لمن هذه القصيدة ؟

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه   ***   فالقومُ اعداءٌ له وخصومُ  

هذا البيت هو البيت الأول من قصيدة تبلغ ثلاثين بيتاً قال عنها السيد جواد شبر (1) والمحقق الكرباسي (2) إن الشاعر يشير فيه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) والشاعر هنا يقصد الآية الكريمة: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)، (3) وهو تضمين لما ورد عنه (عليه السلام) لما سئل عن المحسودين من هم ؟ فقال: (نحن المحسودون). (4) ولا يخفى أن البيت يطابق ما جرى على أمير المؤمنين (ع) من أثر هذا الحسد الذي تحول إلى عداء سافر أدى إلى سلبه حقه من الخلافة، واستمر هذا العداء ضد أبنائه الطاهرين من قبل الأمويين والعباسيين.

فلمن هذا البيت أو القصيدة ؟.

لم يختلف المؤرخون في نسبة قصيدة مثلما اختلفوا في هذه القصيدة التي تعدّ كنزاً من كنوز العربية ودرّاً من بحرها الواسع لما تضمّنته من الشعر الجزل المسبوك، فاحتلت مكانة متميزة في عالم الشعر العربي ودارت على الألسن وتناقلتها الرواة على مدى قرون، وحوت هذه القصيدة كثيراً من المواعظ والتعاليم وجمعت بعضاً من مكارم الأخلاق وحثت على طلب العلم ومصاحبة الكرام ومجانبة السفهاء وصلة الأرحام وعمل الخير وغيرها من الأمور.

ورغم أن القصيدة بأبياتها الثلاثين قد جاءت كلها على نسق واحد من قوة السبك والتراكيب إلّا أن البيت الذي التاسع الذي يقول:

لا تنهَ عن خُـــــلُقٍ وتأتيَ مثلَه   ***   عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

قد اشتهر منها وأصبح متداولاً أكثر من غيره، فهو يُعدّ محور القصيدة، وقد ذُكر هذا البيت في أمّهات الكتب اللغوية والتاريخية والأدبية ونُسب إلى ستة شعراء، ولأهمية هذا البيت كونهُ ضمن قصيدة تُعدّ من عيون الشعر العربي فقد آثرنا سبر غور الموضوع والبحث في بطون الكتب المهمة لتسليط الضوء أكثر على صاحب البيت أو بالأحرى القصيدة لكي لا يبخس حق صاحبها في نسبتها إليه.

فقد أورد هذه القصيدة بكاملها السيوطي (5) والبغدادي (6) ونسباها إلى أبي الأسود الدؤلي، ولم ترد هذه القصيدة كاملة إلا في هذين الكتابين أما باقي الكتب فقد ذكرت نُتفاً منها ترددّت ما بين البيت والعشرة أبيات مع اختلاف في تسلسلها، ولعل المؤرخ أو المؤلف كان ينتقي منها ما يلائم موضوعه من استشهاد واستدلال فينقل منها الأبيات بغير تسلسل، وأكثر بيت ورد في هذه الكتب من هذه القصيدة هو البيت التاسع الذي ذكرناه والذي سيدور حوله الموضوع فإن صاحب هذا البيت هو صاحب القصيدة.

فقد نَسب ابن سلام (7) وأبو عبيد (8) وابن عبد ربه (9) والمرزباني (10) وياقوت الحموي (11) هذا البيت للمتوكل الليثي الكناني ، أما سيبويه (12) وابن يعيش (13) وابن الخشاب (14) فقد نسبوا هذا البيت الى الأخطل، ونسبه حيدرة اليمني (15) والحاتمي (16) لسابق البربري، كما نسبه ابن عساكر (17) والنحاس (18) للأعشى، ونسبه أبو سعيد السيرافي (19) لحسان بن ثابت، أما العيني (20) والسيوطي (21) واللخمي (22)، فقد نسبوا البيت لأبي الأسود الدؤلي، ولتحاشي الوقوع في هذا الاختلاف الكبير فقد آثر الفرّاء (23) والماوردي (24) والطبري (25) وابن خالويه (26) والطوسي (27) عدم نسبة هذا البيت إلى أي أحد عند ذكره.

عند تمحيصنا عن نسبة هذا البيت نجد أن المؤرخين قد نسبوه لمن يهوون من الشعراء بعد أن رأوا أن الاختلاف قد بلغ مبلغاً بحيث لا يعارضهم أحد في هذه النسبة الخاطئة، فنسبوه إلى الاخطل وهو في غاية البعد عن جو هذا البيت فقد توزّع شعره بين المدح والهجاء، فهو شاعر البلاط الأموي يمدح الخلفاء الأمويين ويهجو أعداءهم، وأين منه مثل هذه المواعظ ؟ ثم أن البيت لم يرد في ديوانه ورغم أن محقق الديوان حاول الإشارة إليه لكنه وقع في شرك الأقوال المختلفة.

وفي تقصّينا للشعراء الآخرين الذين نُسب البيت إليهم نجد أن انفراد النحاس في نسبته للأعشى، والسيرافي لحسان، وابن عساكر للطرماح، والحاتمي لسابق البربري، يجعل هذه النسبة ضعيفة جداً وخاصة أنهم ذكروا البيت منفرداً ونسبوه إلى شاعرهم، ولو كانت هذا النسبة صحيحة لعززوه بباقي أبيات القصيدة أو ببعضها كما فعل السيوطي والبغدادي عندما نسباها إلى أبي الأسود الدؤلي، ونحن نرى وللأمانة التاريخية والأدبية أن نسبة هذه القصيدة مع البيت إلى أبي الأسود الدؤلي هي الصحيحة وكفته هي الراجحة في ميزان البحث الموضوعي، ومما يوكد ذلك ما رواه البغدادي في خزانته عن الخلاف في نسبة البيت التاسع حيث يقول:

(نسبه الإمام أبو عبد الله القاسم بن سلام في أمثاله إلى المتوكل الليثي، ونسبه إليه الآمدي في المؤتلف والمختلف، ونسبه إليه أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، ونسبه سيبويه للأخطل، ونسبه الحاتمي لسابق البربري، ونقل السيوطي عن تاريخ ابن عساكر أنه للطرماح، والمشهور أنه من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي. قال اللخمي في شرح أبيات الجمل: الصحيح أنه لأبي الأسود فإن صح ما ذكر عن المتوكل فإنما أخذ البيت من شعر أبي الأسود والشعراء كثيراً ما تفعل ذلك).

هذا نص حديث البغدادي الذي يؤكد على أن البيت لأبي الأسود كما أكد ذلك العيني بقوله: (أقول: قائله ــ أي البيت التاسع ــ هو أبو الأسود الدؤلي، ويُقال الأخطل وليس بصحيح).

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (أنه للمتوكل الليثي) وكذلك حكى الأصفهاني أيضاً. وقال ابن يسعون: (هذا البيت أعني قوله ــ لا تنه عن خلق وتأتي مثله ــ نسبه أبو علي الحاتمي لسابق البربري، والصحيح عندي كونه للمتوكل أو لأبي الأسود وهما كنانيان وقد رأيته في شعر كل واحد منهما إلا أنه لم يثبت في شعر أبي الأسود المشهور عند الرواة).

وقال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل: (والصحيح أنه لأبي الاسود من قصيدته التي أولها ــ وذكر أحد عشر بيتاً غير متسلسلة من القصيدة ــ فإن صح ما ذكر عن المتوكل فإنه أخذ البيت من شعر أبي الاسود والشعراء كثيراً ما تفعل ذلك)، ومثل ذلك قال السيوطي في شرح شواهد المغني. إذن فلا مجال للشك بأن البيت والقصيدة لأبي الأسود الدؤلي ونرجو أن نكون قد وُفقنا في إعادة (البيت) إلى صاحبه ليأخذ مكانه الطبيعي في قصيدته الرائعة ونود أن نعرضها على القارئ لكي يحكم بنفسه كيف أن البيت انسجم تماماً مع القصيدة في وحدة مترابطة شكل قمة من قمم الشعر العربي:

حسدوا الفتى إذْ لم ينــــــــــــالوا سعيه   ***   فالقومُ أعداءٌ له وخــــــــصومُ

كضرائرِ الحسنــــــــــــاءِ قُلن لوجهِها   ***   حَسَدَاً وبغياً: إنه لذمـــــــــــــيمُ

والوجهُ يشـــــــــــرقُ في الظلامِ كأنه   ***   بدرٌ منيرٌ والنساءُ نــــــــــجـومُ

وترى اللبيـــــــــــبَ محسّداً لم يجترمْ   ***   شتمَ الرجالِ وعــــرضُه مشتومُ

وكذاكَ من عظمتْ عــــــــــــليه نعمةٌ   ***   حسّادُه سيفٌ عـــــــــليه صَرومُ

فاتركْ محـــــــــــــــاورةَ السفيهِ فإنها   ***   ندمٌ وغـــــــــــبٌ بعد ذاكَ وخيمُ

وإذا جريتَ مع السفيهِ كما جـــــــرى   ***   فكلاكمــــــــــا في جريهِ مذمومُ

وإذا عتبتَ على السفــــــــــــيهِ ولمته   ***   في كلِّ ما تأتي فأنتَ ظـــــــلومُ

(لا تنه عن خُلُقٍ وتــــــــــــــأتي مثله   ***   عارٌ عليكَ إذا فـــــــعلتَ عظيمُ)

ابدأ بنفســــــــــــــك وانهها عن غيّها   ***   فإذا انتهــــــــت عنـه فأنتَ حكيمُ

فهنــــــــــاكَ يُقبل ما وعظت ويُقتدى   ***   بالعلــــــــــــمِ منكَ ويـنفعُ التعليمُ

ويلُ الخليّ من الشجـــــــــــــــيّ فإنه   ***   نصبُ الفؤادِ بشجوِهِ مـــــــغمومُ

وترى الخليّ قريـــــــــــرَ عينٍ لاهياً   ***   وعلى الشجيِّ كــــــــآبةٌ وهـمومُ

وتقولُ مــــــــــــــالك لا تقولُ مقالتي   ***   ولسانُ ذا طَــــــــلْق وذا مكـظومُ

لا تكلمَنْ عرض ابن عــــــمكَ ظالماً   ***   فإذا فعلت فعرضكَ الـــــــمكـلومُ

وحريمه أيضاً حريـــــــــــمُك فاحمه   ***   كي لا يُباع لديــــــــكَ منه حَريمُ

وإذا اقتصصتَ مـن ابن عمِّـــكَ كلمةً   ***   فكلومُه لكَ إن عقــــــــــلتَ كلومُ

وإذا طلبتَ إلى كريـــــــــــــــمٍ حاجةً   ***   فلقاؤه يكفيــــــــــــــــكَ والتسليمُ

فإذا رآك مـــــــــــــــــسلّماً ذكر الذي   ***   كلّمته فكـــــــــــــــــــأنه مـلزومُ

ورأى عواقبَ حمـــــــــــد ذاكَ وذمّه   ***   للمرءِ تبقى والعظامُ رمــــــــــيمُ

فارجُ الكريمَ وإن رأيــــــــــتَ جفاءه   ***   فالعتبُ منه والكـــــــــــرام كريمُ

إن كنتَ مضـــــــــــــطراً وإلّا فاتخذْ   ***   نفقاً كأنــــــــــــكَ خائـفٌ مهزومُ

واتركه واحـــــــــــــذر أن تمرَّ ببابِهِ   ***   دهراً وعرضُـــكَ إن فعـلتَ سليمُ

وإذا طلبتَ إلى لئيــــــــــــــــمٍ حاجةً   ***   فألحّ في رفقٍ وأنــــــــــــتَ مديمُ

واسكنْ قبالةَ بيته وفنــــــــــــــــــائه   ***   بأشدِّ ما لــــــــــزمَ الغـريـمَ غريمُ

وعجبــــــــــــتُ للدنيا ورغبةِ أهلـها   ***   والرزقُ فيما بينـــــــــهـم مقسومُ

والأحمقُ المرزوقُ أعجبُ من أرى   ***   من أهلِها والعاقلُ المحـــــــــرومُ

ثم انقضى عجبــــــــــــي لعلمي أنه   ***   رزقٌ موافٍ وقته معــــــــــــلومُ

محمد طاهر الصفار

...........................................................

1 ــ أدب الطف ج 1 ص 104

2 ــ تربيع الأمثال في مائة مثال ص 202 

3 ــ النساء آية 54

4 ــ تفسير البرهان ج 1 ص 376

5 ــ شرح شواهد المغني ج 2 ص 570 ــ 572

6 ــ خزانة الأدب ج3 ص 617 ــ 619

7 ــ طبقات فحول الشعراء ج 2 ص 683

8 ــ  الأمثال ص 74

9 ــ العقد الفريد  ج 2 ص 311 و ج 6 ص 81

10 ــ معجم الشعراء ص 410

11 ــ معجم البلدان ج 7 ص 384

12 ــ الكتاب ج 1 ص 424

13 ــ شرح المفصل ج 7 ص 24

14 ــ الاستدراك ص 70

15 ــ كشف المشكل ج 1 ص 545

16 ــ المجاز 149

17 ــ تاريخ الشام ج 4 ص 22

18 ــ  شرح أبيات سيبويه ص 216

19 ــ شرح أبيات سيبويه ج 2 ص 178

20 ــ  شرح الشواهد الكبرى ج 4 ص 393

21 ــ شرح شواهد المغني ج 2 ص 779 ــ 780

22 ــ شرح أبيات الجمل ص ج 1 ص 105

23 ــ معاني القرآن ج 1 ص 34

24 ــ أدب الدنيا والدين ص 18

25 ــ تفسير جامع البيان في تفسير القرآن ج 1 ص 255 و ج 9 ص 222

26 ــ الحجة في القراءات السبع ص 112

27 ــ التبيان في تفسير القرآن ج 1                                                                                                                                

المرفقات

: محمد طاهر الصفار