إنها المرأة التي تكلّلت بإكليل القداسة, وتوشّحت بوشاح الشرف والمجد والسؤدد, فاختارها الله لحمل نور النبوة, واصطفاها بأمومة أقدس إنسان عرفه الوجود, الإنسان الذي كان واسطة الأرض بالسماء, الإنسان الذي صدع بالحق كما أمره ربه إذ ألقى عليه قولاً ثقيلاً, فجاء بالشريعة الغرّاء لإنقاذ الإنسان من غيابات الجهل والظلام إلى باحة النور والسلام, وتخليص الشعوب المستضعفة من ربقة الظلم والجور ونير العبودية.
إنها أم سيد الخلق التي أنجبت نور السماء فانشق إيوان كسرى, وخمدت نار فارس, وغِيضت بحيرة ساوة.
هي: أمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أمها: بَرَّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
جدتها عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية, وهي أحدى اللواتي اعتز بهن النبي (ص): فقال: أنا ابن العواتك من سليم
عبد الله
عندما كان عبد المطلب ينقّب عن بئر زمزم وواجهته قريش بالأذى، نذر إن ولد له عشرة أولاد أن يذبح واحداً منهم لله عند الكعبة, فلما صار له من الأولاد عشرة واقترع عليهم وقع السهم على عبد الله والد النبي (ص), كما في القصة المعروفة فتأسى بجده الخليل إبراهيم (ع), ثم فدى ابنه عبد الله بمائة من الإبل.
ولما سلم عبد الله من الذبح, قرر عبد المطلب تزويجه, فأخذه إلى وهيب بن عبد مناف وهو عم آمنة بنت وهب وكانت تحت رعايته بعد أن مات أبوها، فكانت أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً وشرفا, فخطبها لولده عبد الله، وخطب في الوقت نفسه ابنة وهيب هالة لنفسه، فزوّجه إياها، فكان زواج عبد المطلب وعبد الله في مجلس واحد، فولدت هالة لعبد المطلب حمزة، وولدت آمنة لعبد الله محمداً (ص)
أمّا والدة عبد الله فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, وهي والدة أبي طالب أيضاً, وقد خصّ الله هذه السيدة الجليلة بأن تكون جدة للنبي (ص) والوصي (ع) دون غيرها من زوجات عبد المطلب.
وهكذا شاء الله أن تكون هذه المرأة الطاهرة ــ أمنة بنت وهب ــ زوجة لعبد الله وأماً لسيد خلقه وخاتم أنبيائه ليكون أشرف الناس حسباً, وأكرمهم نسباً, فطهّره من الرجس ونقله من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهرة, فكان خاتماً لأنبيائه وسيّداً لعباده فقد أعطى الله عز وجل آمنة من النور والعفاف والبهاء والجمال والكمال، ما أنها كانت تدعى سيدة قومها.
كان عبد الله الابن الأصغر لعبد المطلب, ومن أحب أولاده إليه, وكان يعمل بالتجارة، وفي إحدى رحلاته خرج من مكة وتوجه نحو الشام في تجارته مع قافلة لقريش، وفي عودته مرّت القافلة بيثرب، فمرض عبد الله, وبقيَ في المدينة بين أخواله بني النجار على أن يلحق بالقافلة عندما يُشفى من سقمه.
فلما جاء رجال القافلة إلى مكة سألهم عبد المطلب عنه، فقالوا: تركناه مريضاً !
فبعث إليه أخاه الحارث ليسأل عن حاله, فقالوا له:
إن عبد الله قد مات !!
لقد مات عبد الله بعد شهر من مكوثه بين بني النجار, وكان عمره حينها خمسة وعشرون عاماً، ودُفن في دار النابغة، وهي لأحد رجال بني عدي بن النجار.
كانت آمنة ترتقب رجوع زوجها لتبشّره بالمولود المبارك الذي ملأ الدنيا عليها سعادة وفرحاً, فقد ولدت محمداً (ص) قبل شهرين, وبينما هي تترقب أخبار القافلة التي فيها زوجها فإذا بها تسمع خبراً نزل عليها كالصاعقة! لقد سمعت بخبر موت عبد الله فبكت بكاءً مراً على زوجها الشاب وهاجت بآمنة العبرة لهذا الفقد المفجع فانتحبت ورثت زوجها:
عفا جانبُ البطحاءِ من آلِ هاشمٍ *** و جاورَ لحــــداً خارجاً في الغماغمِ
دعته المنــــــــايا دعوةً فأجابها *** وما تركتْ في الناسِ مثل ابنِ هاشمِ
عشية راحـــوا يحملونَ سريرَه *** تعــــــــــــاورُه أصحابُه في التزاحمِ
فإن تكُ غـــالته المنونُ وريبُها *** فقد كــــــــــان معطاءً كثيرَ التراحمِ
واحتضنت آمنة وليدها وامتزجت دموعها مع دموعه, ونظرت في وجهه البريء فرأته يشع نوراً, فخفف وجوده من ألم المصاب, لقد توفي عبد الله بعيداً عن مكة, وكانت زوجته آمنة بنت وهب قد وضعت مولودها المبارك محمداً (ص) قبل شهرين من موته, مات عبد الله دون أن يرى ابنه نور الله في الأرض.
آباء النبي كلهم موحدون
مات عبد الله والد النبي (ص) وهو موحّد لله وعلى دين جده إبراهيم الخليل (ع) كما مات على ذلك أبوه عبد المطلب وكل أجداد النبي (ص) وكانت أمنة أيضاً موحّدة لله تعالى, كما جاء في الحديث الشريف: لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم، ولم يدنسني بدنس الجاهلية. (1)
وقد جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:
نزل جبرئيل (ع) على النبي (ص) فقال: يا محمد، إن ربك يُقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك, فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطلب، والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب. (2)
كما جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:
هبط جبرئيل على رسول الله (ص) فقال: يا محمد، إن الله عز وجل قد شفعك في خمسة: في بطن حملك وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفي صلب أنزلك وهو عبد الله بن عبد المطلب، وفي حجر كفلك، وهو عبد المطلب بن هاشم، وفي بيت آواك, وهو عبد مناف بن عبد المطلب أبو طالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية. (3)
وكما مات عبد الله خارج مكة, فقد ماتت آمنة بنت وهب أيضاً خارج مكة, فعندما بلغ النبي سبع سنوات, اصطحبته (ص) آمنة لزيارة أخوال أبيه بني النجار، وزيارة قبر زوجها عبد الله ومعهم خادمتها أم أيمن, وأثناء رجوعها إلى مكة فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها بالأبواء، فرجعت أم أيمن بالنبي (ص) إلى مكة فتكفله جده عبد المطلب ثم ابنه أبو طالب.
وقد ورد في زيارة السيدة آمنة بنت وهب (ع) هذه الزيارة:
السلام عليك أيتها الطاهرة المطهرة،
السلام عليك يا من خصّها الله بأعلى الشرف،
السلام عليك يا من سطع من جبينها نور سيد الأنبياء،
فأضاءت به الأرض والسماء،
السلام عليك يا من نزلت لأجلها الملائكة،
وضربت لها حجب الجنة،
السلام عليك يا من نزلت لخدمتها الحور العين،
وسقينها من شراب الجنة،
وبشرنها بولادة خير الأنبياء،
السلام عليك يا أم رسول الله،
السلام عليك يا أم حبيب الله،
فهنيئا لك بما آتاك الله من فضل،
والسلام عليك وعلى رسول الله ،
ورحمة الله وبركاته
محمد طاهر الصفار
......................................................................................................
1 ــ الطوسي ــ مجمع البيان ج 4 ص 322 / المجلسي ــ بحار الأنوار ج 15 ص 117 و 118 / تفسير الرازي ج 24 ص 174 / السيوطي ــ الدر المنثور ج 5 ص 98 وغيرها من مصادر الفريقين.
2 ــ الفتال النيسابوري ــ روضة الواعظين ص 121 / السيوطي ــ التعظيم والمنة ص 25
3 ــ شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 3 ص 311
4 ــ مناسك الحج للكلبايكاني ص ۱۷۱
اترك تعليق