قصة امرأة عمران والسيدة مريم عليهما السلام-دراسة فنية-

تقول القصة:

قالت امرأة عمران:

ربِّ: اني نذرت لك ما في بطني محرراً. فتقبل مني، انك انت السميع العليم.

فلما وضعتها، قلت:

ربِّ، اني وضعتها انثى.

والله اعلم بما وضعت.

وليس الذكر كالانثى. واني سميتها (مريم). واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.

(فتقبلّها ربها بقبول حسنٍ...).

وفي ضوء هذا النص، مشفوعاً بالنصوص المفسرة، يمكننا أن نلخص قصة [امرأة عمران] على النحو التالي:

ثمة امرأة وإسمها: (حنّة)، تنتسب الى آل عمران وهم نفرٌ أشار القرآن الكريم إلى اصطفاء السماء اياهم، مع آدم ونوح وآل ابراهيم، بقوله تعالى: (ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين).

ومن خلال هذه الآية التي أعقبتها قصة امرأة عمران مباشرة، نستكشف طبيعة الوظيفة الفنية للعنصر القصصي في السورة، فيما جاءت في سياق اصطفاء الله لمجموعة تمثّل الصفوة البشرية في الاضطلاع بمهمة الخلافة على الارض، وايصال رسالة السماء إليها.

والمهم، انّ امرأة عمران وهي شخصية نسوية قُدّر لها أن تُساهم بنحو أو بآخر في ممارسة الوظيفة العبادية على الأرض، قد نذرت للسماء أن تُمحّض وليدها للخدمة في المسجد... ومجرد كونها تمارس موقف (النذر)، وتمحّض وليدها لممارسة الخدمة للمسجد، يفصح عن وعيها العبادي الحاد، وتقديرها لمسؤولية هذا العمل، وإدراكها لمهمة الكائن الانساني على الأرض: وليس مجرد كونه كائناً يدّب على الأرض، ويعمل لاشباع حاجاته الحيوية والنفسية.

وحين ننساق مع النصوص المفسرة لملاحظة خلفيّات الموقف، نجد انّ بعضها يُشير الى انّ الشخصية النسوية المذكورة، لم يتح لها الإنجاب حتى يئست من ذلك، مما حملها الى ان تدعو الله لان يرزقها ولدا، فيما تمت عملية النذر المذكورة.

وهناك من النصوص ما يشير الى أن الله تعالى أوحى لزوجها عمران بانه قد وهب له ولداً مباركاً يبرىء الأكمة والابرص ويحيي الموتى باذن الله، وان (عمران) قد اخبر امرأته بذلك.

ولما حملت، تمت عملية النذر المذكورة.

والمهم، أن خلفيات الموقف، أياً كانت، فإنّ ممارسة النذر بنحوه المذكور، يظل مفصحاً عن خطورة الوعي العبادي عند الشخصية النسوية المذكورة: أي ادراكها لخطورة الوظيفة الخلافية على الأرض.

هنا، غمر الموقف حدثٌ مفاجىء. فما هو هذا الحدث؟؟

هذا الحدث يُلقي ضوء على وعي الشخصية النسوية المذكورة، ويفصح عن المزيد من ادراكها لسمؤولية الكائن الانساني على الأرض.

فقد كان النذر صائماً على (ولدٍ ذكر) يتمحّض للخدمة في المسجد، وبخاصّة أنّ الرواية المفسرّة، أوضحت ان الله أوحى لعمران بان ولداً ذكراً سيوهب له، يضطلع بمهمة رسالة السماء عصرئذٍ... ولكن (المفاجأة) جاءت بوليدٍ أنثوي، فيما لا تصلح الانثى لحمل الرسالة: أي لا تكون نبياً أو رسولاً،... كما يحتجزها الطمث والنفاس من الاستمرارية في خدمة المسجد... فما هو الحل؟؟ وما هي إستجابة امرأة عمران لهذا الحدث المفاجىء؟ في لغة العمل القصصي، يجيء عنصر (المفاجأة)، واحداً من الأدوات الفنية في إستثارة القاريء أوالمستمع أو المشاهد.

فانت حينما تتابع الإصغاء لسلسلةٍ من الأحداث والمواقف، ثم يفاجئك حدث لم يكن في الحسبان، حينئذٍ ستغمرك الدهشة والانبهار إزاء المفاجأة المذكورة، مما يضاعف في اهتماماتك بمتابعة الاحداث، وانشدادك نحوها، ثم ترتيب اكثر من أثر على هذه المفاجأة بما تحمله من دلالات، تسحب أثرها على طبيعة استجاباتك...

واذا عدنا إلى قصة امرأة عمران: الشخصية النسوية التي نذرت ما في بطنها، للقيام بالممارسات العبادية التي تنشدها السماء،... وجدنا أنّ (المفاجأة) قد أذهلتها عندما وجدت أن الوليد (انثى) وليس (غلاماً). إلاّ انّ الذهول هنا محفوف بوعي عبادي لم ينقلها ـ كأية شخصية عادية ـ من صعيد الشخصية المتماسكة الى شخصية مهزوزة.

بل بقيت على تماسكها، مكتفيةً بقولها:

(اني وضعتها أنثى)

وهذا القول كما هو واضح يشير باكثر من دلالة تكاد تحوم على عملية (النذر) وما يواكبها من العدول عنه، متمثلاً بخاصة في التعقيب الأخير على المفاجأة بقولها:

(وليس الذكر كالانثى).

إذا: تحددت استجابةُ امرأة عمران على الحدث المفاجىء وفق تماسك واتزان يتناسب مع الشخصية العبادية التي تكل الامور الى السماء، وترضى بالقضاء والقدر اللذين ترسمهما السماء. إلاّ انّها في الحين ذاته لا يعني أنّ (التوتر) قد أزيح من أعماقها. لانّ نفس قولها:

(وليس الذكر كالانثى).

يفصح عن (التوتر) المذكور، وهو توتٌر تفرضه تبعات النذر،وما رافقه من الإخبار بانها ستلد غلاماً.

إنّ عنصر المفاجأة المذكور أي: ولادتها للانثى، سيترك آثاره على سائر الشخوص والاحداث والمواقف، مما يغير المعادلة وتوابعها عند امرأة عمران، وسواها... وسيترك، او سيمهّد لمفاجأت اشدّ إثارة كما سنرى.

غير أنّ المتلقي ـ المستمع أو القارئ ـ يحرص بطبيعة الحال على معرفة السر في عنصر المفاجأة المذكورة... فهذه المفاجأة حققت له إمتاعاً فنياً، وجعلته أشد إثارة وأهتماماً لمتابعة الاحداث في القصة. إنه قد يتساءل: لقد اوحى الله لعمران بغلامٍ يصبح رسولاً ذات يوم... فلم جاء الوليد انثى؟؟

إن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ يجيب على التساؤال المذكور، قائلاً:

((ان قلنا لكم في الرجل قولاً منا فلم يكن فيه، فكان في ولده او ولد ولده ، فلا تنكروا ذلك. ان الله اوحى إلى عمران اني واهب لك ذكراً مباركاً، يبرء الاكمة والابرص، ويحيي الموتى باذني، وجاعله رسولاً الى بني اسرائي، فحدث امراته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً. فلما وضعتها انثى قالت رب اني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى، لان البنت لا تكون رسولاً... فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إياه. فاذا قلنا لكم في الرجل منا شيئاً فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك)).

إذن: عنصر المفاجاة ـ ميلاد الأنثى لا الغلام ـ في اوضحت النصوص المفسرة دلالته. إلاّ ان الغموض لا يزال ـ بطبيعة الحال ـ يلف الموقف. والأمر يحتاج إلى متابعة الأحداث لفك مغاليق الغموض شيئاً فشيئاً.

بيد اننا قبل متابعة الأحداث، ينبغي أن نقف عند نهاية الموقف الذي ختمت به القصة عن امرأة عمران: الشخصية النسوية الملتزمة. عبادياً. فقد أنهت الموقف بتسمية ابنتها بإسم (مريم) فيما قالت:

(وإني سميتها مريم)

ومعنى مريم في لغتهم عصرئذٍ العابدة والخادمة.

ثم أنهت الموقف بالدعاء التالي:

(واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم)

و واضح أنّ التسمية والدعاء كليهما، يفصحان عن الطابع الذي اكّدناه عن شخصية إمرأة عمران وهو: الوعي العبادي بوظيفة الانسان على الارض فيما بدأته بالنذر، والتسمية، والدعاء، وتقديم المولود فعلاً، إلى من يعنيهم الأمر في المسجد.

والأمر لا يتصل بمجرد التسمية، والنذر، والدعاء، بقدر ما تفصح هذه الأشكال عن مضمونات تنطوى عليها مشاعر امرأة عمران، وتركيبتها النفسية التي يكفي أن نتلمس مدى حرارة وفاعلية ما تحمله من صدق عبادي، حينما تبدي ذلك التوجس، وتلك الخيفة من السلوك الملتوي الذي يمكن أن يلحق بابنتها وذريتها...

إنّ هتافها القائل:

(أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).

هذا الهتاف تعبيرٌ عن اكثر من حقيقة فنّية ينطوي عليها الموقف القصصي الذي نحن في صدد الحديث عنه.

ففضلاً عن أنه يفصح عن مدى حدة الوعي العبادي عند امرأة عمران، وادراكها لمهمة الكائن الانساني الذي ينبغي ان يتمحض لما خُلق من اجله،... فضلاً عن ذلك كله، فان صدى الهتاف المذكور سيتردد في أجواء الموقف والاحداث التي تلي قصة امرأة عمران... أي، إن الدعاء بابقاء مريم وذريتها بمنأى عن السلوك الملتوي، بمنأى عن الشيطان وتحركاته... هذا الدعاء، سنجد انعكاسه فعلاً، على شخصية مريم، وعلى ذريتها، بالنحو الذي سنقف عليه لاحقاً.

ويهمنا ان نلفت نظرك إلى انّ قصة امرأة عمران، قد انتهت مع الفقرة التالية وهي قوله تعالى:

(فتقبلها ربها بقبول حسن).

فاذا أضفنا عملية تقبل السماء لهذا النذر، اذا اضفناها الى الدعاء الذي أعاذ المنذور وذريته من السوء... حينئذٍ أمكننا ان نُدرك خطورة ما تنطوي القصة المذكورة عليه، من حيث المهمة العضوية ـ أي: المهمة الفنية ـ في توشيح الصلة بين القصص بعضها بالآخر.

كانت امرأة عمران شخصية نسويةً على وعيٍ حاد بالمهمة العبادية للكائن الانساني. وقد أنهى القرآن الكريم دورها في القصة الأولى ـ أي: قصة امرأة عمران ـ بعملية الوضع لا بنتها (مريم) حينما قدمتها ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ للقائمين على شؤون المسجد، تحقيقاً للنذر الذي أخذته على عاتقها، بأن تجعل مولودها متمحضاً لخدمة المسجد.

وبهذا التسليم لمولودها الانثوي، تنتهي القصة الاولى من القصص الخمس التي تضمنتها سورة آل عمران هنا تجيء القصة الثانية من القصص الخمس، متمثلةً في قصة الفتاة المنذورة نفسها: قصة مريم.

مريم بدورها تجسد شخصية نسوية، يلفها النشاط العبادي أيضاً، ولكن وفق سلوك يمثل الذرى، حيث تتوالى سلسلةٌ جديدةٌ من المواقف والاحداث والشخوص، تواكب مراحل تنشئتها التي ستتمخض في نهاية المطاف عن اكثر من حدث معجز.

قلنا، أن قصة امرأة عمران ـ وهي القصة الأول من قصص سورة آل عمران ـ قد مهدت للقصة الثانية، قصة مريم.

ويتمثل هذا التمهيد فنياً في البنت المنذورة مريم فيما ستولد غلاماً يجسد تحقيقاً لما أوحاه الله لعمران... من انه سيهب له رسولا...

ويجدر بنا الآن، أن نتابع هذه القصة، وما حفلت به من احداث ومواقف وبيئآت وشخوص، محفوفة بما يُثير الدهشة والانبهار والتشويق...

ولنلخصها أولاً في ضوء النص القرآن، والنصوص المفسرة... تقول هذه النصوص... انّ امرأة عمران قدمت أبنتها المنذورة مريم إلى القائمين بشؤون المسجد ـ وهم يمثلون صفوة بشرية، وقالت لهم: دونكم النذيرة.

وتضيف هذه النصوص...

انّ المعنيين بالأمر تنافسوا على النهوض بتنشئتها، بصفتها منذورة لمهمة عبادية خطيرة، وبصفتها إبنة إمامهم.

وفي رواية عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ أنّ هؤلاء الشخوص ـ وهم نبيون كما تقول الرواية ـ قد ساهموا عليها ـ أي: استخدموا القرعة ـ فكانت القرعة من نصيب زكريا ـ عليه السلام ـ وهو زوج اختها.

كما ان الآية القرآنية الكريمة، صريحة في عملية القرعة المذكورة، اذ يقول تعالى مخاطباً النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ:

((وما كانت لديهم إذ يلقون اقلامهم، أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم اذ يختصمون)).

إن هذا الاختصام والتنافس على كفالة مريم يحمل دلالة ذات خطورةٍ دون أدنى شك... إذ يفصح بوضوح عن مدى الوعي العبادي لدى الشخوص، وتقديرهم الخطير لهذه المهمة، بصفتها إسهاماً في المسابقة إلى العمل الصالح.

وهذا الوعي العبادي لدى الشخوص، وحرصهم على ممارسة الفضيلة، يتجانس مع الحرص الذي لحظناه عند امرأة عمران أيضاً ويتجانس ثالثاً مع الحرص الذي سنلحظه عند مريم ذاتها.

وهذا هو مبدأ فني آخر من مبادئ التجانس بين القصص المرسومة في سورة آل عمران، في طبيعة الشخوص والمواقف، بل وفي طبيعة الاحداث والبيئات كما سنرى، عند متابعتنا للعنصر القصصي في السورة.

ونعود الى شخصية مريم...، وقد رأينا أن زكريا ـ عليه السلام ـ هو الذي اضطلع بتربيتها وتنشئتها، بعد عملية التنافس والاختصام حول: منْ سيكفلها.

ولقد أشار القرآن الكريم الى أهمية تنشئتها بعامة، وزكريا بخاصة، حينما قال تعالى: (وأنبتها نباتاً حسناً، وكفلها زكريا).

بيد أن ما يلفت النظر هنا، ان النص القرآني، والنصوص المفسرة، ترسم لنا (بيئةً) لمريم، يطبعها (المألوف) و(النادر) و(المعجز) من الاحداث والمواقف التي تضطرب بها (البيئة) المذكورة.

ونقصد بـ(المألوف) ما هو عاديٌ نحياه، ونألفه في مجرى الحياة اليومية.

وأما (النادر) فهو الحدث أو الشخصية أو الموقف الذي يبتعد عما هو عادي، بحيث يندر وقوعه، لكنه غير ممتنع، أي: إنه خاضعٌ لما تسمية اللغة القصصية بـ(الامكان) و(الاحتمال).

وأمّا (المعجز) فهو الذي ينّد عن [الاسباب الطبيعية] التي جعلتها السماء قوانين عامة تنتظم شؤون الحياة. بحيث لايحدث الا عند [الصفوة البشرية] من انبياء وأئمة وصالحين...

وأذا عدنا الى (البيئة) التي رسمها القرآن، واكتنفت شخصية مريم، لحظنا ان (المألوف) و(النادر) منها، يتمثل في ابتناء موقع خاصٍ لمريم في المسجد، فيما جعل لها محرابٌ، بابه في الوسط، لا يرقى إليه إلا بسلم مثل باب الكعبة، ولايصعد إليه سوى زكريا.

وأمّا (المعجز) فهو سلسلة من الاحداث والبيئات المثيرة حقاً. فالنصوص المفسرة، تشير الى انّ المحراب كان يُضيء من نورها، بل إن فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، كانت من اشدّ معالم (البيئة) بروزاً، من حيث الطابع (المعجز)، فيما يُشير القرآن الكريم بوضوح الى (الرزق) الذي كان يأتيها، مما جعل زكريا يتساءل منبهراً:

أنى لك هذا؟؟

فكانت تجيبه، كما هو صريح القرآن الكريم:

(قالت:

(هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب).

اذن: النور والرزق يشكلان (بيئةً) معجزة، قد اكتنفت مريم عليه السلام...

لكننا حين نتابع (المعجز) و(النادر)، حينئذٍ نترك للآيات القرآنية الكريمة التالية، ان تتحدث إلينا مباشرة: قال تعالى:

(واذ قالت الملائكة، يامريم: إن الله اصطفاك وطهرك، واصطفاك على نساء العالمين):

(يامريم: اقنتي لربك، واسجدي واركعي مع الراكعين).

هنا، يتمثل المعجز في سلسلةٍ من (المواقف) المتمثلة في محاورة عنصر جديدٍ من الشخصيات، هو عنصر (الملائكة) مع الشخصية البشرية مريم ـ عليه السلام ـ: فيما بشروها باصطفاء الله اياها، وبتطهيرها...

هنا ايضاً، ينبغي ألا تغفل ذاكرتُك ـ أخي القارىء ـ دعاء امرأة عمران لابنتها، وتطهيرها من الوزر: الشيطان.

فيما ينبغي أن يذكرك بالتلاحم العضوي بين القصتين: امرأة عمران ومريم، وتمهيد احداهما للاخرى، وإلقائها الضوء عليها...

ولكن، فلنتابع المحاورة: محاورة الملائكة مع مريم عليه السلام.

حين نتابع محاورة الملائكة مع مريم عليه السلام، نلحظ أن (المعجز) في الموقف وفي الحدث، يتمثل في: إصطفاء الله لمريم، وفي تطهيرها، وفي تفضيلها على نساء العصر، فترتئذٍ.

المحاورة ذاتها، بصفة انّ أحد طرفيها هم شخوص غير بشريين... أي (الملائكة)، تفصح عن (المعجز) في الموقف. كما ان عملية الاصطفاء والتفضيل والتطهير، تفصح عن (النادر) في الموقف...

غير أنّ الحدث، والموقف، يأخذ صفة الإنبهار والدهشة، حينما يكتسب (المعجز) طابعاً جديداً قائماً على (المفاجأة) المذهلة... مفاجأة (الانجاب) من غير فحل.

ولعلك تتذكر جيداً، كيف ان عنصر (المفاجأة) التي حدثناك عنها عند الحديث عن قصة امرأة عمران، ونعني بها: مفاجأة الوضع لأنثى بدلاً من الحمل بالغلام... لا بدّ انك تتذكر كيف ان عنصر (المفاجأة) المذكور، كان يعكس أثره الفني على المتلقي وكيف كان يعكس أثره النفسي على بطلة القصة امرأة عمران.

وفي حينه، حدثناك عن أهمية عنصر (المفاجأة) في أي نص قصصي، ومساهمته في استثارة المتلقي وشده الى القصة. كما حدثناك عن الاستجابة التي تركتها مفاجأة امرأة عمران للانثى بدلاً من الغلام...

هنا، نلفت نظرك الى أثر المفاجأة فنياً ونفسياً على المتلقي، وعلى شخصية مريم عليه السلام... وقبل ان نسرد لك تفاصيل المفاجأة، نذكرك ايضاً، بالتلاحم العضوي بين القصتين، بالتلاحم أولاً بين طبيعة الشخوص في القصتين: قصة إمرأة عمران وقصة مريم عليه السلام، فالشخصيتان كلتاهما: نسويتان، وكلتاهما تعنيان بالممارسة العبادية الواعية... ثم نذكرك بالتلاحم بين عنصري الفن: المفاجأة، فيما طبعت المفاجأة كلاً من الموقفين... ثم نذكرك بسائر عناصر التجانس والتلاحم بين القصتين فيما ألمحنا الى اكثر من واحدٍ منها، في حينه...

ولكننا نتركك الآن لعنصر المفاجأة الجديد، ولتسمعْ اليه بنفسك، قال تعالى:

(اذ قالت الملائكة، يا مريم: إن الله يبشّرك بكلمةٍ منه، اسمه: المسيح عيسى بن مريم...).

هنا، سوف لمن تغمرك المفاجأة بدوّيها الهائل، مالم تستمع بنفسك الى محاورة مريم عليه السلام، عندما هتفت، متسائلة، مستفهمة: (قالت رب انى يكون لي ولدٌ، ولم يمسسني بشر؟؟).

هنا، ينبغي ان تضع في ذهنك، انّ عنصر (المفاجأة) المذكور، قد رسمه القرآن الكريم في سورة مستقلة تحمل اسم سورة مريم. وهناك في سورة مريم تفصيل للمفاجاة وما يواكبها من احداث ومواقف، سنعالجها عند دراستنا لسورة مريم ان شاء الله.

إلاّ أننا هنا، نذكرك بحقيقة فنّية هي: ان النصوص القرآنية لا ترسم من احداث القصة ـ أية قصة كانت ـ، إلاّ ما يخدم أو يُنير: الافكار المطروحة في هذه السورة أو تلك.

وعليه، فان التفصيلات المرسومة في سورة مريم لن تجد لها مكاناً في سورة آل عمران إلاّ ما يفرضه سياق الافكار المطروحة في هذه السورة.

إن الأفكار المطروحة في سورة آل عمران تُعنى بالحديث عن (المعجز) بصفة عامة، وبما يتصل ـ كما سنرى ـ بمواقف الجمهور حيال رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وتجانسها مع مواقف الجمهور حيال رسالة عيسى عليه السلام، وتقولاتهم عنه بما لا يتسق مع الواقع، على نحوما سنفصل الحديث عنه، عند وصولنا الى قصة عيسى في هذه السورة التي ندرستها الآن. وفي حينه سنوضح لك صلة هذا الرسم لعنصر المفاجأة في حدوده المعنية بقصة عيسى ـ عليه السلام ـ وموقف الجمهور منه...

والمهم، أن يقتصر حديثنا الآن عن السياق الفني لهذه المفاجأة، وانعكاسها على المتلقي ثم انعكاسها على استجابة مريم.

أمّا انعكاسها على المتلقي، فواضحٌ كل الوضوح، ما دام المتلقي يتابع القصص المرسومة في السورة بنحو يضع في اعتباره أنّ (المعجز) هو السمة التي خلعتها السماء ـ في كل الرسالات وشخوصها ـ على أي حدث أو موقف يواكب تلك الرسالات وشخوصها... هذا فضلاً عما يتركه من إمتاع جمالي في عملية التلقي لسلسلة الاحداث والمواقف...

أما انعكاسها على شخصية مريم، فانه مجانسٌ لانعكاس المفاجأة على شخصية امرأة عمران ... فامرأة عمران ـ كما رأيت ـ استسلمت للامر الواقع، ورضيت بإشاءة السماء، بعد أن استجابت ـ بادىء ذي بدء ـ بدهشةٍ واستفهام عبر تقريرها القائل: (وليس الذكر كالانثى)،... هنا قد استجابت مريم ـ عليه السلام ـ بنفس الاستجابة، حينما تساءلت مستفسرة ومستفهمةً: (اني يكون لي غلام، ولم يمسسني بشر؟؟).

اذن: نحن الآن أمام مجموعة من عناصر التجانس والتلاحم بين قصتي امرأة عمران ومريم... كلتاهما تتحركان من خلال شخصية نسوية، وكلتاهما تخضعان لاستجابة متماثلة في ظاهرة الوعي العبادي، فضلاً عن أنّ كلتيهما تحفلان بعنصر (المفاجأة)، وإتسّام هذا العنصر بما هو معجزٌ ونادر، ثم فضلاً عن إتسام الاستجابة عند الشخصيتين النسويتين، بطابعي: الاستفهام، ثم الاقرار بالأمر الواقع، والاستسلام الواعي لاشاءة السماء...

هذه الألوان من التجانس والتلاحم، ينبغي أن تضعهما في ذهنك... حتى تخلص من ذلك إلى ادراك أن السورة ـ كما سترى ذلك مفصلاً ـ قد رسمت بنحوٍ ما تخضع له ـ أيةُ عمارة ـ لتخطيط هندسي محكم، حائمٍ على (افكار) خاصة تستهدفها السماء، فيما يجيء العنصر القصصي، واحداً من الادوات التي تنير تلك الافكار.

 

درسات فنية في قصص القُرآن / الدكتور محمود البستاني

المرفقات