تجلّت في عاشوراء جميع القيم الرسالية، وذلك من خلال إيمان الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) وتضحيته وهو قائد جبهة الحقّ، في قبال الانحطاط الأخلاقي وهتك الحرمات في جبهة الباطل التي قادها الطاغية يزيد. وفي ساحة كربلاء امتزجت القيم الإنسانية، والعواطف السامية، وفداء الرسالة من وارث تراث النبوّة والإمامة، واصطدمت بالجفاء، والتنكّر للأعراف والأنساب، ممّن ورث العداء للإسلام، والجهل والانكباب على الدنيا. ومن جانب آخر، فإنّ نهضة سيّد الشهداء(عليه السلام) كانت حركة إنسانية قبل أن تكون أيّ شيء آخر، وقد تجلّى بُعدها الإنساني من خلال قراءة منطلقاتها وأدواتها وأهدافها، فهي تلبّي حاجة الإنسان في أيّ زمان ومكان؛ الأمر الذي يظهر من خلال الأقوال المباركة لسيّد الشهداء(عليه السلام)، فقد نبّه على خطر الانحراف الذي سوف يُصيب الأُمّة، ذلك الخطر المتمثّل بيزيد، قائلاً: (... وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد...)[1]، فالقضية هي في الصراع الأزلي بين الحقّ والباطل، وهو أمر مستمرّ في مختلف الأزمان، بغض النظر عن أديان القادة والشعوب، أو ألوانهم، أو أجناسهم. وممّا لا شكّ فيه أنّ موقع الإمام الحسين(عليه السلام) من الرسالة قد فرض عليه التصدّي للانحراف، ومَن أحقّ منه بالتغيير! ومَن أجدر منه بالعمل على إعادة الأُمّة إلى الدين القويم! وهو القائل: (... إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي، وأبي )[2]. وفي عاشوراء كان التجلّي الأكبر لخُلق إلهي عظيم وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[3]، وقد شرّعه تعالى كخُلق اجتماعي يُقوّم المجتمع، بما في ذلك السياسة، وكلّ ما يتعلّق بالشأن العام، وما يتعلّق بمصالح الناس. ويمكننا القول: إنّ عاشوراء بهذا المبدأ قد أحيت الإسلام من جديد، وإنّ الحسين(عليه السلام) قد نجح بتضحيته الجسيمة، واستطاع أن يوقظ الأُمّة؛ لتستعيد كرامتها وإرادتها وقدرتها على الاختيار، ولتتحمّل مسؤولياتها في التغيير، ومواجهة الظلم والعدوان الذي يمارسه الطاغوت بحقّها. وإذا كان الحسين(عليه السلام) قد بلّغ باستشهاده في عاشوراء رسالة الدم، فإنّ علي بن الحسين(عليه السلام)، وزينب الكبرى بنت أمير المؤمنين(عليهما السلام)، والحرائر من أهل البيت، كلّهم قد بلّغوا في رحلة السبي رسالة الكلمة المتمثّلة بمواجهة السلطان الجائر، وبذلك تكون الرسالة قد اكتملت، بتعانق الدم مع الكلمة، والشهادة والتضحية مع المواجهة الشجاعة ضدّ الجور والظلم. فقد كانت كلمات النساء في كربلاء تُعدّ دفعاً نحو النضال والثورة، وتشجيعاً عليهما، وحرباً على السلطة ونفوس أتباعها وجنودها، تُضعِف معنوياتهم، وتستثير ضمائرهم، وتُكمل رسالة الحسين(عليه السلام) في خروجه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن هنا؛ فلنا أن نسأل عن مواقف هؤلاء السبايا، والأدوار التي اضطلعوا بها، وأثرها القوي الذي جعلها تعبر الزمان إلى يومنا، وتستمرّ في استنهاض الأجيال القادمة؟ ولنا أن نسأل أيضاً: أيّ نصرٍ حقّقه يزيد في معركته ضد هؤلاء البررة؟! أم أنّه هُزم هزيمة نكراء إذا ما قورن المكسب العسكري بانتصار هدف الثورة في إعلاء كلمة الحقّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وديمومة هذه القضية ما دام صوتها يصدح بالأذان، وما دامت كلمات السبايا من أهل البيت(عليهم السلام) تخرق حجب الزمن لتستمرّ مع كلّ جيل. هذا، وأنّ البحث الذي بين يديك عزيزي القارئ هو محاولة للخوض في هذه التساؤلات من خلال معالجة المحاور التالية: أوّلاً: الهدف الرسالي للإمام الحسين(عليه السلام) من نهضته المباركة. ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خُلقان من خُلق الله. ثالثاً: العوامل المساعدة على استمرار دور السبايا إلى الزمن الحاضر. رابعاً: حقيقة النصر الكربلائي وثمرات الفاجعة. أوّلاً: الهدف الرسالي للإمام الحسين(عليه السلام) من نهضته المباركة قال الامام الحسين (عليه السلام) : (اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسُننك وأحكام..)[4] فمن خلال كلمات الإمام(عليه السلام) يظهر الهدف الأوّل من خروجه إلى كربلاء؛ وهو الإصلاح، إصلاح ما فسد من حال الأُمّة على يد الحكومات الطاغية، وإصلاح النفوس المريضة التي نأت عن مفهوم الرسالة، مع قرب العهد بها، وكذلك إصلاح ما أفسدته القوى الاجتماعية التي ملكت المال والإعلام والسلطة، هذه السلطة التي تعمّدت إذلال الإنسان، وميّزت بين فئات المسلمين المختلفة، بداية بالعطاء، ثمّ بكلّ شيء، السلطة التي استحوذت على مقدّرات الأُمّة، حتّى قال أحد ولاتها: (إنّما هذا السواد [ويقصد به سواد العراق] بستان لقريش)[5] ، تلك السلطة التي سلبت كرامة الإنسان بقهره وإجباره وقمعه، ومنعه من حرّية الاختيار، والحيلولة دون الإعراب عن رأيه في أيّ قضية من قضايا المسلمين العامة. ولإيضاح الأُسس والمرتكزات العقدية، التي بُنيَ عليها موقف الإمام الحسين ابن علي(عليهما السلام)، يمكن استعراض بعض بياناته، عند إعلانه الثورة على يزيد، ودعوته المسلمين للإطاحة به، حيث ورَد في بعض خطاباته(عليه السلام) للأُمّة: أنّ الإمام المفترض الطاعة لا بدّ أن يحوز على صفاتٍ محددة، وعلى الرعيّة رفض مَن لا يتّصف بها، ولو كان مستولياً على مقاليد الأُمور، وذلك من خلال قوله(عليه السلام): (فلعمْري، ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقِسط، الدائن بدِين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله)[6]. وإلى جانب ذلك فقد أحيا الإمام الحسين(عليه السلام) جمال الإسلام، من خلال إحياء فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي عطّلها الأُمويون، هذه الفضيلة التي كانت من أسمى أهداف بعثة الرسل والأنبياء، فتحمّل القهر والاستيلاء يُبرَّر حال الضرورة فقط حين تنعدم السبل، لكن لا يُبرَّر الرضا بالمنكر، كما لا تُبرَّر المتابعة على المعاصي بأيّ حال. قال الحسين(عليه السلام): (أيّها الناس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلمْ يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله، أَلا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله) [7]. هذا، وقد حفلت كتب التاريخ بالكلمات المستفيضة لأبي عبد الله(عليه السلام) في وصف خروجه إلى كربلاء، وأسباب خروجه ودوافعه، بما لا يدع مكاناً للشكّ، ولا يقبل المغالطة، أو التعتيم على حقيقة ثورة عاشوراء، بأنّها من أجل الإنسان، وإنّما يظلم نفسه أولاً مَن يحاول حصرها بفئة معيّنة، كما يظلم الثورة وصاحبها ثانياً، فإنّ (هدف الحسين ما كان هدفاً خاصّاً، حتّى تختصّ به فئة دون فئة، أو يقتصر على طائفة دون طائفة، بل كان هدفاً عالمياً، فعلى كلّ ذي شعور حيّ أن يحتفل بذكراه، قال الفيلسوف جبران خليل جبران: لم أجد إنساناً كالحسين سجّل مجد البشرية بدمائه. وقال الزعيم الهندي غاندي: تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً حتّى انتصر)[8]. ولذلك فمن الغبن التعامل مع ثورة الحسين(عليه السلام) على أنّها طائفية، أو أنّها تخصّ المسلمين فحسب؛ لأنّها ثورة إنسانية، همّها الأوّل الإصلاح، والعودة إلى النهج القويم، وفي قول السبط(عليه السلام) في حقّ يزيد: (ومثلي لا يبايع مثله)[9] ، ما يدلّ على هذه الحقيقة، فهو النموذج في رفض الظلم، والقدوة للتالي من الأجيال، وإن كان الثمن قتل الطواهر، وسبي الحرائر. وفي هذا الصدد يقول العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية ما نصّه: (إذا كان الحسين مقتولاً لا محالة، فليكن ثمن قتله واستشهاده ذهاب دولة الباطل من الوجود، وخلاص المسلمين منها، ومن الجور والبغي.. ولا طريق للخلاص إلّا بانفجار الثورة على الأُمويين وسلطانهم... وكان ذبح الأطفال، وسبي النساء، والتطواف بهنّ من بلد إلى بلد، من أجدى الوسائل لانفجار الثورة التي هزّت دولة البغي من الأركان... لقد رأى المسلمون في السبايا من الفجيعة أكثر ممَّا رأوا من قتل الحسين، ولولاهنّ لم يتحقّق الهدف من قتل الحسين، وهو انهيار دولة الظلم والطغيان..)[10]. كما أنّ الشهيد مرتضى مطهّري قد أحسن في هذا الصدد عندما كشف اللثام في بحثه عن حقيقة النهضة الحسينية بقوله: (إنّ الحسين بن علي(عليه السلام) يمكن أن يقال عنه: بأنّه أضاف بحقّ قيمة على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحين نقول: بأنّ هذا المبدأ يرفع من قيمة المسلمين وأهمّيتهم، فإنّنا لا نأتي بحديث من عندنا، بل إنّ ذلك جاء في صريح القرآن الكريم؛ إذ يقول: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ... )[11] فانظروا أيّة عبارات جاء بها القرآن! والإنسان حين يُدقّق فيها تُصيبه الحيرة والدهشة، إنّ الذي يُضفي القيمة على هذه الأُمّة الخيّرة هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن في النهضة الحسينية نلاحظ أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) هو الذي شرّف هذا المبدأ بدمه الزكي الطاهر، ودماء أهل بيته وأصحابه الميامين)[12]. إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد حدّد معالم نهضته لتكون أهدافه واضحة، وغير خافية على أحد، فكتب في وصيّته إلى أخيه محمد بن الحنفية، قائلاً: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر... فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين)[13]. وعلى العموم، فإنّ ثورة عاشوراء قد اتّخذت أساليب ومحاور خاصّة بها، بهدف إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح الفساد الاجتماعي من خلال إيصال رسالة الثورة إلى الجميع، وبلورة منهج المواجهة السياسية والثقافية للأجيال القادمة. ولذلك؛ نرى الإمام(عليه السلام) جاء بجميع أهله وعياله أيضاً؛ لأنّه أرادهم أن يكونوا رسلاً لثورته من بعده، فقد أراد(عليه السلام) أن تتوسّع رقعة الثورة وتمتدّ في المكان والزمان، وهذا ما تجلّى بالفعل من خلال أدوار السبايا عموماً، ودور الحوراء زينب(عليها السلام) الأعظم على وجه الخصوص، فإنّ (قضية كربلاء بأحداثها المروّعة لم تكن مفاجئة للسيّدة زينب، ودورها في تلك الواقعة لم يكن عفوياً ولا من وحي الصدفة، فقد كانت مهيّأة نفسياً وذهنياً لتلك الواقعة، وكانت تعلم منذُ طفولتها الباكرة بأنّ تلك الحادثة ستقع، وأنّها ستلعب فيها دوراً رئيسياً بارزاً)[14]. ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خُلقان من خلُق الله قال الله تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [15]، وقال أيضاً: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[16] ، وقال عزّ من قائل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[17]. الملاحظ من هذه الآيات القرآنية أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من صفات الأُمّة الإسلامية، ومن أسباب رقيها، وبلوغها درجة (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، وهي أيضاً دليل ولاية الله سبحانه التي جعلها بين المؤمنين، ووسيلة رحمته، فمن حقّ المؤمن على أخيه أن يأمره بالمعروف، وأن ينهاه عن المنكر، وبالمقابل فمن واجب المؤمن أن يستجيب لأخيه إن أمره أو نهاه، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، من واجب الإنسان المؤمن الذي يعي خطر وقوع الناس في الانحراف، أن يشعر بمسؤوليّته تجاه تغيير معالم الانحراف؛ ليكون أنفع للإسلام، وأكثر عطاء وفائدة للمسلمين، وأن لا يتّخذ الوهن إلى قلبه سبيلاً، ولا الحزن والتردّد، قال رسول الله(صلى الله عليه واله): (لا يحقرنّ أحدكم نفسه إذا رأى أمراً لله(عز وجل) فيه حقّ، إلّا أن يقول فيه، لئلّا يقفه الله(عز وجل) يوم القيامة، فيقول له: ما منعك إذ رأيت كذا وكذا أن تقول فيه؟ فيقول: ربِّ خفت. فيقول الله(عز وجل): أنا كنت أحقّ أن تخاف)[18]. ولعلّ التأكيد على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو من باب أنّه الباعث على ديمومة الجذوة الإسلامية، وأنّه كذلك سلطة وقائية للفرد والمجتمع من الانحراف، وقد أُثر عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: (إنّه لم يهلك مَن كان قبلكم من الأُمم، إلّا بحيث ما أتوا من المعاصي، ولم ينههم الربانيّون والأحبار، فلمّا تمادوا في المعاصي، ولم ينههم الربانيّون والأحبار، عمّهم الله بعقوبة...)[19]. فقد يُساهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إبعاد المجتمع عن خطر الوقوع في الفتنة؛ لأنّه يمنع من انتشار المنكر، أو يقضي عليه، فيكون اتّقاء الفتنة بتعميم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات والفرائض، ومن ضروريات الدين، ووجوبهما له مراتب، وللقائم بهما شروط[20]، فلا يجوز لأيٍّ كان القيام بهما إلّا ضمن القواعد والشروط، كما لا يمكن له الانتقال من مرتبة إلى أُخرى مع احتمال تأثير المرتبة السابقة وكفايتها. أ ـ مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المرتبة الأُولى: أن يقوم المكلّف بفعل يُظهر به انزجاره القلبي عن فعل المنكر، وتذمّره من ترك المعروف، وذلك كالإعراض عن الفاعل، أو ترك الكلام معه. المرتبة الثانية: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالقول واللسان، وللقول مراتب، بدءاً من القول الليّن والوعظ والإرشاد، إلى الكلمات الآمرة والزاجرة، ووصولاً إلى غلظة القول. وعليه، فالتنوع يكون في هذه الرتبة وفقاً للأشخاص والظروف. المرتبة الثالثة: أن يتّخذ إجراءات عملية للإلزام بفعل المعروف وترك المنكر. ولكلّ مرتبة من هذه المراتب درجات متفاوتة شدّةً أو ضعفاً، ويجب الابتداء بالمرتبة الأُولى، فالثانية وهكذا، مع مراعاة ما هو أكثر تأثيراً وأخفّ إيذاءً، ثمّ التدرّج إلى ما هو أشدّ منه. وأمّا ما كان في كربلاء فهو التجلّي الحقيقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي شمل جميع مراتبهما، فقد بدأ الإمام(عليه السلام) حركته كما بيّن علي شريعتي في بحثه عن (حقيقة النهضة الحسينية) حتّى لو لم يُطلب منه مبايعة يزيد، ولم يُطالبه أهل الكوفة بالقدوم إليهم؛ لأنّه كان يرى من واجبه النهوض لأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالفساد كاد أن يعمّ العالم الإسلامي آنذاك[21]. فأصل حركة الحسين(عليه السلام) في امتثال أمر الله تعالى كانت للأمر بالمعروف، وكان يطلب ثواب الله وجزاءه الأُخروي، تماماً كما يفعل أيُّ مؤمنٍ حين يؤدِّي أيَّ واجب ديني، وقد أدّى الحسين(عليه السلام) رسالته في أقسى الظروف؛ كي لا يبقى لأحد عذر إن قست عليه الظروف. وقد حاول الإمام(عليه السلام) الإصلاح بالحركة والنهوض، كما حاول الإصلاح المباشر من خلال الكلام والخُطب والمواعظ التي تناقلتها كتب التاريخ، ومنها: ما قاله(عليه السلام) في مسيره إلى كربلاء عندما ورد كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحرّ الرياحي يلومه، ويأمره بالتضييق على الإمام(عليه السلام): (إنّ الدنيا قد تغيّرت، وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حذاء، ولم تبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، أَلا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برماً)[22]. وبعد مقتل الإمام(عليه السلام) تابعت السبايا من أهل البيت(عليهم السلام)، والحرائر ممّن لازمهم وانتهج نهجهم سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يمكن القول: بأنّ الدور المكمّل لثورة كربلاء هو ما قام به الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) بعد الأسر، والسيّدة زينب(عليها السلام) بعد السبي، لا سيّما الكلمات التي استنكرت بها في محضر السلطة بعد الكراهة القلبية فعل يزيد وابن زياد، والقوّة الغاشمة غير آبهة لما يمكن أن يتلوها من قتل أو تنكيل، طالما كان القول في طاعة الله، وهو فرض إلهي يجب التزامه وتأديته. و لقد شاهدت السيّدة زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد مشاهد وقضايا، وسمعت من يزيد كلمات تُعتبر من أشدّ أنواع الإهانة والاستخفاف بالمقدّسات، وأقبح أشكال الاستهزاء بالمعتقدات الدينية، وأبشع مظاهر الدناءة واللؤم، فهل يصحّ ويجوز للسيّدة زينب(عليها السلام) أن تسكت، وهي تعلم أنّ بإمكانها ردّ دعاوى يزيد، وتفنيد أباطيله، فهي مسلّحة بسلاح المنطق المفحِم، والدليل القاطع، وقدرة البيان، وقوّة الحجّة، فقد بدأت(عليها السلام) بكلام الله تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون)[23]. ثمّ أردفت قائلة: (أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيّقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في أُسار، نُساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هواناً، وعليك منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأُمور لديك متّسقة، وحين صفى لك ملكنا، وخلُص لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيت قول الله(عز وجل): (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)؟![24]. ولعلّ التكليف الشرعي فرض عليها أن تكشف الغطاء عن حقيقة يزيد للحاضرين في ذلك المجلس الرهيب؛ لأنّ المجلس كان يحتوي على شتّى طبقات الناس، وقد خدعتهم الدعايات الأُمويّة، وجعلت على أعينهم أنواعاً من الغشاوة، فصاروا لا يعرفون الحقّ من الباطل، وعلامات الفرح والسرور تبدو على الوجوه؛ بسبب انتصار السلطة على عصابة، عرّفتهم أجهزة الدعاية الأُمويّة بصورة مشوّهة، فقالت(عليها السلام): (أَمِنَ العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناقل، ويتبرّزن لأهل المناهل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدنيء والرفيع)[25] ومن العجيب أنّ يزيد وهو طاغوت زمانه وفرعون عصره لم يستطع، أو لم يتجرّأ على أن يردّ على السيّدة زينب(عليها السلام) كلامها، بل كان يشعر بالعجز والضعف عن مقاومتها(عليها السلام). ويظهر الدور الرسالي للسيّدة زينب(عليها السلام) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في خطبتها لأهل الكوفة، وقد أشعرتهم فيها بعظم الذنب، ونتيجة التقصير والتخاذل، حيث قالت(عليها السلام): (أَلا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟! أجل والله، فابكوا، فإنّكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها، ولن ترحضوا أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة)[26]. وكما أنّ وعي السبايا من أهل البيت(عليهم السلام) بأهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموقعهما من قيام الإسلام، وانتشار شعائره، حدا بهم للقيام بدورهم الأمثل، في محاولة لتقويم الانحرافات، وتصحيح الإعوجاج. وفي خطبة فاطمة الصغرى(عليها السلام) بعد انتهاء معركة الطفّ وخروج السبايا من كربلاء أكبر دليل؛ حيث خطبت في أهل الكوفة، وبيّنت بالكلمة ما كان من نقضهم للمواثيق، وتخاذلهم عن نصرة الامام فقالت: (فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنّ قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيُسحتكم بما كسبتم، ويُذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا،أَلا لعنة الله على الظالمين، ويلكم أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم، أو أيّة نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأيّة رجل مشيتم إلينا، تبغون محاربتنا؟! قست قلوبكم، وغلُظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان، وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة، فأنتم لا تهتدون)[27]. إنّ المرتبة الثالثة من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت جليّة من خروج الحسين(عليه السلام) في عاشوراء، وبما جرى عليه وعلى أهل بيته من قتلٍ وذبحٍ وسبي، فبالموقف العملي أثبت هو وأهل بيته(عليهم السلام) أنّه قد انتقل إلى آخر مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صدامه مع هؤلاء الطغاة الذين لم يُؤثّر فيهم الاستهجان القلبي، ولم تُغيّر الكلمة الصادقة والمفحِمة انحرافهم، ولم تُقوّم بإخلاصها اعوجاجهم. ب ـ شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا شكّ في أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من فروع الدين، وهما واجبان شرعيان على المكلّف، لكنّ الشارع جعل لتحقّقهما شروطاً، أثبتتها الكتب الفقهية[28]؛ حتّى يؤتي نباتهما الثمار، وهذه الشروط هي: 1ـ أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارفاً بهما، مميّزاً للمعروف عن المنكر. 2ـ أن يحتمل تأثير إنكاره؛ فلو غلب على ظنّه، أو علم أنّه لا يؤثّر، لم يجب عليه شيء. 3ـ أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار؛ فلو لاحت منه أمارة الامتناع، أو أقلع عنه، سقط الإنكار. 4ـ أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله، أو إلى أحد من المسلمين سقط، إلّا إذا أحرز كون فعل المعروف، أو ترك المنكر من الأهمّية عند الشارع المقدّس؛ بما يهون دونه تحمّل الضرر والحرج. وهذا ما أدركه الإمام الحسين(عليه السلام) وهو العالم بذلك، وهذا ما تابعه عليه السبايا من أهل بيته، ومن الأحرار. فالتكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الرغم من أنّه يسقط عادةً عند خوف الإضرار المشار إليه، لكنّه في كربلاء حافظ على ثبوته رغم إضراره بحياة الإمام ومَن خرج معه؛ إذ كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأُمور المهمّة شرعاً، وكان لا بدّ من الموازنة بين الجانبين من جهة درجة الاحتمال، وأهمّية المحتمل. ومع خطورة المحتمل، وهو التهديد بمحق الدين، والعودة إلى الجاهلية الأُولى، كان لزاماً على الإمام(عليه السلام) القيام بواجبه، كما كان لزاماً عليه تأهيل جيش من النساء والأطفال للاستمرار بهذا الواجب. فقد كانت السيّدة زينب(عليها السلام)، وهي العالمة غير المعلَّمة، والفهمة غير المفهَّمة، تُدرك مكان الكلمة والفعل وزمانهما الصحيحين؛ وذلك من أجل حصول التأثير المناسب بالمنحرفين عن جادّة الصواب. فهي لا تقنط من الإصلاح ولو في محضر يزيد، وهو المتسلّط على زمام الحكم، فتنفض عنها ما يظهر من أسى، وهي المرأة الثكلى، وتترك الكلمة تعمل عملها، وتحاول التأثير في قلوب ران عليها ظلم أصحابها، وتُعيد إلى الأذهان المتناسية، وإلى العقول المضلّلة موقع أهل البيت(عليهم السلام) من الرسالة، وأحقيّة دورهم في التغيير الإيجابي لصالح المظلومين والمحرومين، وتصرخ في مجلس يزيد قائلة له: (فوالله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب، والنبوّة والانتخاب، لا تُدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد؟! يوم يناد المنادي: ألا لعن الله الظالم العادي)[29]. وفي ذروة المصاب، ومهما ظهرت الأحزان في ثنايا الكلام، وبلغ التشكّي مداه، يبقى اعتراضاً واستنكاراً على الظلم والظالمين، ونبذاً للرذيلة وأصحابها، وليس فيه اعتراض على الله، بل كما في جواب العقيلة(عليها السلام) حينما دخلت إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها، وقال: (كيف رأيتِ صُنعَ الله بأخيكِ وأهل بيتكِ؟ فقالت: ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذٍ، هبلتك أُمّك يابن مرجانة)[30]. ولا مغالاة في القول إن قلنا: إنّ أُمّهات الشهداء وزوجاتهم وبناتهم ممّن خرجن مع الحسين(عليه السلام) في عاشوراء قد اقتدين بزينب(عليها السلام) اقتداءً رائعاً، حتّى أنّهنّ قد دفعن بأزواجهنّ وأبنائهنّ نحو القتال بين يدي الإمام الحسين(عليه السلام)، من منطلق الوعي للدور العظيم المنوط بهنّ، وضرورة القيام بالواجب في سبيل الله، وطلباً لنيل ثوابه، ورحمته ومرضاته. لا شكّ في أنّ هذا الاقتداء كان له الأثر الكبير في تنامي روح المقاومة وازديادها وترسيخها كمسار للعزّة والكرامة. ثالثاً: العوامل المساعدة على استمرار دور السبايا إلى الزمن الحاضر قال علي شريعتي في كتابه (الحسين وارث آدم): (إذا لم يترك الدم رسالته لكلّ الأجيال، ويدوّي صوته في كلّ العصور، فسوف يستوعبه الجلّاد، ويحصر الشهيد في عصر واحد وزمن واحد، ولو لم تنقل زينب خطاب كربلاء للتاريخ، لدُفنت كربلاء في التاريخ، وحُرم منها المحتاجون إليها)[31]. وطالما تتكرّر المظلوميات في كلّ عصر وزمان، وتستجدّ أُخرى، وتنزع النفوس الملوّثة بالإثم إلى الطغيان، وتلحّ الحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّه لا بدّ من الاعتبار بدروس كربلاء، وبحركة السبايا فيما بعد عاشوراء؛ الأمر الذي يستدعي حفظ المأساة ونتائجها حيّة غَضّة إلى آخر الأزمان، وتمكين الوسائل المساعدة على استمراريتها. أ ـ تأثير السبايا ودورهم الإعلامي بعد واقعة كربلاء لعلّ سرّ مشاركة النساء والأطفال في قافلة الثورة الحسينية ينجلي بما حدّث عنه التاريخ من جواب الإمام الحسين(عليه السلام) لمحمّد بن الحنفيّة، عندما سأله عن سبب اصطحاب الأهل والنساء في مسيره إلى الكوفة، فأجابه قائلاً: (إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا)[32]. أي: أراد الله لهنّ هذا الدور؛ لتكتمل الثورة بعد استشهاده(عليه السلام)، وليكون ثمّة ناطقون أمام المجتمع بأهدافه، وأهمّية مقتله، والإزدراء بأعدائه، ولتُمارس النساء الإعلام الواسع؛ حينما لا يكون الرجال قادرين على ذلك بعد موتهم واستئصالهم. فالله تعالى أراد لهنَّ هذا الدور؛ نظراً لما للمرأة وكلامها من التأثير العاطفي في النفوس، وإثارة المشاعر، ولا سيّما إذا كانت المرأة من حرائر بيت النبوّة، ممّن تمتلك مقاليد البيان، وتتحلَّى بالشجاعة الأدبية. لقد أثار سبي أهل البيت بتلك الصورة المأساوية[33]، مشاعر الناس لصالح جبهة الحقّ، وحالت خُطب السيّدة زينب والإمام السجّاد(عليهما السلام)[34] دون تحريف التاريخ، وتعلّمت عوائل الشهداء على مدى الأيّام أن يقفوا موقف السبايا الخالد، فنصرة الحقّ عندما تكون من الشهداء بالدماء، لا بدّ لذويهم من حفظ دمائهم، وإيصال رسالة ذلك الدم. ولقد كان أوّل هدف للسبايا وأعظمه بعد واقعة كربلاء، إظهار الجانب المأساوي لتلك الواقعة؛ لتبقى راسخة في ضمير الأجيال اللاحقة، تستثير فيهم حوافز الخير والفضيلة، وتنبّه الأُمّة؛ ليهلك مَن هلك عن بيّنة، ويحيى مَن حيّ عن بيّنة. وتحت عنوان كبير للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قامت هؤلاء النسوة بتحويل ماهيّة السبيّ إلى حرّية، يتعلّم منها الأسرى الحقيقيون درس الصمود والحرّية. لم يقتصر دور السبايا على التعريف بالثورة، وفضح أعداء الحسين(عليه السلام) في كلّ جيل، والردع لكلّ حاكمٍ ظالم على مدى التاريخ، بل شمل أيضاً، ومن خلال إذاعة الأهداف الإلهية لقيام الحسين(عليه السلام)، هداية الناس نحو طاعة الله(عز وجل) والتربية الصالحة، والتمرّد على كلّ ظلمٍ وفساد، وعصيان الشهوات، سواء كان في المجتمع، أم في النفس الأمّارة بالسوء. ب ـ تجسيد السبايا لمظلوميّة أهل البيت استطاع السبايا من أهل البيت(عليهم السلام) أنْ يُعطوا الثورة أبعادها الحقيقية، وأن يوجدوا القوّة التأثيرية في النفوس؛ وذلك من خلال إبراز سلاح المظلومية التي أثارت غضب الجماهير ضدّ المعتدين الظالمين، ودفعتهم إلى الوقوف بجانب أهل الحقّ والمظلومين. فالمظلومية أشدّ تأثيراً في ضمائر الناس، فهي توقظ وجدانهم، وتُؤجّج عواطفهم، وتُلهب مشاعرهم. ولقد انطلق صوت زينب(عليها السلام) في مجلس يزيد وابن زياد وفي كلّ فرصة سانحة، ليفضح قوى البغي، وما ارتكبته من جرائم بحقّ البشرية، بقتلها لنبراس الهداية الإمام الحسين(عليه السلام)، بعد أن عتّمت تلك القوى على الوقائع، وشوّهت الحقائق. ومن كلامها(عليها السلام) في مجلس يزيد: (اللّهمّ خذْ لنا بحقّنا، وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا، وقتل حماتنا... لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، أَلا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي، تنتابها العواسل، وتعفّرها أُمّهات الفراعل)[35]. ومَن هو أولى من السيّدة زينب(عليها السلام) بالتعريف بمكانة نهضة الحسين(عليه السلام) في الرسالة الإسلامية؟! ومَن الأقدر على تحصيل الهدف الأسمى في التأثير في النفوس، من خلال خُطب تستنهض العواطف المهملة، وتؤجّج المشاعر الميّتة غضباً وسخطاً على الطغاة وأعوانهم، لا سيّما عند تحديد موقع الظُّلامة، ولفت الانتباه إليها؟! فهل خروج الإمام الحسين(عليه السلام) وهو صاحب الحقّ الشرعي ومقتله مع أهله وأصحابه إلّا لرفع الظلم عن الدين، وإعادة وجهه المشرق إليه بعد تشويهه وقرب اندثاره؟! (إنّ المواقف العاطفية الوجدانية التي قامت بها السيّدة زينب؛ حيث كانت تبكي وتتألّم وتنعى وتندب وتستغيث وتستصرخ، لم تكن مجرّد ردود أفعال عاطفية على ما واجهته من مآسي وآلام، بل كانت تلك المواقف ـ فوق ذلك ـ سلاحاً مُشرعاً تُصوّبه نحو الظلم والعدوان، وتُدافع به عن معسكر الحقّ والرسالة)[36]. وأمّا بعد العودة إلى مدينة رسول الله(صلى الله عليه واله)، أصبح الهمّ الدائم والوظيفة الأُولى للسيّدة زينب(عليها السلام) ومَن كان معها من السبايا، هو تذكير جماهير الأُمّة بمظلومية الحسين(عليه السلام) وأهل بيته، وتخليد المأساة العظيمة في كربلاء، والحديث عن الواقعة بما يُؤجّج العواطف، ويُلهب المشاعر، ويُحرّض الناس على الحكم الفاسد الظالم، والمظلومية عادة ما تعبّئ الأتباع المناصرين، وتدفعهم إلى الالتفاف أكثر حول معسكرهم وقضيتهم، كيف لا! وكلّ واحدة من السبايا تُعتبر شاهدة حاضرة للواقعة، منكوبة بها، قادرة على نقل صورها التي ما زالت شاخصة أمام عينيها إلى عموم الجماهير. ج ـ دور مجالس العزاء في إبراز أهداف نهضة عاشوراء إنّ استمرار أيّ قضيّة وانتقالها عبر الأجيال لعصور متباعدة، مرهون بقوّة الإعلام الذي سُخِّر لهذه القضية، بما يجعلها راسخة في النفوس، خصوصاً عندما تنطلق هذه القضية من مبدأ عقدي، يسعى معتنقوه لحفظه في الأبناء الذين بدورهم ينقلونه إلى الأبناء اللّاحقين، وهكذا حتّى لا يضيع من الذاكرة. والحال أنّ واقعة كربلاء قد بُنيت على أهداف دينية، ومبادئ سامية، فلا غرو من تكريس النفس والنفيس لحفظها من تشويه الطغاة، وحماية منطلقاتها من تزييف المدّعين الذين حاولوا جاهدين طمس الحقائق، وتبديل المسمّيات، بل وتغييب أهمّ أهداف خروج الإمام الحسين(عليه السلام)، ومَن تابعه من السبايا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقد استعذب الإمام الحسين(عليه السلام) القتل، وتحمّل مَن بقيَ من أهل بيته السبي؛ لتقويم المسار الإنساني، وتصحيح الفكر البشري، وإزالة الفساد الفكري، وتبديل الأعراف الفاسدة إلى أعراف صحيحة، والمحافظة على الأعراف الصحيحة، وغيرها من الإصلاحات التي يمكن الاستفادة منها اليوم من خلال شعائر ذكرى سيّد الشهداء(عليه السلام)، وإقامة المآتم ومجالس العزاء؛ للتعبئة الروحية، مع البُعد الزمني عن الواقعة، فالروح تميل إلى الأحداث المؤثّرة، ولو كانت تاريخية، والإنسان بفطرته ينفر من الطغيان. وإضافة إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلقان من منطلق المسؤولية، هذه المسؤولية التي لا تقف عند حدّ الحاضر، بل هي متعلّقة بأعماق التاريخ؛ وذلك لأنّ معرفة موقف المسلمين من يزيد وابن زياد وعصبتهما في التاريخ القديم، له فوائد في الزمن الحاضر وفي كلّ زمان ومن أهمّ فوائده أَلّا يكون بين المسلمين من أمثال يزيد في أفعاله، واستهتاره بالدين والقيم والشخصيات الإلهيّة، بل حتّى الشخصيات المرجعية، وأَلّا يكون منهم ابن زياد والشمر، وأن ينصروا حسينهم في كلّ مكان، ويرفعوا الظلم عن سباياه في كلّ عصر. ومن هنا؛ تتبيّن أهمّية إحياء ذكرى عاشوراء، وتكرار قصص السبايا ومواقفهم الخالدة، فهي تربّي الأجيال جيلاً بعد جيل، وتؤدّي دورها الموروث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُحيي القلوب التي قد ماتت، أو أوشكت أن تموت، كما روي عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنّه قال: (...ومَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)[37]. ويذكر التاريخ بأنّ المسلمين قد تأثّروا بما جرى في كربلاء من قتلٍ وسبي، فقامت مجالس العزاء بشكل عفوي، وامتدّت بين المسلمين، لا سيّما بعد عودة (الجنود إلى بلدانهم وقبائلهم، ينشرون الأخبار عن الهول الذي رأوه، وشاركوا في صنعه، وعن النهاية الفاجعة للثائرين. وشاهدَ الناس على امتداد الطرق من كربلاء والكوفة والشام والمدينة قافلة السبايا والرؤوس، وانفعلوا بالمآتم العَرَضية العائلية، التي كانت تُقام هنا وهناك. ولا بدّ أنّ الانفعال العفوي بالثورة ونهايتها المأساوية، بما يُثيره من حزنٍ عميق وأسىً بالغ، قد أعطى الناس الذين عرفوا بما حدث مبرّراً للتجمّع، ومادّة للحديث، وحافزاً على مراجعة المواقف والآراء)[38]. وكان مجرّد وجود السيّدة زينب(عليها السلام) مع أغلب السبايا في مدينة رسول الله(صلى الله عليه واله) بعد العودة من مسير السبي كافياً لإيقاد نار الأسى على شهداء كربلاء، ومحرّكاً لروح الثورة على الطغاة وسفّاكي الدماء، وفرصة ثمينة لتعزيز أهداف الخروج إلى كربلاء، المتجلّية بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثمّ تعمّقت المجالس ببركة اهتمام الأئمّة(عليهم السلام)، فقد كانوا يتحرّون المناسبات المختلفة للتذكير بالفاجعة، والتفاعل معها، والحثّ الدائم على زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) والبكاء عليه، حتّى غدت مجالس العزاء بالمستوى الحالي مناسبة مهمّة لمعالجة الفساد، ووسيلة متجدّدة ومستدامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتُعدّ محاور الكلام في المجالس الحسينية ومآتم العزاء استمراراً لإعلام السبايا، الذي تمركز في عدّة نقاط، من أهمّها: 1ـ الحديث عن فاجعة الطفّ، وإنكار ما فيها من بشاعة الجريمة. 2ـ بلورة الفكر الثوري والروح الجهادية، من خلال استذكار البيانات الخطابية للسبايا فيما تلا الواقعة، هذه البيانات التي كانت المحرّك لانطلاقة العديد من الثورات في وجه الأُمويّين، كثورة زيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن زيد، وما زالت في زماننا فرصة لاستنهاض الهمم والإرادة في مرحلة التحدّيات الراهنة. فدماء الحسين(عليه السلام) في كربلاء انتصرت على كلّ الجلّادين في آتي العصور، ببركة حركة السبايا ومواقفهم الخالدة، وأكبر تجلٍّ لهذا الانتصار في الزمن الراهن، قيام الإمام الخميني(قدس سرة) بثورة قادها ببركة هذه الدماء، وبالاستفادة من هذه الكلمات، ثورة إسلامية قامت في إيران، متّخذةً من انتصار الدم على السيف في عاشوراء شعاراً تتغنّى به في انطلاقتها ضدّ الطواغيت والمستكبرين. 3ـ كشف الزيف الذي عاشه الأُمويّون لا سيّما يزيد لأبناء البشرية، ليرفضوا التلبّس بلبوس يزيد ومَن تابعه، مع إسقاط الزمن الماضي على الوقائع المعاصرة، والإفادة من العِبر التاريخية. 4ـ بيان دور القدوة والمثل الأعلى؛ من خلال الحديث عن مقام أهل البيت (عليهم السلام) ومنزلتهم في الإسلام والقرآن، ونشر أخلاقهم المتمثّلة بالصدق، والأمانة، ولين الجانب، وغيرها، والتأكيد على أدائهم لتكليفهم الشرعي مع تنوّع أدوارهم. 5ـ الاستفادة من الفرصة الروحية والنفسية التي تتجلّى في ذكرى عاشوراء، والانفعال العاطفي بسبب ما جرى فيها من أحداث، فالبكاء على الشهداء كان سبباً منذُ زمن الفاجعة لإثارة عواطف الناس، وإضفاء البُعد المأساوي على الواقعة، ممّا أدّى إلى الإسهام في تخليدها، وتعميق أثرها. قال الشيخ مصباح اليزدي: (إنّ الإنسان لا تُحرّكه المعرفة فقط، بل إنّ العاطفة لها دور أساسي أيضاً في تحريكه، وهذه العاطفة لا بدّ من تقويتها حتّى تؤدّي دورها، والذي يقوّي العاطفة هو إحياء الشعائر الحسينية)[39]. وقد أكّد أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) على ظاهرة البُكاء والحُزن في علاقة الجماهير الإسلامية بالثورة الحسينية المقدّسة، والانطلاق من ذلك للتذكير بظُلامة أهل البيت(عليهم السلام)، وظُلامة الحقّ الذي يحملونه، وظُلامة المعروف الذي يدعون إليه، فكانوا يحثُّون شيعتهم على عقد المجالس العزائية، وإقامة المآتم الحسينية. قال الإمام الرضا(عليه السلام) في حديث له: (فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام)[40]؛ وذلك لأنّ البكاء يُرقّق القلب، ويُقرّب الإنسان إلى الفضائل وأهلها، ويختصر الطريق إلى الله، ويجعل في قلوب المؤمنين حرارة لن تبرد طالما ذُكر الحسين(عليه السلام) وذُكرت عاشوراء، وطالما ذُكرت زينب(عليها السلام) مع السبايا، وتداول قرّاء العزاء هذه المصائب جيلاً بعد جيل. وممّا تقدّم نُدرك لماذا أُنيط بالسبايا أداء هذه الفريضة الربانية المتمثّلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكمان اللذان ينطلقان من منطلق المسؤولية تجاه الفرد الإنساني عموماً، والفرد المؤمن خصوصاً، المسؤولية التي لا تقف عند حدّ حاضر السبايا، بل تمضي مع الأيام، من خلال توالي المجالس العاشورائية؛ لتُغيّر الموروثات الجاهلية للإنسانية، ولتُظهِر بجلاء لا سيّما مع البُعد الزمني عن الواقعة ماهيّة النصر في كربلاء وحقيقته. رابعاً: حقيقة النصر الكربلائي وثمرات الفاجعة يذكر التاريخ من خلال مجمل الوقائع والحوادث التي مرّت فيه أنّ النصر والهزيمة العسكريين ليسا من علامات الحقّ والباطل، فليس كلّ منتصر في معركة على حقّ، كما أنّه ليس كلّ مهزوم على باطل، فلا اعتبار للتفوّق العسكري وغيره من المقاييس الظاهرية والآنية في حساب النصر والهزيمة الواقعيين والدائمين، هذا من الناحية العامّة. وأمّا من ناحية حديثنا عن معركة الطفّ على وجه الخصوص، فإنّنا نجد أنّ تحديد جهة النصر الواقعي في كربلاء، قد بيّنها الإمام زين العابدين(عليه السلام) في جوابه عمّن انتصر فيها بقوله: (إذا أردت أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذّن ثمّ أقم)[41]. فاستمرار الأذان يصدح على المنابر، هو تكريس لاستمرار الدين الإسلامي الذي كان قد حفظه محور الشهادة، والسبي في كربلاء. (فالثورة عندما قامت استمدّت عزمها من روحية الشريعة، وكانت تهدف إلى إعادة بثّ هذه الروحية في نفس كلّ مسلم، ولو كان التصور يقف عند حدود إزالة دولة الأُمويّين، لما عنى الحسين(عليه السلام) نفسه بهذه الثورة، لكنّه كان عارفاً بأنّه خاسر معركة؛ ليكسب الحرب على الظلم عامّة، والانتصار على مسبّبات ضعف العقيدة)[42]. هذا، وأنّ العائلة المفجوعة التي لم يبقَ فيها سوى النساء والأطفال، ومن الرجال الإمام العليل زين العابدين(عليه السلام)، هي التي مهّدت الأرضية الصالحة لبيان تلك الحقيقة، ولعلّ مواقف السبايا لتجلية الحقّ في كربلاء، وفيما بعد كربلاء، كان له الدور العظيم الذي يضاهي دماء الشهداء في بيان علل خروج الإمام، ومظلومية الشهداء، ومظلومية الأُمّة بحرمانها من القيادة الربّانية. فقد أكّدت حفيدة الرسول(صلى الله عليه واله) السيّدة زينب في كلماتها بين يدي يزيد، أنّ ما ارتكبه في حقّ أهل البيت، لن يؤثِّر على مقامهم الرفيع، وجلالهم الربّاني، وخلود قضيّتهم؛ لأنّ قيامهم إنّما كان مِن أجل الله والإسلام، فمآل قضيّتهم هو البقاء، وخلود ذكرهم في أفكار البشرية وضمائر أجيال الأُمّة، حيث قالت (عليها السلام) ليزيد: (فو الله، ما فريت إلّا جلدك، ولا حززت إلّا لحمك، ولتردنَّ على رسول الله بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[43]. وقد بيّنت السيّدة زينب(عليها السلام) من خلال قولها هذا أنّ الله قد كفل لهم كشهداء الحياة عنده في النعيم الدائم، إضافة إلى حياة قضيّتهم ونهجهم، حيث ترفعهم الأجيال المتعاقبة شعاراً، وتستمدُّ من مواقفهم روح القوّة والصمود، كلّما قام في أُمّة يزيدها، وضلّ عن الدرب القويم عُبيدها. نستخلص ممّا سبق 1ـ إنّ ماهيّة ثورة الطفّ قائمة على إنقاذ الناس من الضلالة والانحراف، من خلال إحياء سنّة الرسول (صلى الله عليه واله) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أدلّ على ذلك ممّا نقرأ في زيارة الحسين (عليه السلام): (فأَعذَرَ في الدعاء، ومنح النصيحة، وبذل مُهجته فيك، حتّى استنقذ عبادك من الجهالة، وحيرة الضلالة)[44]. 2ـ تحقّق الهدف من فاجعة الطفّ، وذلك بتوأمة دماء الشهداء المبذولة في كربلاء مع الإعلام الحسيني الهادف الذي فضح سلوك الظالمين، وهو ما اضطلع به السبايا من أهل البيت (عليهم السلام). 3ـ تمثّل إعلام السبايا من خلال الخطب والكلمات في كلّ حشد جماهيري في الكوفة، وفي مجلس ابن زياد، وفي الشام ودمشق، وحتّى في مجلس يزيد؛ لإيصال رسالة الثورة إلى الجميع في إصلاح الفساد السياسي والاجتماعي. 4ـ تمثّل إعلام السبايا كذلك في الموقف الذي ينطوي على الحزن والجزع والعويل، في محاولة لضخ الدماء في روح الأُمّة، وإحياء وجدانها وفكرها، والعمل على تعبئة النفوس بمفاهيم التضحية والفداء، وتحمّل المسؤولية تجّاه الأفراد والمجتمعات في نبذ الخمول، ونشر قيم المعروف، واستئصال شأفة المنكر. 5ـ كان للمنبر الحسيني وما زال هدف جوهري في إبراز قيم كربلاء، والدعوة إلى الإصلاح، والتأكيد على فضائل الأخلاق، والنهي عن الرذائل منها، من خلال الكلمة الواعية، والعِبرة المستفادة من قصص عاشوراء وما بعد عاشوراء، وكذلك من خلال العَبرة الساكبة على بضعات النبي (صلى الله عليه واله) ومَن تابعهم، الذين قتلهم حزب البغي والجهل وحبّ الدنيا. 6ـ متابعة المجالس الحسينية للدور الذي قام به السبايا في إبقاء كربلاء حيّة، رغم جميع محاولات التعتيم والتشويه التي تعرّضت لها، سواء في المنطلقات والأهداف، أم في الآثار وتحمّل المسؤوليات، هذا الدور العظيم المستمرّ في كشف سلوك الظالمين على المدى البعيد وفضحهم، وبلورة منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأجيال القادمة، من خلال ذكر حادثة عاشوراء على الدوام، وإبقائها حيّة في الأذهان. م. م. صفاء تحسين الصوص
[1] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص326.
[2] المصدر السابق: ص329.
[3] عن الصادق (عليه السلام): (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خُلقان من خُلق الله، فمَن نصرهما أعزَّه الله، ومَن خذلهما خذله الله).الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج16، ص124.
[4] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول: ص239.
[5] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4 ، ص318.ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص139.
[6] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص39.
[7] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص403.ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص48.
[8] شبّر، جواد، أدب الطفّ: ج1، ص18ـ 19
[9] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص59.
[10] مغنية، محمد جواد، الحسين وبطلة كربلاء: ص345.
[11] آل عمران: آية110.
[12] مطهّري، مرتضى، حقيقة النهضة الحسينية: ص21.
[13] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص30.
[14] الصفّار، حسن، المرأة العظيمة..قراءة في حياة السيّدة زينب بنت علي(عليهما السلام): ص169.
[15] آل عمران: آية110.
[16] الحج: آية41.
[17] التوبة: آية71.
[18] الطبرسي، حسين النوري، مستدرك الوسائل: ج12، ص185.
[19] المصدر السابق: ص180.
[20] اُنظر: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند كلّ من: السيستاني، علي، منهاج الصالحين: ج1، ص416.الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات: ج1، ص334.الروحاني، محمد صادق، منهاج الصالحين (العبادات): ج1، ص377.
[21] اُنظر: شريعتي، علي، حقيقة النهضة الحسينية: ص27.
[22] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص79.
[23] الروم: آية10.
[24] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص35.
[25] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص35.
[26] المصدر السابق: ص30.
[27] المصدر السابق: ص28.
[28] اُنظر: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند كلّ من: السيستاني، علي، منهاج الصالحين: ج1، ص418.الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات: ج1، ص334.الروحاني، محمد صادق، منهاج الصالحين: ج1، 335.وغير ذلك من الرسائل العملية.
[29] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص37.
[30] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص94.
[31] شريعتي، علي، الحسين وارث آدم: ص250.
[32] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص40.
[33] وما استشهاد بعض الأطفال في طريق السبي إلّا برهان واضح على الأفعال غير الإنسانية في التعامل مع السبايا والتنكيل بهم، وأكبر مثال ما ذُكر من قصّة رقيّة بنت الإمام الحسين(عليهما السلام)، وكيفية وفاتها ودفنها بطريقة تُثير الألم في النفوس، فقد كان لها من العمر أربع سنوات عندما أُخذت مع السبايا وماتت في تلك الأيام في خربة الشام التي وُضع فيها سبايا أهل البيت حينذاك.اُنظر: الكامل للبهائي: ص179
[34] اُنظر: ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص105ـ122.
[35] المصدر السابق: ص106ـ107.
[36] الصفّار، حسن، المرأة العظيمة ..قراءة في حياة السيّدة زينب بنت علي(عليهما السلام): ص180.
[37] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج1، ص200.
[38] شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: ص233.
[39] مصباح اليزدي، محمد تقي، إحياء عاشوراء لماذا؟: ص21.
[40] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص504.
[41] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص677.
[42] إنطوان بارا، الحسين في الفكر المسيحي: ص73.
[43] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص107.
[44] القمي، عبّاس، مفاتيح الجنان: ص521.
اترك تعليق