فداحة المصاب. تكلّمت الرباب (سلام الله علیها) بكلمات قلائل، لكنّها أزاحت الستار عن جوهرتها الثقافية، ليتجلّى في كلامها مدى الإجلال الذي تُقلّه لسيّد الشهداء (عليه السلام)، ومدى الحبّ الذي يحمله قلبها لذلك الإمام العظيم، وذلك من خلال أبيات شعرية نقشتها يد التاريخ: .

وَاحُسيْناً فَلا نَسيتُ حُسيْناً    أَقصَدَتْهُ أَسِنَّةُ الأَعْداءِ

غادَرُوهُ بِكَرْبلاءَ صَرِيعاً     لا سَقَى اللهُ جَانِبَيْ كَرْبَلاءِ

وليس بالعجب العجاب أن تكون الرباب شاعرة، وقد انحدرت من عائلة عريقة، عُرفت بالشعر والبلاغة العربية، فلقد كان فيها الشاعر المعمّر زهير بن جناب الكلبي، وأخوه مالك المعروف بالأصمّ[28].

أبرّ وأوفى

"أما بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً"[29]، حروف من فيض سيّد الأحرار (عليه السلام)، قالها في ليلة العاشر من المحرم عند أصحابه، ولعلّها تكرّرت على مسامعنا مرّات وكرّات، أُولئك الأصحاب الذين اتّصفوا بصفات عظيمة، شهد لها العدو قبل الصديق، فهم أهل البصائر، وفرسان المصر، وهم قوم مستميتون في التفاني[30]، قد وطّنوا أنفسهم على بذل المهج في سبيل ابن بنت نبيّهم (صلى الله عليه وآله) ورسالته وهدفه، لكن السؤال هنا: لماذا اختار الإمام عليه السلام وصف البرّ والوفاء لأصحابه وأهل بيته (بما فيهم الرباب سلام الله علیها ) يا ترى؟

وأوفوا بعهدي

الوفاء في اللغة: ضدّ الغَدْر، فوفى بعهده: إذا لم يغدر، ويدخل في الوفاء بالعهد النذر، وكلّما التزمه المكلّف من الأعمال، وتارةً يأتي بمعنى الإتمام والإعطاء، كما في قولنا: أوفى الحق، إذا أعطاه، وأوفى الكيل: إذا أتمّه، ويُقال: وفى ريشُ الجناح، إذا كثر، وعلى كلّ حال فالوفاء هو الخُلق الشريف العالي الرفيع[31]. أمّا في الاصطلاح: فـ "الوفاءُ مَلازَمَةُ طرِيقِ‏ المُواساةِ ومُحافَظَة عُهُودِ الخُلَطاء" [32]. ومن هنا؛ نرى أنّ الله تعالى قد وصف نفسه بالوفاء حيث قال: (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ)[33] ، فهو سبحانه الذي ينبغي أن يكون الأوفى بما للصيغة من معنى؛ لأنّ عدم الوفاء بالعهد أو بالوعد أو بغيرهما ناتج إمّا عن عجز، أو جهل، أو حاجة، والبارئ سبحانه منزّه عن هذه الأُمور تماماً[34].

 كما دعا سبحانه عباده للامتثال لكلّ أنواع الوفاء، سواء الوفاء بالعهد، أو بالعقد، أو بالوعد، وما شابه ذلك، حيث قال (جلّ وعلا) في قرآنه الحكيم: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)[35] ، أو (مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ )[36] ؛ وذلك لأنّ الوفاء بكلّ أقسامه من الأُمور الأساسية التي يرتكز عليها كيان المجتمع، ومن العوامل التي تساعد على ديمومة الحياة بكلّ نواحيها.

ومن هذا المنطلق نجد الأنبياء والأوّلياء عليهم السلام بأجمعهم من الممتثلين لهذا الأمر التربوي والاجتماعي، الذي أمر الله تعالى به وأكّده، سواء على مستوى الوفاء لله تعالى في دائرة الالتزامات الشرعية والأوامر الإلهية، كما في النبي إبراهيم (عليه السلام) (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ)[37]، أو الوفاء لعباده في دائرة العلاقات الاجتماعية، كما في النبي إسماعيل (عليه السلام) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)[38]، وإنّ الوفاء لعباد الله هو نفسه الوفاء لله تعالى في العهد الذي أخذه من بني آدم على العموم، ومن الأنبياء (عليهم السلام) على الخصوص، فما هو ذلك العهد يا ترى؟ وهل كانت الرباب سلام الله علیها  من الموفين به؟

والموفونَ بعهدِهم

تشير بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة إلى أنّ هناك عهداً فطرياً قد أخذه الله تعالى من بني البشر جميعاً، ويُقال عنه: إنّه قد تمّ في عالم الذرّ[39]، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ  شَهِدْنَا )[40]، حيث شهد جميع البشر بحكم فطرتهم وخلقهم على ميثاق الربوبية له تعالى، وأُشهدوا على أنفسهم أن يؤدّوا هذا الميثاق إذا سُئلوا عنه[41]، بأنّه تعالى هو الربّ الغني، وأنّهم الفقراء إليه، رغم كلّ النعم التي منحها لهم، من استعدادات فطرية، كالعقل والإدراك، ومعرفة الحق وما يتبعه، وهو الميثاق الذي يشير إليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ‏ فِطْرَتِهِ‏)[42]، أي: ليطلب منهم أداء الميثاق الفطري الذي أُخذ منهم، والوفاء به، وهناك الكثير من الآيات التي تُشير إلى هذا الميثاق، سواء على المستوى العام من البشر بأجمعهم، أو المسلمين خاصّة، بما أنعم الله عليهم من الإسلام والإيمان، كما في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[46].

ومن البديهي أن يشمل هذا العهد الواسع جميع المسائل والأحكام الدينية، ولا مانع مطلقاً من أن تكون في الآية السابقة إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها اللّه تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين بمقتضى فطرتهم، وبمقتضى ما شرّع لهم في مراحل مختلفة، بما في ذلك ميثاق الولاية، وعهدها الذي أخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين في حجّة الوداع بخصوص علي بن أبي طالب وأبنائه عليهم السلام[43]، لأنّ مسألة قيادة الأُمّة وخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهمّ المشاريع التي يجب التأكيد عليها بأخذ العهد والميثاق؛ لما لها من ارتباط وثيق بعقيدة التوحيد التي من أجلها بُعث الرسل.

إضافة إلى أنّ العهود التي تتفرّع من العهد الإلهي ليست بالشيء اليسير من حيث الأهمّية والمقام، فعندما أمر الله تعالى المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[44] ، قد استوعب (سبحانه) بقوله هذا كلّ العهود والمواثيق والعقود التي يزاولها الناس فيما بينهم[45]، خاصّةً أنّ الآية الكريمة فيها إطلاق تامّ؛ الأمر الذي يجعلنا نعتبرها دليلاً على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تُعقد بين أبناء البشر، أو تلك العقود التي تعقد مع الله سبحانه عقداً محكماً[46].

ومن هذا المنطلق، كان الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين الصالحين، أصحاب البرّ والتقوى، قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ  أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[47] ، فإنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين البرّ والتقوى وبين الوفاء، فقد بيّن (سبحانه) في هذه الآية أنّ الوفاء من أُسس البرّ؛ إذ إنّ البرّ هو التوسّع في الخير والإحسان، ومفهوم الخير يشمل كلّ المصاديق التي يرتضيها الله سبحانه، والتي أشارت إليها الآية المباركة، وبيّنت حقيقة الأبرار، من الاعتقاد والعمل والأخلاق، وما ذلك إلّا للتأكيد على أنّ أُسس البرّ إنّما تتوفّر في المتّقين من الناس.

رباب الوفاء

بعد أن عرفنا ما هي أهمّية الوفاء، ومَن هم المتصفون به، نُعرّج على رمز الوفاء، رباب الخير والعطاء، لنعرف كيف استطاعت تلك السيدة الكريمة أن تجسّد هذه القيمة الإنسانية في حياتها مع القائد الحسين بن علي عليما السلام، وفي أقسى مراحل مرّت بها المسيرة البشرية، ألا وهي مراحل ثورة كربلاء العظيمة، بكلّ ما فيها من مصائب ورزايا.

الوفاء الأوّل

 إنّ أوّل وفاء كان من الرباب في مسيرة كربلاء هو تلبيتها لدعوة الحقّ تعالى، والثبات على ذلك العهد الربّاني الذي واعدت به خالقها، من أن تكون على صراطه المستقيم، ناصرة للحق، رافعة لكلمة الله تعالى، صابرة محتسبة في طريق ذات الشوكة، مجسّدة لفكرة الإنسان المؤمن الذي يشعر بالمسؤولية في كلّ حركة في حياته؛ ليكون مرآة الله تعالى المتجلّية في هذا الكون، يبثّ الخير والصلاح، ويُترجم أسمى القيم الإلهية على أرض الواقع، منطلقاً من قاعدة الوفاء للعهد للرباني والمعرفة التوحيدية، ومتّكئاً على الإيمان القلبي الراسخ.

الوفاء الثاني

وفي طول ذلك الوفاء بالميثاق الإلهي، كان الوفاء من الرباب بميثاق الولاية وعهدها الذي وصّى به نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله ) ، ذلك الميثاق الذي تمثّل في الإمام علي وأبنائه (عليهم السلام) في أيّام حياة الرباب (رضوان الله عليها)، وقد تجلّى وفاؤها لهذا العهد بصورة أكبر قطراً وأكثر شعاعاً مع زوجها الإمام الحسين (عليه السلام)، ولعلّ هذا ما جعل الرباب تكون رباب كربلاء؛ فلا شكّ أنّ مَن تُخلص لولي الله يستخلصها الله لتكون من خاصّته، وهذا ما رأيناه في سيّدات نساء أهل الأرض والسماء، من آسية ومريم، ومن خديجة وفاطمة (سلام الله عليهنّ جميعاً)، حيث كُنّ الأُسوة في الولاء لحجج الله في زمانهنّ، الأمر الأعظم الذي جعلهنّ يرتقينَ لقمّة الاصطفاء الربّاني، فأولياء اللهِ وحُججه هم الميثاق الأكبر الذي أكّده تعالى لعباده، ولذا جاء في الزيارة: "السَّلامُ عَلَيْكَ يا مِيثاقِ الله الَّذِي أَخَذَهُ وَوَكَّدَهُ"[48].

الوفاء الثالث

ويمضي وفاء الرباب (سلام الله علیها) لعهد ربّها وأوليائه، ليتخذ سبيله في ساحة العلاقات الاجتماعية؛ إذ إنّ صدى الكلمات التي كانت تنبع من أولياء الله ما كانت لترحل عن أُذن الرباب أو ذاكرتها، فلم تكن الرباب ببعيدة عمّا يوصي به الإمامُ علي وأبناؤه (عليهم السلام) شيعتَهم، كقوله (عليه السلام):"فإنّه ليس من فرائض الله شي‏ء الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود"[49]؛ ولا شكّ في أنّ عهد الزواج[50] من العهود الاجتماعية المقدّسة التي أوصى الله تعالى بالوفاء بها؛ وذلك لما يترتب عليها من آثار عظيمة في بناء المجتمع الإنساني، وقوّة شوكته، خاصّةً إن كان الزوج قائداً متصدّياً لمسؤولية عظيمة، وحاملاً لرسالة تتوقّف عليها سعادة البشر أو شقاؤهم. ومن هنا؛ يؤكّد القرآن على شخصيات نساء القادة في التاريخ ومواقفهنّ، سواء على المستوى الإيجابي، كزوجات إبراهيم وموسى وعمران (عليهم السلام)، ليكنّ أُسوة، أو على المستوى السلبي، كزوجات نوح ولوط عليما السلام، ليكنّ عبرة؛ وذلك لأنّ أهمّ ما يترتّب على وفاء زوجة القائد ما يلي:

الذرّية التي تنتج من الزوجة الوفية لعهد الزواج المقدس؛ إذ إنّنا نرى أنّ ذرية الطائفة الأُولى من الزوجات الوفيات مصداق للخير والبركة (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ)[51]، ومن ذلك ما يذكره القرآن بشأن ذرّية زوجة عمران: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)[52]، وذرّية زوجة إبراهيم (عليه السلام): ( إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ )[53]، (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ )[54] ، بينما يقول تعالى في ذرية نوح عليه السلام: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ  إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)[55].

وقد أشرنا فيما سبق إلى ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) من الرباب ، حيث كانت مصداقاً آخراً لـ: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ)، ومصداقاً جلياً لـ: (قُرَّةَ أَعْيُن)؛ لأنّها جسّدَتْ أرقى معاني الوفاء لزوجها القائد الحسين (عليه السلام)، وتعهّدت بأن تُنجب له ذرية تكون مفخرة لأهل الدنيا والآخرة، كما كان الأب كذلك.

الأثرُ الاجتماعيّ الذي تتركه زوجة القائد في المجتمع، خاصّةً في اتّباع زوجها ونصرته، والتاريخ يشهد، وكتاب الله ينصّ على أنّ زوجة إبراهيم عليه السلام كانت أهلاً لتحقّق دعائه عليه السلام حين قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )[56] ، فقد كانت هي وذرّيتها مركزاً آخراً لنشر رسالة قائد الأُمّة إبراهيم (عليه السلام).

في حين كان حال نوح عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ) [57] ، ولا عجب في الأمر؛ إذ عندما تكون الزوجة غير وفية لزوجها، خائنة لرسالته[58]، ساخرة منه أمام الملأ[59]، فماذا يُنتظر ويُتوقّع من الآخرين إذن؟

وقد سجّلت الرباب أسمى مواقف الوفاء للقائد في هذا المجال، في قبولها لدعوة القائد، ومواكبتها لمسيره، واستقبالها للمصير المرسوم على أُفق الوحي، فلا عجب آنذاك إن رأينا (أُمّ وهب) تقدّم ابنها في سبيل الحسين عليه السلام، ولا عجب آنذاك إن رأينا (دلهم) تدفع بزوجها لنصرة أبي عبد الله عليه السلام؛ لأنّ زوجة قائد كربلاء السيدة الرباب (سلام الله علیها ) متصدرة للتضحية والفداء، مجسّدة لأغلى آيات الوفاء لزوجها القائد ولرسالته العظيمة.

الوفاء الرابع

لم يقتصر وفاء الزوجة لزوجها ولعهدهما المقدس على أيّام الحياة فحسب، بل إنّ الوفاء قيمة إنسانية خالدة لا يغيّرها الزمن كي تنتهي بعد الموت، خاصّةً عندما يكون الوفاء لقائد عظيم، ولرسالة خالدة على امتداد التاريخ.

فعندما يموت عمران (عليه السلام) لا يعني ذلك أنّ رسالته انتهت، وأنّ هدفه قد تلاشى، بل إنّ الرسالة وهدفها باقيان ما دام هناك أُناس أوفياء للعهد الذي قدّموه لصاحب تلك الرسالة، خصوصاً عندما تكون الزوجة هي المجسّد الأوّل للوفاء لذلك العهد، ولتحمّل المسؤولية التي وصّى بها القائد، وضحّى لها بالغالي والنفيس، وهذا ما وجدناه عند زوجات القادة الوفيّات، بما فيهنّ زوجة عمران (عليه السلام)، محل شاهدنا في هذه الأسطر، حيث تمضي بوفائها، فتنذر حملها لرسالة زوجها، وتربّي ابنتها الوحيدة خير تربية، وتتحمّل فراقها، وهي ترسلها للمعبد، كلّ ذلك وفاءً للرسالة التي دعا لها عمران النبي (عليه السلام)، وكانت نتيجة ذلك الوفاء هو أن تقدّم مريم قائداً آخر للبشرية، ألا وهو عيسى النبي عليه السلام. إنّ وفاء زوجة عمران لزوجها ورسالته حتّى بعد موته لخير أُسوة للنساء الوفيّات لأزواجهنّ حتّى بعد الممات.

أمّا رمز الوفاء في كربلاء، السيدة الرباب ، فلقد كان وفاؤها لزوجها الحسين (عليه السلام) بعد شهادته أعظم وأرقى معنى للوفاء، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من ثقل قيمي، تتحمّل مصائب كربلاء، من فقد الزوج والابن الرضيع، من حرق الخيام والفرار في صحراء كربلاء، من سبي على النياق الهزّل، الذلّة وضرب السياط، رؤية رأس الحسين (عليه السلام) وأصحابه على الأسنّة، مصائب الشام التي يصفها الإمام السجاد (عليه السلام) بأنّها أشدّ المصائب عليهم آنذاك[60]، إلى غير ذلك من المصائب التي مرّت على أهل بيت الوحي والرسالة بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي كانت الرباب حاضرة فيها، صابرة محتسبة، بل وأكثر من ذلك، مجسّدة لأروع صور الوفاء للزوج من بعد مماته، وذلك من خلال عدّة مواقف سجّلها التاريخ للرباب، منها:

وجْدُها الشديد على أبي عبد الله عليه السلام[61]، ونياحها عليه في مجلس يزيد، وإنشادها للشعر الرثائي، وهي تحتضن رأسه الشريف[62]، وما ذلك إلّا وفاءً لذلك الزوج القائد الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له إلّا ما ندر.  بكاؤها المستمر على الإمام الحسين عليه السلام ولمدّة طويلة، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لمّا قُتل الحسين عليه السلام أقامت امرأته الكلبية عليه مأتماً، وبكت وبكين النساء والخدم حتّى جفّت دموعهنّ"[63]، ولم تكتفِ رباب الوفاء بذلك، حتّى لو جفّت الدموع؛ إذ إنّ العيون ودموعها لترخص أمام سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام، فراحت الرباب سلام الله علیها  تأمر إحدى جواريها أن تصنع لها السويق لأجل أن تتقوّى على البكاء على سيّد الأحرار[64]؛ ولم يكن بكاء الرباب المستمرّ عبارة عن عواطف وأحاسيس مجرّدة، بل إنّ بكاء الرباب سلام الله علیها  كان يشير إلى عدّة أُمور، أهمّها: انّ المصيبة حينما تكون بعظمة مصائب كربلاء، يجب أن يكون النياح والبكاء عليها بما يتناسب وشأنها. إنّ فقد وليّ الله وحجّته، وتلك الصفوة الطاهرة من أنصاره، لمصيبة عظمى على البشرية، سواء المعاصرون لتلك المصيبة أو ما يليهم من الأجيال، فحجّة الله تعالى هو قطب الرحى لهذا الكون، وهو وجه الله الذي تتجلّى به كلّ تعاليم السماء، من توحيد وعدل وغير ذلك، فلا بدّ أن يكون البكاء عليه عظيماً لمَن يُدرك فداحة هذا الفقد كالرباب. إنّ رسالة ثورة كربلاء وقائدها يجب أن تُخلّد مهما بلغت التضحيات، ومهما تعدّدت الأساليب؛ لأنّ في خلودها خلود كلّ التعاليم الإلهية، وكلّ القيم الإنسانية، فانتصار الحقّ على الباطل في كربلاء أمر عامّ يشمل كلّ جوانب الحياة على كافّة المستويات، ولذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "كلّ ما لدينا هو من عاشوراء"[65]، أو طبقاً للمقولة المشهورة: "كلّ يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء"؛ ومن أهمّ السبل لبقاء عاشوراء في تلك الحقبة الزمنية التي عاشتها الرباب سلام الله علیها  من الضغط والاختناق السياسي، هي إقامة العزاء، والبكاء، وإظهار الحزن والجزع على سيّد الشهداء (عليه السلام).

وفي جميع هذه الأُمور يتجلّى وفاء الرباب سلام الله علیها  بشكل واضح لكلّ الأجيال، خاصّةً الجيل النسوي الرسالي.

الوفاء الخامس

والوفاء الآخر الذي قدّمته الرباب (سلام الله علیها) هو عدم زواجها بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، مع وجود الخاطبين لها من أشراف المدينة.

إنّنا بالطبع لا نخالف الزواج بعد موت الزوج؛ لأنّ الزواج من السنن المحبّذة في الإسلام، لكنّ عذر الرباب (سلام الله علیها ) من عدم الموافقة على ذلك كان موجباً للتأمّل، ومدعاة للتفكّر، حيث تنقل كتب التاريخ جوابها لخاطبيها: "ما كنت لأتّخذ حمواً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[66]، فهذا القول ليس بالشيء اليسير لمَن عنده لبّ.

أجل، إنّ سيدة الألباب أرادت أن ترسم لوحة الوفاء بكلّ ما تتطلّبه تلك اللوحة من مفاهيم؛ لأنّ الوفاء من أُولى صفات أُولي الألباب ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * لَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) [67]، فينبغي أن تجسّده الرباب بأفضل صورة ممكنة، حتّى إن وصل بها الحال أن لا تستظلّ بسقف بيت[68] إلّا ما ندر، فبعد أن صهرت الشمس جسد الحسين عليه السلام على رمضاء كربلاء كيف يتسنّى لرباب الوفاء أن تستظل بسقف يا تُرى؟

وهكذا تبقى رباب الخير تصبّ الدموع كما هو اسمها[69] ، وتتنفّس الآهات كما هو حنينها، حتّى تبلى وتموت كمداً[70] ، فالعهد مع الحسين (عليه السلام) ورسالته لتجدر به مواقف مثل هذه، وجزاء الوفاء للحسين عليه السلام ليستحقّ مثل هذه التضحيات، ذلك الجزاء الذي بيّنه سبحانه في كتابه لأوليائه: ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون)[71]

الباحثة . زهراء السالم

 

[1] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص332.

[2] المصدر السابق

[3] ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب: ص357.

[4] اُنظر: الثقفي الكوفي، إبراهيم بن محمد، الغارات: ج2، ص816.

[5] اُنظر: ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، الإصابة: ج1، ص355. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج69، ص119. أبو الفرج الإصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج16، ص361.

[6] اُنظر: ابن كثير، إسماعيل بن عمر، السيرة النبوية: ج4، ص623.

[7] الصحابي الذي كان جبرئيل عليه السلام ينزل بصورته على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اُنظر: الشيخ الصدوق، محمد ابن علي، الأمالي: ص426.

[8]  اُنظر: الشريف المرتضى، علي بن الحسين، رسائل الشريف المرتضى: ج1، ص30.

[9] اُنظر: الثقفي الكوفي، إبراهيم بن محمد، الغارات: ج2، ص426. ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة: ج2، ص118. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج34، ص31.

[10] ص: آية47.

[11] أبو الفرج الإصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج16، ص361.

[12] طه: آية13.

[13] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص40. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص364.

[14] الفرقان: آية74.

[15] البقرة: آية128.

[16] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج1، ص199.

[17] الحج: آية78.

[18] ابن الجوزي، عبد الرحمن، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص9.

[19] القمّي، عبـاس، مفاتيح الجنان: ص629..

[20] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص131.

[21] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص347.

[22] "فأتى بابنه عبـد الله ـ وأُمّه الرباب بنت امرئ القيس ـ فأخذه وأجلسه في حجره، وأومأ إليه ليقبّله، فرماه حرملةُ بن كاهل الأسدي بسهم، فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب سلام الله علیها : خُذيه. ثمّ تلقّى الدم بكفّيه، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: هوّن علَيّ ما نزل به أنّه بعين الله، ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهل بيته، وفي رواية: أنّه حفر له بجفن سيفه، ورمّله بدمه فدفنه". الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص609.

[23] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص131.

[24] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص347.

[25] اُنظر: النوري الطبرسي، حسين، خاتمة المستدرك: ج8، ص204. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص7.

[26]. اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص369.

[27] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص313. واُنظر: الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص257.

[28] الشيخ المفيد، محمّد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص91. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص392. كما ورد في محلّ آخر: "فإني لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوفى من أهل بيتي". البراقي، حسين بن أحمد، تاريخ الكوفة: ص468.

[29] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص331. شمس الدين، محمد مهدي، أنصار الحسين عليه السلام: ص186.

[30] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج15، ص399. الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين: ج1،ص446.

[31] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج20، ص300.

[32]  التوبة: آية111.

[33] اُنظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل: ج3، ص463.

[34]  البقرة: آية40.

[35] المائدة: آية5.

[36] النجم: آية37.

[37] مريم: آية54.

[38] اُنظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل: ج3، ص622.

[39] الأعراف: آية172.

[40]  اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج8، ص307.

[41] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج11، ص60.

[42] المائدة: آية7.

[43] ا نظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل: ج3، ص623.

[44] المائدة: آية1.

[45] لأنّ كلمة العقد في اللغة تعني شدّ أطراف شيء معيّن بعضها ببعض شداً محكماً، ومن هذا المنطلق المفهومي للكلمة يمكننا تسمية كلّ عهد أو ميثاق عقداً، وإن كان بعض المفسرين قد قالوا: إنّ كلمة (عقد) مفهوم أضيق من العهد؛ لأنّها تُطلق على العهود المحكمة إحكاما كافياً. اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج5، ص158.

[46] اُنظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل: ج1، ص571.      

[47] البقرة: آية177.

[48] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج3، ص316.

[49] الشريف الرضي، محمد بن الحسين، نهج البلاغة: ص442، من عهد له عليه السلام إلى مالك الأشتر.

[50] أو عقد الزواج، كما بينّا سابقاً تقاربهما. اُنظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل: ج‏3، ص572.

[51] الصافات: آية113. إذ المقصود هو البركة في ذرّية إبراهيم عليه السلام. اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج17، ص154.

[52] آل عمران: آية37.

[53] الحجر: آية 53.

[54] الصافات: آية101.

[55] هود: آية46.

[56] إبراهيم: آية37.

[57] نوح: آية5ـ 6.

[58]  إشارة إلى قوله تعالى: (فَخَانَتَاهُمَا)؛ إذ إنّ الخيانة هي مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ.

[59] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج‏10، ص64: وذكر رحمه الله أنّ ابن عباس قال: "كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به"

[60] اُنظر: سبهر، محمد تقي، ناسخ التواريخ: ص304.

[61] اُنظر: ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص210.

[62] اُنظر: الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص223.

[63] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص466.

[64]  اُنظر: المصدر السابق.

[65] مركز نون للتأليف والترجمة، سلسلة الفكر والنهج الخميني: المقدمة.

[66] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج69، ص120.

[67] الرعد: آية19ـ20.

[68] اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج69، ص130.

[69]  يُقال: أربّت السحابة بهذه البلدة: إذا دامت. وأرضٌ مربّ: لا يزال بها مطر، ولذلك سُمّي السحاب رباباً. اُنظر: مصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم: ج‏4، ص16.

[70] اُنظر: ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص88.

[71] الزخرف: آية70.

المرفقات