لا يعرف على وجه التحديد تاريخ وجود الشيعة في القارة الهندية لأن الذين توافدوا عليها على شكل مجاميع صغيرة هرباً من الأمويين والعباسيين كانوا يبتعدون عن المدن الكبرى ويسكنون القرى البعيدة ويكتمون مذهبهم ومعتقدهم خوفاً على أنفسهم حتى يجدوا الوقت المناسب ليجاهروا به.
وكان الكثير منهم ينتمي في نسبه إلى الرسول (ص) فاستقروا في تلك القرى وتهيّأت لهم الظروف المناسبة للعيش حتى صاروا بأعداد كثيرة وأصبحوا يشكّلون قرى كاملة وأكثرهم (رضويون) ـ من سلالة الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ـ وقد أطلق عليهم اسم (سادات بارها) وهي كلمة مستقاة من كلمة (باره) وتعني (12) باللغة الأوردية أي الإثنا عشرية.
وتشير المصادر التاريخية إلى أنهم ــ أي الشيعة ــ كانوا أول من وطأت أقدامهم هذه القارة من المسلمين وإن الإسلام دخل إلى أهلها على أيديهم حيث هاجروا إليها على شكل أفراد خوفاً على أنفسهم من السلطة الأموية والعباسية حيث توجّهوا من البلاد الإسلامية إلى خراسان وهي محطتهم الأولى ومنها إلى شمال الهند.
ومما يؤكد ذلك أن السلطان محمود الغزنوي الذي يعتبر فاتح الهند عندما دخلها غازياً في أواخر القرن الرابع الهجري كان للشيعة فيها مراكز ومؤسسات مما يدل على أنهم وصلوا إليها قبل ذلك التاريخ قبل قرنين على أقل تقدير.
الجذور
يقول مسعود الندوي: (تبين من هذا أن الشيعة كان قد نجم قرنها في الهند في المائة الثانية للهجرة أو قبلها). (1)
وذكر السيد جمال الدين أحمد بن علي الحسني المعروف بـ (ابن عنبة) المتوفى سنة (828هـ) في ترجمة جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر الأطرف بن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: (أما جعفر هذا فكان قد خاف بالحجاز فهرب في ثلاثة عشر رجلاً من صلبه فما استقرت به الدار حتى (المولتان) فلما دخلها فزع إليه أهل السواد وكان في جماعة قوِيَ بهم على البلد حتى ملكه وخوطب بالملك وملك أولاده بعده). (2)
و(المولتان) التي ذكرها ابن عنبة هي مدينة (ملتان) أحدى مدن القارة الهندية وتقع الآن في باكستان ثم يقول ابن عنبة:
(قال لي الشيخ أبو اليقظان عمار وهو يعرف طرفاً كثيراً من أخبار الطالبيين وأسمائهم أن منهم ملوك وأمراء وعلماء ونسّابون لسانهم هندي وهم يحفظون أنسابهم وقل من يعلق عليهم ممن ليس منهم).
ويقول النسابة الشيخ أبو نصر البخاري في معرض حديثه عن جعفر: (وبشيراز ولد جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي وبالسند من ولد جعفر جماعة على ما يقال). (3)
وكان وصول أغلب الشيعة عن طريق البر فاستوطنوا مناطق مختلفة من جبال الهملايا ونهر السند ثم امتدوا أعلى وأسفل نهر الكنج، أما الذين وصلوها عن طريق البحر ونزلوا خليج البنغال فقد استوطنوا السند، وتهياوارا، ومالابار، وأركان، واستوطن الذين وصلوا بعدهم المدن الساحلية وكانت هذه الهجرات متوالية وعبر أجيال عديدة استطاع الشيعة خلالها أن ينشروا مذهبهم وأن ينشئوا عدة إمارات وممالك
كامبوديا والصين وسيام
كما إن بعض المصادر التاريخية تؤكد على أن السادة العلويين بدأوا رحلتهم إلى بقية هذه البلاد (القارة الهندية) في العصر العباسي الأول والثاني يقول المؤرخ الأندونيسي (محمد تمين إبراهيم) أستاذ الدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي في جامعة جاكارتا من محاضرة له ألقاها في الندوة التاريخية في ميدان سومطرا الشمالية:
(إن أول مملكة إسلامية هنا يرأسها شخص يلقب بلقب شيخ كانت بأيدي العرب الهاشميين) ثم يقول عن انتشار الإسلام في تلك البلاد: (إن الأشراف العلويين انتشروا في كامبوديا والصين وسيام وغيرها وإن من الواصلين إلى كامبوديا الحسين الملقب بجمال الدين الأكبر وأنه كان للحسين ولدان أحدهما إبراهيم وتقول الروايات الجاوية إن إبراهيم وصل مع أبيه الحسين إلى سيام وجاوا وتزوج أميرة من جامبا إسمها باندا وولاق فولدت له ولدين عليا وإسحاق كانا من أنجح العاملين على نشر الإسلام وإن أعظم نجاح لإسحاق كان في بانيو وأنفي). (4)
الفلبين
ويواصل الأستاذ تمين حديثه عن انتشار الإسلام على يد العلويين إلى باقي جزر القارة فيقول: (ووصل العلويون إلى الفلبين فاستوطنوها ونشروا فيها الإسلام ثم أقاموا فيها ملكا واستمر حكم العلويين فيها حتى سنة (885 هـ / 1465 م) حين هاجم الأسبان بلادهم)
وتؤكد توثيقات أهالي تلك البلاد ذلك يقول الأستاذ نجيب صليبي: (إن مجئ الإسلام إلى الفلبين كان بواسطة شريف علوي إسمه حسن بن علي من ذرية أحمد بن عيسى المهاجر وقد عمل هذا العلوي على نشر الإسلام أول الأمر في جزائر (يوايان) الفلبينية فأسلم ملكها على يديه وانتشر الإسلام في (ميندانا ومافينيدانا وسبيو وسولو وكوتوبارو وتمبارا وليبونفان وباكمبايان) (5) وكان هؤلاء العلويون هم أول من علم السكان الكتابة العربية كما ذكر في الكتاب.
الهند
أقام الشيعة أربع دول في الهند ثلاث منها في الجنوب وواحدة في الشرق ففي جنوب الهند أقاموا دولة: (العادل شاهية) وعاصمتها (بيشاور)، و(القطب شاهية) في (كولكندة والدكن وحيدر آباد)، و(النظام شاهية) وعاصمتها (أحمد نكر)، أما في شرق الهند فقد أقاموا دولة (أود) وكانت عاصمتها أول تأسيسها (فيض آباد) ثم انتقلت إلى (لكهنو).
وقد زخرت هذه الدول بالعلماء والكتاب والشعراء والمفكرين والقادة والمجاهدين الشيعة الذين كانوا من أعمدة الحضارة الهندية ففي عهد ملوك (أود) الذين أسسوا دولتهم عام (1167) أصبحت (لكهنو) من أهم مراكز الثقافة الإسلامية بفضل اعتنائهم بإقامة المعاهد والمشاريع والمؤسسات التي تعنى بالعلم والأدب ولا تزال آثار تلك العناية إلى الآن
الشعائر الحسينية
حرص الشيعة الهنود أشد الحرص على إقامة الشعائر الحسينية في شهر محرم وبخصوص هذه الشعائر أفرد المستشرق الدكتور هوليستر فصلا كاملاً (6) للحديث عن هذه الشعائر نقتطف منه بعض الأقوال:
يبتدأ هوليستر في فصله بالحديث عن مقتل الحسين في كربلاء والذي يتجدد كل عام ويتم التعريف بهذه الحادثة المؤلمة للعالم عن طريق الشعائر يقول:
(فرغم كونه قد وقع قبل مدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً فإن فجيعته كانت واضحة جلية لكل شيعي وكثيرين غيرهم بواسطة المراسيم والإحتفالات الدينية التي تقام سنويا في محرم الحرام).
ثم يتطرّق إلى أهمية محرم وخاصة يوم عاشوراء لدى المسلمين وما يشكله هذا اليوم لديهم وماجاء فيه من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وبعدها يتحدث عن الشعائر في الدول الإسلامية وخاصة أيام البويهيين تمهيداً للحديث عن انتقال هذه الشعائر إلى الهند والتي:
(انتشرت بانتشار الشيعة في تلك البلاد).
وعن كيفية إقامة الشعائر الحسينية يذكر هوليستر أنواعاً منها، حيث يبدأ بوصف مجالس التعزية التي هي قطب هذه الشعائر لما لها من أثر كبير في إيصال مبادئ الثورة الحسينية وأهدافها إلى الناس، إضافة إلى احتوائها أيضاً على المواعظ والإرشادات، ويصف هوليستر قصة مقتل الحسين بصورة مفصلة متسلسلة موزّعة على عشرة أيام من دخول الإمام الحسين إلى الكوفة وحتى استشهاده في كربلاء
ففي اليومين الأولين يروى فيهما تهيؤ الحسين للسفر وزيارة المقربين له والمشاورات التي جرت بينهم وبينه، وفي الثالث أخبار المخيم الذي خيم فيه الحسين مع أصحابه، وفي الرابع عن بني أسد وتداولهم حول دفن الشهداء، أما الخامس والسادس فيروى فيهما مصاعب الإمام وصحبه وأهل بيته وبالخصوص علي الأكبر، والسابع عن القاسم بن الحسن، والثامن والتاسع عن العباس، أما العاشر فيخصص عن مقتل الإمام الحسين.
التابوت
ويذكر هوليستر أن هذه المجالس لا تقام في المساجد بل في حسينيات خاصة لهذا الغرض ثم يصف (التعزية) وهي من أبرز ما يلفت النظر في شعائر الهند وهي هيكل مصغر لقبر الحسين يحمله الهنود مع مواكب العزاء الحسيني في يوم عاشوراء خصيصا وتطلق على التعزية في جنوب الهند كلمة (تابوت) وهذه الشعيرة متبعة في كل المواكب الحسينية في الهند حيث توضع هذه التعازي فوق هياكل من الخيزران وتحمل على أكتاف الرجال وتزين بأنواع الزينة ويرجع هوليستر هذه الشعيرة إلى أيام تيمورلنك (سنة 1405م) الذي جاء بمثل هذه التعزية إلى الهند من كربلاء.
ثم يصف تعزية شاهدها بنفسه وصفاً مفصلاً عن زينتها وزخارفها وكيفية التبرك بها كما يشير هوليستر إلى سير المواكب وعودتها إلى مكانها حيث: (يسير سيراً بطيئاً في العادة وعلى خط معين لكنه يتوقف عن السير بين حين وآخر لإلقاء المراثي وقراءتها ويقوم عدد كبير من الناس خلال السير باللطم على الصدور والتنادي بجملة (يا حسين , يا حسين) ثم يذكر وجود عدد غير يسير من أهل السنة والهندوس يشاركون في هذه المواكب
شعر الرثاء الحسيني
أما بالنسبة لشعر الرثاء الحسيني فقد أغنى الأدباء والشعراء الشيعة الأدب الهندي بأروع القطع الأدبية وكان للأثر الحسيني الدور الأكبر في إنماء المعارف والثقافة لا على الصعيد العلمي والفكري والأدبي فقط بل على الصعيد الخلقي والروحي.
ويعد (مير ببر علي أنيس)، و(ميرزا دبير) في طليعة شعراء القارة الهندية، ومن كبار شعراء المراثي الحسينية باللغة الأوردية, والأدب الهندي زاخر بشعر الرثاء الحسيني منذ مئات السنين.
يقول (مولانا عبد الواحد) وهو من كبار علماء الهند: (إن المجالس الحسينية مستمرة منذ مئات السنين وكانت تقام بأحسن وجه وأفضل صورة في عهود الملوك المسلمين المتشرعين ذوي النفوذ الكامل المطلق من أمثال (محمد أكبر) و(جيهانكير) و(شاه جهان) و(عالم كير) (7)
أبرز شعراء الرثاء الحسيني الهندي
كانت المرثية الحسينية في ذلك الوقت الفن الأكثر بروزاً في الأدب الهندي، وكان الشعراء يجدون في المرثية ملجأ روحياً سامياً يفيض عزاء ومواساة، وأشتهر منهم في الماضي: (مير أمين)، و(ميرزا غالب)، و(مولوي محمد حسين آزاد)، و(مولوي ألطاف) الذي كان ناقداً وشاعراً وكاتباً ومصلحاً، وكان أول شاعر ألف ديواناً شعرياً في الرثاء الحسيني هو (قلي قطب شاه) ملك (كولكندة) في جنوب الهند، ومن أشهر شعراء المرثية (غلام محمد جرامي) الذي كتب أشعاره باللغتين الأوردية والسندية، وتبعه الشاعر (محاسن) الذي أطلق على نفسه لقب (البلبل التائه في روضة الحسين)، وقد نشرت قصائده في (12) مجلداً وقد استقى محاسن معلوماته التاريخية حول واقعة كربلاء من المؤرخ الهندي الكبير (ثابت علي شاه) (1740 ــ 1810) الذي يعد أول من كتب عن مأساة كربلاء باللغة الأوردية.
وهناك أسماء أخرى كثيرة من الشعراء الهنود الذين تولعوا بالرثاء الحسيني وهاموا في سيرته العظيمة وصاغوا يوم كربلاء بأروع صور الحزن والأسى منهم (مير ضمير) وتلميذه العالم والشاعر (ميرزا سلامت علي دبير) الذي يعد حتى اليوم الأستاذ الأول ورائد رجال العلم وتعد كذلك مراثيه في الإمام الحسين ثروة أدبية كبرى لا تقدر بثمن ويعتبر هؤلاء الشعراء هم رواد التجديد في المرثية الحسينية الأوردية التي أخذت أبعاداً فكرية وعلمية في عصرهم حيث تناولوها بصور جديدة في الفداء والتضحية في سبيل الحق.
ودراسة هذا الأسلوب الجديد الذي اتخذه هؤلاء الشعراء وتعدد مزاياه وخصائصه يحتاج إلى دراسة مطولة لا يسعنا الآن التوغل فيها، ويأتي بعدهم شعراء كانوا على درجة كبيرة من الثقافة ودرسوا الأفكار الحديثة واكتسبوا كثيراً من العلوم والفلسفة العالمية استطاعوا أن يرسّخوا مفاهيم الثورة الحسينية بصورة أعمق في ذهن المتلقي وينمّوا إحساسه في الوقوف إلى جانب معسكر الحق ضد معسكر الزيف والباطل من هؤلاء الشعراء: (أوج)، و(مؤنس)، و(رفيع)، و(رشيد)، و(عشيق)، و(تعشق) وغيرهم
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
..........................................................
1 ــ تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند
2 ــ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب
3 ــ سر السلسلة العلوية
4 ــ من محاضرة له ألقاها في الندوة التاريخية في ميدان سومطرا الشمالية
5 ــ دراسات عن المسلمين المورو وتاريخهم / طبع في مانيلا عام 1905
6 ــ الفصل التاسع بين الصفحتين 164 ــ 181 من كتابه تاريخ الشيعة في الهند
7 ــ إزالة الأوهام
اترك تعليق