مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في القرآن العظيم

حياة الكائن الانساني في القرآن تستدعي تأملاً كثيراً في كل منحنياتها ، وتستدعي إنتباه الباحث الموضوعي في تناثر جزئياتها ، فهذا الكائن دون سواه قد حضي بالتكريم الآلهي ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّن آلطَيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاٍ * ) (1) .

والعلة في هذا التكريم إعتباره الخلق الأول في حياة الأرض ، كما هو ظاهر القرآن ، وهذا الخلق يمتاز بالدقة في التركيب ، والحسن بالتقويم ، والابداع في التصوير .

هذا الخلق الجديد ذو طابعين : طابع إعجازي لا عن مثيل ، وطابع فطري في سنة الحياة يقترن بالتزاوج والتناسل بين الذكر والأنثى بتلاقح الحويمن المنوي المذّكر بالبيضة المخصبة الأنثوية ، لينتج ذلك كائناً ناطقاً عاقلاً مفكراً من جماد ، لا أهلية له من نطق أو عقل أو إرادة أو تفكير ، وهذا ما جلب إنتباه فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعري فقال :

والذي حارث البريةُ فيهِ * حَيَوانٌ مستحدثٌ من جماد (2)

وكل من هذين الملحظين المهمين في تكوين الإنسان حديث يتناول أبعاده الأولى والمتطورة على حد سواء ، حتى لحظات الموت وحياة البرزخ وقيام الساعة .

وقد بدأ هذا الإبداع الإلهي بما حكاه الله تعالى في كتابه :

( وَإِذا قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِسُ لَكَ قَالَ إِنِى أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ * ) (3) .

هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من الملائكة : ( أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ آلدِمَآءَ )

ولا يمكن أن يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله ، لأن الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون ، لا تبيح لهم الإعتراض والأنكار ، فهم أعرف بجلالة المقام الألهي ، وسمو الحضرة القدسية ، وقد يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح ، لأنهم طلاب معرفة ، وهم يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه ، فعلى هذا يكون الباعث على ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين : حالة الملائكة وهم بين التسبيح والتقديس لله في السماء ، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض ، فكان الجواب : إنه يعلم ما لا يعلمون ، فسلّموا للأمر تسليماً .

هذا الانقداح الذهني في التصور الملائكي قد يكون للشفافية التي جبلوا عليها في الخلق ، فهم يتفرسون بما سيحدث لو وُجد هذا المخلوق البشري ، وهو ظاهر السياق القرآني ، وقد يقال : بأنّ الله خلق خلقاً قبل آدم ، وقد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، وكأنهم قاسوا هؤلاء على أولئك ، وهذا مما لم ينطق به القرآن ، وهو من القياس الباطل .

القضية الثانية : بعد أن خلق الله آدم حكى الله ما حدث بقوله : ( وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لأِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * ) (4) .

وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود ، فزجره الله تعالى :

( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسجُدَ إِذ أَمَرتُكَ ) (5) . فأجاب إبليس بصيغة واحدة ، وأخرى ، أما الصيغة الواحدة :

( أَنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ ) (6) ، والصيغة الأخرى في سورة أخرى ، فيما حكاه تعالى عنه : ( قَالَ لَم أَكُن لأسجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقتَهُ مِن صَلصَالٍ مِّن حَمَإٍ مَّسنُونٍ * ) (7) .

والتعليل في الإجابة واحد أن الله خلق آدم من عنصر الطين ، وهو من عنصر النار ، والنار في زعمه أشرف عنصراً من الطين .

وهنا يتضح أن الله تعالت قدرته قد خلق آدم من طين ، كما نصّ عليه :

( إِذ قَالَ رَبُكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ « 71 » ) (8) .

وفي هذا الضوء نجد خلق عيسى بن مريم عليه في كيفية خرق بها الله النواميس الطبيعية للكون ، فكان عيسى عليه السلام كمثل آدم كما قال :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (9) .

وهذا الخلق الاعجازي العظيم هزّ العالمين في الحديث عن قدرة الله تعالى ، وقد تحدث القرآن عن بداية هذا الخلق وإرهاصات تكوينه الإبداعي ، ببيان ظروفه كافة ، وشرح أبعاده ، فقال تعالى : ( وَاذكُر فِي الكِتَابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهلِهَا مَكَاناً شَرقِيّاً * فَاتَّخَذَت مِنْ دُونِهِم حِجَاباً فَأَرسَلنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَت إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لِكَ غُلاَماً زَكِياً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيّاً * ) (10) .

وهنا الإرهاص التوقعي أن مريم عليها السلام ستلد غلاماً زكياً ، بعد أن إنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، وأتخذت لها من دونهم ستراً وحجاباً ، فأرسل الله الروح الأمين جبرئيل عليه السلام متمثلاً بشراً سوياً متكاملاً ، فأستعاذت به من الله تعالى إن كان تقياً ، فأخبرها بأنه رسول الله ليهب لها هذا الغلام ، فأنكرت ذلك لأنها لم يمسسها بشر ولم تك بغيّاً ، وهنا يتجلى البعد الاعجازي الجديد ، في بيان هوان الأمر على الله ، وفي جعله آية للعالمين : ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمراً مَّقضِيّاً * فَحَمَلتَهُ فَآنتَبَذَت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذعِ النَّخلَةِ قَالَت يَلَيتَنِي مِتَّ قَبلَ هَذَا وَكُنتُ نَسياً مَّنسِياً * فَنَادَهَا مِن تَحتِهَا أَلاَّ تَحزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِياً * فَكُلِي وَاشرَبِي وَقُرِّي عَيناً فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحمَنِ صَوماً فَلَن أُكَلِمَ اليَومَ إِنسِياً * ) (11) .

فالأمر هين على الله ليجعل عيسى آية للناس ورحمة ، وكان ذلك أمراً إلهياً تكوينياً ، فحملته وإبتعدت به ، فأجاءها المخاض مباشرة إلى جذع النخلة ، وتحسست بفداحة ما حملت به ، فتمنت الموت فناداها الملك أو عيسى ألا تحزني ، وتحدث إليها ، وأمرها بهز الجذع فتساقط الرطب ، وأمرت بالأكل والشرب وقرة العين ، وأن تقول لمن تراه من الناس أني نذرت لله صوم الصمت ، وإنتهى هذا الفصل ، وقد ولد عيسى دون أب ، وكان حقيقة واقعة لا تجحد ، وتختتم القصة بمثولها أمام قومها ، ليتجلى المحور الإعجازي لهم ، ويخشعوا صامتين ، وهكذا كان ، قال تعالى :

( فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَد جِئتِ شَيئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَت إِلَيهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِمُ مَن كَانَ فِي المَهدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ ءَاتَنِيَ آلكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَانِى بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلنِي جَبَّارًا شَقِيّاً * وَالسَّلَمُ عَلَيَّ يَومَ وَلِدتُّ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيّاً * ) (12) .

ويستخلص من هذا أن مريم حينما جاءت به قومها ، جوبهت مباشرة بالاستنكار الشديد ، وهذا ديدن الناس في إستعجال الأمر وقالة السوء ، وقلق الوضين ، فأشارت إليه بحرارة وعزم وإصرار ، فأستغربوا إشارتها وعجبوا لها ، وصرخوا بفظاعة تكليم الطفل في مهده ، وهنا تبدو الآية الالهية الناطقة ، لتحسم الأمر في حركة إرادية غير متوقعة وليست بالحسبان ، قال إني عبد الله ، أتاني الكتاب ، وجعلني نبياً . . . إلى آخر ما قال ، فأسقط بأيديهم ، وأخذتهم الدهشة ، وانحلّ كل إغلاق وإبهام ، فآمن من آمن عن دليل ، وأشرك من قال أنه ابن الله .

هذا النحو من الايجاد هو الخلق الاعجازي دون مثال أو سبيل طبيعي ، والخلق الاعجازي الآخر هو الخلق الفطري في التناسل البشري الذي أصبح فيما بعد طبيعياً ، وإن كان في أصل الايجاد إعجازياً ، لأنه عاد متعارفاً عن طريق التناسل ، أما حقيقة هذا التناسل وكيفيته ، وجعل الإرادة التكوينية متعلقة بها ، فهو مما لاتصل إليه يد الطبيعة ، وإنما هو من صنع أحسن الخالقين ، وقد أشار الله تعالى إلى الخلقين معاً بقوله تعالى :

( والله خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُم أَزوَاجاً وَمَا تَحمِلُ مِن أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِن عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * ) (13) .

هذه العوالم الهائلة كلها يسيرة عند الله ، فهو الخالق من التراب ، وهو الخالق من النطفة ، وهو جاعل الزوجية ، وهو العالم بما تحمل كل أنثى ، وما تضع ، يضاف إلى هذا كله إحصاء هذه العوالم في كتاب مبين : المعمر وغير المعمر ، وما فوقهما وما دونهما ، ولكن الإنسان يطغى :

( وَضَرَبَ لَنَأ مَثَلاً وَنَسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيِ العِظَمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ * ) (14) .

فكيف بدأ هذا الخلق على النحو الطبيعي كما هي الحال اليوم ، وإلى انقضاء أجل الدنيا ، وقيام الساعة ، هذا ما يجيب عليه القرآن الكريم مستدلاً فيه على البعث والنشور ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نَّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيرِ مُّخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِي الأَرحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخرِجَكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىَ وَمِنكُم مَّن يُرَدَّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيلاَ يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلمٍ شَيئاً ) (15) .

فالتراب هو الأصل التركيبي والانشائي للانسان ، والنطفة هي الاصل الفطري للتناسل ، والعلقة : القطعة من الدم الجامد ، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة ، المخلّقة على ما قبل تامة الخلقة ، وغير المخلّقة غير تامة الخلقة ، وينطبق ذلك على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه ، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق هو التصوير (16) .

هذا السرد التدريجي في تركيبة النسل الرحمي مما يرفع التشكيك في البعث والنشور، فإن من تدرج بالانسان من التراب إلى النطفة ، ومن النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، إلى التخليق في الصورة ، إلى الكائن الحي الناطق ، وهي مجموعة من التقلبات المختلفة حتى تصل إلى حين قبول الحياة ، لقادرٌ على إمكانية تمتع الانسان بعد الموت بالحياة ، نشراً وحشراً ، ذاتاً وعيناً ، روحاً وبدناً .

والقرآن الكريم يؤكد حقيقة الخلق الاعجازي والطبيعي لا في التركيب بل في الانفصال الأولي والالتقاء الثانوي ، فالانسان ترابي الأصل ، منويّ التفريع في التكوين ، فله تعالى وحده الحديث عن دقة الصنع وعظمة الخلق ، ومساحة المصنع التكويني الذي لا يتجاوز الرحم في صغره ، ليتولد منه هذا الانسان ، يقول تعالى : ( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا المُضغَةَ عِظَامًا فَكَسَونَا العِظَامَ لَحمًا ثُمَّ أَنشَأَنَاهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنَ الخَالِقِينَ * ) (17) .

وفي الآية ردُّ على نظرية الأستاذ ( دارون ) في النشوء والارتقاء ، فالانسان خُلِقَ متطوراً بعد هذه الأطوار .

وفي هذه الآيات تتجلى القدرة الباهرة في تطويع السلالة الانسانية حيث التدرج التكويني من البسيط إلى المركب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، فهذه المواد الأولية في التركيب للكيان الانساني : تراب ، نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ، لحم ، تكوّن جسماً ما ولكن ذلك يترتب عليه خلقٌ آخر في الانشاء ، ذلك الخلق الآخر هو الانسان ، فهو شيء إذن ، والمراحل التكوينية شيء آخر ، فهو ليس من جنس تلك المراحل بل هو إمتداد لها ، وإبداع حادث فيه العلم والقدرة والحياة والنطق والإرادة ، وهي معالم تختلف تماماً عن جنس المواد التي ركب منها ، وهذا ملحظ دقيق للغاية .

وتناسل هذا الانسان الأول « آدم » فكانت ثمرته « قابيل وهابيل » ولمّا كان التعليل الكوني في خلق الانسان وسواه هو توحيد الله وعبادته :

( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ * ) (18)

والعبادة تشمل كل الفروض والسنن التي نادى بها شعار الخلق بما فيها التقرب إلى الله في مراسم القرابين ، فقرّب قابيل قربانه فلم يتقبل منه ، وتقبل من أخيه هابيل ، فاخذته الأنانية ، وتمكن منه الغيظ وربما الحسد ، فأقدم على قتله دون تورّع ، أما كيف علما بتقبل القربان وعدمه « فإنه كان من المعهود عند الأمم السابقة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه ، قال تعالى :

( حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُربَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ ) (19) . .

فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضاً على هذا النحو . . وكيف ما كان فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وردّه من الآخر » (20) . ذلك ما يقرره القرآن في سورة المائدة الآيات ( 27 ـ 31 ) والتي تبدأ بقوله تعالى :

( * وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ابنَي ءَادَمَ بِالحَقِ إِذ قَّرَّبَا قُربَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَم يُتَقَبَّل مِنَ الأَخَرِ قَالَ لأَقتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمّا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ * ) (21) .

ومن هنا بدأ الصراع الدموي عند الانسان متمثلاً بالكفر والايمان ، ومرت البشرية بأدوار وأطوار لا يعرض القرآن لتفصيلها دون الاجمال ، حتى بعث أبو البشر الثاني نوح عليه السلام في العراق ، وفي الكوفة على وجه التحديد ، ذلك ما يحكيه القرآن في خطابه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى :

( إِنَّآ أَوحَينَآ إِلَيكَ كَمَا أَوحَينَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّنَ مِن بَعدِهِ ) (22) .

فهذا الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم له سابقة تأريخية بما أوحاه الله إلى نوح والأنبياء من بعد نوح ، فالقرآن إذن يبدأ حديثه عن وحي الأنبياء إعتباراً من نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا كان نوح عليه السلام هو المقدم في الذكر بعد آدم مباشرة ، قال تعالى :

(* إِنَّ اللهَ اصطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبرَاهِيمَ وَءَالَ عِمرَانَ عَلَى آلعَالَمِينَ * ) (23) .

وكانت رسالة نوح واضحة المعالم بالدعوة إلى التوحيد ، قال تعالى :

( لَقَد أَرسَلنَا نُوحًا إِلَى قَومِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ ) (24) .

ولم تجد رسالة نوح آذاناً واعية ، ولا أسماعاً صاغيةً ، بل كان قومه من العتاة الطغاة المتكبرين ، لذلك فقد صرح القرآن الكريم بقلة من آمن مع نوح :

( وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (25) ، وسلك العديد الأكثر طرق الضلال وعبادة الأوثان والأصنام في معزل عن الدعوة الألهية إلى التوحيد ، وتواصوا بالأبقاء على الأوثان :

( وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُم وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسراً * ) (26) .

والملاحظ هنا أن أسماء هذه الأصنام أسماء عربية ، فهل كان نوح عربياً وهل كانت المنطقة عربية ، وهل ورثوها من قوم عرب ، إن لم يكونوا هم عرباً ، هذا ما يجيب عليه علماء الآثار واللغات والحفريات .

وكان قوم نوح بحيث أتعبوا نوحاً تعباً مضنياً ، فلم يستمعوا له ، ولم يستجيبوا لدعوته ، بل قابلوه بما حكاه القرآن الكريم عنه :

( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلُوا أَصَابِعَهُم فِي ءَاذَانِهِم وَاستَغشَوا ثِيَابَهُم وَأَصَرُّوا وَاستَكبَرُوا استِكبَاراً * ) (27) .

بل ذهبوا إلى أكثر من هذا مع سماحة النبي ، وبرّه في الدعاء ، ولين الجانب ، وتكرار الدعوة ، فعبّر عنهم نوح :

( وَمَكَرُوا مَكراً كُبَّاراً * ) (28) ، حتى ضاق بهم ذرعاً طيلة هذه المدّة الطويلة التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فما أجدى معهم الوعظ ولا الارشاد ولا حسن التأني الذي جبل عليه نوح عليه السلام :

( فَدَعَا رَبَّهُ أَنَِي مَغلُوبٌ فَانتَصِر * ) (29) ، فأمره تعالى بصنع السفينة ، وضرب له موعداً فيها بمجيء الأمر لدى فوران التنور ، فكان ذلك علامة له ، وفيه توجيه وإخبار ، توجيه فيمن يحمل معه في السفينة ، وإخبار بهلاك الذين سبق عليهم القول ، قال تعالى :

( فَأَوحَينَا إِلَيهِ أَنِ اصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنَا وَوَحيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسلُك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنَينِ وَأَهلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ القَولُ مِنهُم وَلاَ تُخاَطِبنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغرَقُونَ * ) (30) .

وكان صنع الفلك بعناية من الله ، وبمرئىً منه ، وفي ظل مراقبته القصوى ، ورعايته الألهية المعهودة مع الأنبياء ، وكان قومه يعجبون من هذا الصنع وبهذه السعة الكبيرة ، ويبدو أنهم بمنأى عن الحياة البحرية ، وإستقرارهم في مناخ بدوي لا يعدو القوافل الساذجة البدائية : ( وَيصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِّن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ * ) (31) . ونفذّ نوح ما أوحى الله به إليه ، فأسلك فيها من كل زوجين إثنين ومعه القلّة من المؤمنين ، وأخبرهم بمصيرهم ، وهذا الأسلاك كما هو ظاهر القرآن ينبىء أن الطوفان شامل للكرة الأرضية آنذاك ، فأراد الله إستمرارية الحياة للكائنات ومسيرة الحضارة في الحياة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة باقية في جزء من الأرض ، كما هي فانية في جزء آخر ، لهذا فذهب بأن الطوفان كان عالمياً ، وصدر الأمر الإلهي الصّارم : ( فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنهَمِرٍ * وَفَجَّرنَا الأَرضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَآءُ عَلَى أَمرٍ قَد قُدِرَ * ) (32) .

ودلالة السماء ظاهرة في السماء الدنيا ، ودلالة الأرض ظاهرة على هذه الأرض جميعاً ، ولا دليل من القرآن على غير هذا ، ولا يدفع الظاهر بالمؤوّل دون أمارة ، ودعاء نوح يوحي بهذا بل يصرح بعموم الطوفان : ( رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (33) .

وكون رسالة نوح عالمية تؤكد ذلك : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (34) ، مؤيداً بقوله تعالى : « فَبَعَثَ الله النَبِيينَ مُبَّشِرِيِنَ وَمُنْذِرِينَ وأَنَزَلَ مَعَهُمْ الكِتَابَ » (35) .

والكتاب إنما ينزل على أصحاب الرسالات العالمية ونوح أولهم بإعتباره من أولي العزم الخمسة وهو الأول منهم . قال الطباطبائي : « فالحق أن ظاهر القرآن ـ ظهوراً لا ينكر ـ يدل أن الطوفان كان عاماً للأرض ، وأن من كان عليها من البشر قد أغرقوا جميعاً ، ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور » (36) .

وغرق الملأ ، وانتهى الأمر ونجا نوح والمؤمنون ، ( فَأَنجَينَاهُ وَأَصحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلنَاهَآ ءَايَةً لِّلعَالَمِينَ ) (37) .

وحصر الله ذرية البشر في نوح وحده ، وهو أيضاً مما يدلل صراحة على هلاك البشرية إلا نوح والذين معه : ( وَنَجَّينَاهُ وَأَهلَهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ * وَجَعَلنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ * وَتَرَكنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤمِنِينَ * ثُمَّ أَغرَقنَا الأَخَرِينَ * ) (38) .

وتغلبت القرون الأخرى في العالم ، وتعاقبت الأجيال على الكرة الأرضية حتى قوم هود عليه السلام ، وهو من أنبياء العرب فبعثه الله إليهم :

( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُم هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (39) .

الدعوة نفسها ، والغرض واحد ، وهو التوحيد ، فكفروا به بعد أن أبلى هود بلاءً حسناً ، حتى قالوا عنه كما حكى القرآن ذلك :

( إنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) (40) . وجادلهم هود في الله ، وأبلغ في الدعوة والدعاء ، وذكرّهم بآلاء الله : ( لِيُنذِرَكُم وَاذكُرُوا إِذ جَعَلَكُم خُلَفَآءَ مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ وَزَادَكُم فِي الخَلقِ بَسطَةً فَاذكُرُوا ءَالاَءَ اللهِ لَعَلَكُم تُفلِحُونَ ) (41) .

وحذرهم هود ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ، ولكنهم ركبوا رؤوسهم ، واتبعوا أهواءهم ، وتركوا العقل جانباً ، وأستعجلوا العذاب ، فأنبئهم بما حكاه سبحانه وتعالى : ( قَالَ قَد وَقَعَ عَلَيكُم مِّن رَّبِّكُم رِجسُ وَغَضَبٌ ) (42) .

فقطع دابرهم ، واستئصلت شأفتهم ، ونجا هود والمؤمنون : ( فَأَنجَينَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَقَطَعنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا بِئَايَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنِينَ * ) (43) .

وأرسل الله صالحاً بالرسالة إلى ثمود وهم من العرب البائدة في معجزة بينّة ـ بناء على طلبهم ـ وهي الناقة آية لهم من الله ، قال تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُم صَالِحاً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ قَد جَآءَتكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَبِّكُم هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُم ءَايَةً ) (44) . فكذبوه بعد أن أعذر إليهم ، وأقدموا على عقر الناقة ، وقد كانت لهم غذاء ورواءً ، ولكنه الطغيان الكامن في نفوس القوم الظالمين ، ( فَأَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ فَأَصبَحُوا فيِ دَارِهِم جَاثِمِينَ * ) (45) .

وهكذا تتوالى الرسالات بالتوحيد ، ويتوالى الاستكبار والتكذيب ، ولم تكن للناس على الله الحجة ، فقد تابع الرسل والنبيين ، يوقظون الغافل ، ويحركون روح الحياة في النفوس ، فأرسل لوطاً وشعيباً ، فكذبوا ذلك ، وكان عذاب الاستئصال يسوّي آثارهم ، وينسف ديارهم ، فبالنسبة لقوم لوط قال تعالى : ( وَأَمطَرنَا عَلَيهِم مَّطَراً فَآنُظر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ آلمُجرِمِين * ) (46) . وكان العبد الصالح شعيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويذكرهم بأنعم الله المتواترة عليهم ، وبما منّ عليهم من خيرات فكذبوه : ( الَّذِينَ كَذَبُوا شُعَيبًا كَأَن لَمْ يَغنُوا فِيهَا الَّذِينَ كَذَبُوا شُعَيبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * ) (47) .

هؤلاء الأنبياء قصصت عليك نبأهم مع أقوامهم من خلال مرور سريع في سورة الأعراف وحدها ، لأن البحث مبنيٌّ على سبيل الاشارة والنموذج والمثال ، والاطالة تعني الخروج من أصول البحث .

وما زالت البشرية تتمتع بنعم الله الطائلة ، وتتقلب في ألطافه العميمة ، وهي تكذب بآيات الله ، وتجحد آلاء الله فيمسهم العذاب الأليم ، حتى أنعم الله على الانسانية بالرسالة الحنيفية الغراء على يد إبراهيم الخليل وكان الكلدانيون وسواهم عبدة أصنام وسدنة أوثان وحضنة تماثيل ، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده ، فأبوا واستكبروا ، وظلوا على أوثانهم عاكفين ، فأقسم إبراهيم أن سيكيدها : ( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصنَامَكُم بَعدَ أَن تُوَلُّوا مُدبِرِينَ * ) (48) ، وهكذا كان فقد هجم عليها وهم في منأى عنه وعنها : ( فَجَعَلَهُم جُذَاذًا إِلاّ كَبِيرًا لَّهُم لَعَلَّهُم إِلَيهِ يَرجِعُونَ * ) (49) .

وأحيطوا به خبراً ، وجاء يهرعون إليه ، بعد أن نذروا به : ( قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعنَا فَتىً يَذكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ * قَالُوا فَأتُوا بِهِ عَلَى أَعيُنِ النَّاسِ لَعَلَهُم يَشهَدُونَ * قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلتَ هَذَا بِئَالِهَتِنَا يا إبرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَسْئَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * ) (50) .

وسقط في أيديهم ، وألزمهم الحجة ، وأحرجهم بداهة ، فلا نطق ولا جواب ولا تفكير للأصنام ، ولجأوا إلى منطق القوة والجبروت والطغيان : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُم إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَردًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيدًا فَجَعَلنَاهُم الأَخسَرِينَ * وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرضِ الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ * ) (51) ، وغادر إبراهيم العراق إلى فلسطين ، وبلي هناك بالهجرة إلى مصر ، وأخرى إلى حيث وضع ولده وزوجته عند بيت الله الحرام ، وهنا فوجيء بالأمتحان القاسي بذبح ولده ـ وهو اسماعيل في أشهر الروايات ـ على سبيل الايحاء الآلهي في المنام : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَه السَّعىَ قَالَ يَبُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذبَحُكَ فَانظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افعَل مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينَ * وَنَادَينَاهُ أَن يَا إِبرَهِيمُ * قَد صَدَّقتَ الرُّؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ * إِنْ هَذَا لَهُوَ البَلاَؤُا المُبِينُ * وَفَدَينَاهُ بِذَبحٍ عَظِيمٍ * ) (52) .

فكان من الأب أن امتثل الأمر المولوي ، وكان من الأبن أن استجاب لهذا الأمر بطلب فعله ، وتدارك الله عبديه ، وشكر لهما صنعهما ، ونوّه بذكرهما ، وإعتبرهما من المحسنين المستحقين للجزاء والثواب ، على هذا البلاء والامتحان ، وفداه بذبح عظيم .

ولم يزل إبراهيم عليه السلام مناراً في الاختبار السرمدي ، وهو في أواخر حياته ، وقد منّ الله عليه بالذريّة ، فذكر الله على ذلك وحمده :( رَبَّنَا اغفِر لِي وَلَوَالِدَيَّ وَلِلمُؤمِنِينَ يَومَ يَقُومُ الحِسَابُ * ) (53) .

وكان إبراهيم عبداً منيباً ، ورجلاً كريماً سمحاً ، وممتثلاً لأوامر الله تعالى ينفّذها حرفياً ، فأقام القواعد من البيت يساعده عليه اسماعيل ، واستقبل الأضياف ، وحاجج الملائكة في قضية قوم لوط ، ودعا إلى الله بكل ما استطاع ، وقابل الهجرتين وسواهما بقلب سليم ، ودعا الله وأناب إليه ، كل ذلك مما لا شك فيه ، وعليه ظواهر الكتاب ، والذي يبدو أنه أختبر من قبل الله تعالى أواخر أيامه بكلمات فأتمهن :

( وَإِذَا ابتَلَى إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلمَاتٍ فَأَتَمَهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينِ * ) (54) ، فقد جعله الله للناس إماماً لا ريب في ذلك ، إلا أنه طلب الامامة لذريته بعد تواجد هذه الذرية ، فما هو هذا الابتلاء العسير الذي ستظهر به قابلياته النفسية ، وملكاته الكامنة بالعمل والجد والسعي دون القول وحده ، هذا الابتلاء كان متعلقاً بالكلمات ، والكلمات جمع كلمة ، والكلمة قد يراد بها الشخص في القرآن ، الشخص بذاته ، والانسان المعهود نفسه ، أي أنها قد تطلق على الوجود العيني كما في قوله تعالى بالنسبة لعيسى عليه السلام : ( إِذ قِالِتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَريَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنهُ اسمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنيَا وَالأَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَبِينَ * ) (55) . وبهذا يتجلى أن كلمة الله هنا هي فعله ، كما هي في غيرها قوله ، قال تعالى : ( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَد جَآءَكَ مِن نَّبَإِى المُرسَلِينَ ) (56) .

وقد ابتلى ابراهيم عليه السلام قبلها بأوامر إلهية صارمة كالهجرة وذبح الولد ، وبناء البيت وإبعاد الأهل وسواها ، وهنا لم يذكر شيئاً منها لعدم تعلق المقام فيها ، إلا أن الغرض قد يكون واضحاً في هذه الكلمات بمقارنة قوله تعالى : ( إِنّيِ جَاعِلُكَ لِلنَّاس إِمَامًا ) ، فهو حديث خاص يتعلق باقتداء الناس به ، يستضيئون بنور علمه ، ويهتدون بما يفيض عليهم من كمالات الأئتمام إستكمالاً للفيض الالهي عليه بعد أن كان نبياً ورسولاً وخليلاً ، فأضاف إليها الإمامة وهي الولاية العامة على الناس ، ويبدو أنه قبلها ، بل وطلبها إلى ذريته ، فكان الجواب « لا ينال عهدي الظالمين » تعبيراً عن إبعاد الظالمين عن ولاية العهد الالهي ؛ وبهذا بتجلّى أن الظالم لا يصلح للإمامة لأنه لا يكون هادياً إلى الحق ، وأن الامام يجب أن يكون معصوماً لأنه ليس بظالم ، وجميع الذنوب من الظلم النفسي أو الغيري أو كلاهما معاً ، ومن لم يذنب لا يعدّ ظالماً ، فاقتضى القول بالعصمة ، وهذا ما تؤيده النظرية العلمية الدقيقة في شؤون القرآن بعيداً عن المذهب الكلامي ومقالات الاسلاميين . وكانت رسالة إبراهيم عالمية ، كما هو شأن رسالة نوح عليه السلام ، فهما موسى وعيسى ومحمد ( عليهم السلام ) ـ فيما بعد ـ أولو العزم من الرسل ، وكان بين إبراهيم عليه السلام وخلفه من أولي العزم قرون كثيرة ، كان فيها أسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام ، وجمهرة أنبياء بني إسرائيل حتى موسى عليه السلام الذي ولد في عصر ذبح المواليد من قبل فرعون مصر ، وكانت سلامته بعناية من الله بايحاء لأمه : ( وَأَوحَينَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدَّوهُ إَلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ * فَالتَقَطَهُ ءَالُ فِرعَونَ ) (57) .

ونشأ موسى عليه السلام في بحبوحة القصر الفرعوني من بعد أن بصرت به أخته وهم لا يشعرون ، فاسترجعته لأمه : ( فَرَدَدنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كِي تَقَرَّ عَينُهَا وَلاَ تَحزَنَ ) (58) .

وبغل موسى عليه السلام أشده وهو في قصر فرعون وبرعاية أمرأته الصديّقة ، فآتاه الله الحكم والعلم ، وجرت على يديه قوة وبطولة في مصر ، وغادرها خائفاً ، وتوجه تلقاء « مدين » وسقى الماء الأمتين ، وأستضافه أبوهما ، وكان نبيّ الله شعيب ، وتزوج إحدى ابنتيه ، وقضى أبعد الاجلين في خدمته : ( * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءَانَستُ نَارًا لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِّنهَا بِخَبَرٍ أَو جَذوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَكُم تَصطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الوَادِ الأَيمَنِ فِي آلبُقعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ * ) (59) .

وآتاه الله الآيات البينات ، وابتعثه رسولاً ، وشد عضده بهارون أخيه ، وذهبا إلى فرعون ، فرمي بالسحر ، وجمع له السحرة ، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وألقى موسى عصاه ، وإذا بها تلقف ما يأفكون : ( فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوآ ءَامَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * ) (60) .

وانتصر موسى عليه السلام بعد خطوب وخطوب ، وأُغرق فرعون وقومه في البحر ، وذهب موسى لميقات ربه ، وأضل السامري من بعده قومه ، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً فأخذتهم الرجفة بما جعل موسى في حيرة بما أضربه القرآن العظيم :

( وَاختَارَ مُوسَى قَومَهُ سَبعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ قَالَ رَبِّ لَو شِئتَ أَهلَكتَهُم مِّن قَبلُ وَإِيَّيَ ) (61) .

وجرت الملاحم الكبرى على يد موسى بما يستوعب مساحة مثلى متميزة في القرآن العظيم ، وابتلى بشعب خائر متردد جبان إنتهى أمره أن يقول لموسى : ( فَاذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ ) (62) .

وفي هذا كشف عن مناخ الشعب اليهودي في صفحات كثيرة من شذرات القرآن الكريم مرتبطة بالفساد والافساد والخور والطغيان وقتل الأنبياء ،

( وَلَقَد ءَاتَينَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَينَا مِن بَعدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَينَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ آلبَيِّنَاتِ وَأَيَّدنَاهُ بِرُوحِ آلقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهوَى أَنفُسُكُمُ استَكبَرتُم فَفَرِيقًا كَذَّبتُم وَفَرِيقًا تَقتُلُونَ * ) (63) .

وكانت نبوة عيسى عليه السلام فيصلاً بين الحق والباطل في مولده العجيب وسلوكه الانساني وصدره الرحيب ، وما أيّده به الله تعالى من الآيات الباهرات والمعجزات الخوالد بما أقتصه في كتابه العزيز : وآتاه الله الآيات البينات ، وابتعثه رسولاً، وشد عضده بهارون أخيه ، وذهبا إلى فرعون ، فرمي بالسحر ، وجمع له السحرة ، فألقوا حبالهم وعصيهم ، وألقى موسى عصاه ، وإذا بها تلقف ما يأفكون : ( فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوآ ءَامَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * ) (64) .

وانتصر موسى عليه السلام بعد خطوب وخطوب ، وأُغرق فرعون وقومه في البحر ، وذهب موسى لميقات ربه ، وأضل السامري من بعده قومه ، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً فأخذتهم الرجفة بما جعل موسى في حيرة بما أضربه القرآن العظيم : ( وَاختَارَ مُوسَى قَومَهُ سَبعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ قَالَ رَبِّ لَو شِئتَ أَهلَكتَهُم مِّن قَبلُ وَإِيَّيَ ) (65) .

وجرت الملاحم الكبرى على يد موسى بما يستوعب مساحة مثلى متميزة في القرآن العظيم ، وابتلى بشعب خائر متردد جبان إنتهى أمره أن يقول لموسى : ( فَاذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ ) (66) .

وفي هذا كشف عن مناخ الشعب اليهودي في صفحات كثيرة من شذرات القرآن الكريم مرتبطة بالفساد والافساد والخور والطغيان وقتل الأنبياء ، ( وَلَقَد ءَاتَينَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَينَا مِن بَعدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَينَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ آلبَيِّنَاتِ وَأَيَّدنَاهُ بِرُوحِ آلقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهوَى أَنفُسُكُمُ استَكبَرتُم فَفَرِيقًا كَذَّبتُم وَفَرِيقًا تَقتُلُونَ * ) (67) .

وكانت نبوة عيسى عليه السلام فيصلاً بين الحق والباطل في مولده العجيب وسلوكه الانساني وصدره الرحيب ، وما أيّده به الله تعالى من الآيات الباهرات والمعجزات الخوالد بما أقتصه في كتابه العزيز : ( إِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ اذكُر نِعمَتِي عَلَيكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمَ النَّاسَ فِي المَهدِ وَكَهلاً وَإِذْ عَلَّمتُكَ الكِتَابَ وَالحَكمَةَ وَالتَّورَةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِإِذنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيرًا بِإِذنِي وَتَبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِي وَإِذْ تُخرِجُ المَوتَى بِإِذنِي وَإِذْ كَفَفتَ بَنِي إِسرَاءِيلَ عَنكَ إِذ جِئتَهُم بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلاَ سِحرٌ مُّبِينٌ * ) (68) .

ومع هذه الدلائل الناصعة فقد انقسم الناس تجاهه إلى : كفرة به ،ومشركين بالله ، وقلة من المؤمنين ، وآخرين قالوا هو ابن الله تعالى ، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة ، وتلاشت رسالته في المحبة والسلام إلا عند الحواريين وجملة من الصالحين ، وأخيراً إجتمعوا على قتله صلباً ، فشبه لهم في أمره ، ورفع إلى السماء بأمر الله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينٍا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا * ) (69) .

وأعطاه الله خصيصةً جديرة بالعناية ، ومنحةً كبرى ينبغي الوقوف عندها بكثير من الرصد الخاص ، لأنها ذات دلائل خاصة ، يقول تعالى : ( وَإِن مِّن أَهلِ الكِتَابِ إِلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ قَبلَ مَوتِهِ وَيَومَ القِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيداً * ) (70) .

وهذه الخاصيّة الكبرى أن سيؤمن به أهل الكتاب جميعاً بعد نزوله إلى الأرض ، لا شك لهم في ذلك ، ومن ثم تترتب على هذا النزول ومشاهده وعوالمه وبركاته خصوصية أخرى بأن يكون عليهم شهيداً يوم القيامة ، ويتحقّق ذلك إن شاء الله بعد صلاته خلف القائم من آل محمد عجل الله فرجه ، في المسجد الأقصى كما عليه روايات المسلمين كافة .

وتضيء الدنيا بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو رسول رب العالمين ، وآخر أولي العزم من المرسلين ، قال تعالى : ( وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ ) (71) .

وكان أول ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى : ( اقرَأ بِاسِمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ * اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَم يَعلَم * ) (72) .

ولهذه البداية سر عظيم نشير إلى بعض نفحاته ، فالمجتمع الجاهلي مجتمع وثني ، فلا بد أن ينبه إلى خالقه العظيم في دلالية موحية إلى التوحيد وطرح الصنمية الشائعة ، والقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقرآءة ، ليبلغه إلى أميّين لا عهد لهم بالتعلم ، فكان الجهل أول طوق يجب أن يكسر ، وكان الجمود الفكري أول حاجز يجب أن يتجاوز ، وكان التقوقع على الأوهام أول ما يجب التحرر منه ، فكانت البداية هذا الافتتاح الرفيع الذي يتناسب مع هذه الثورة الجديدة ، إنها الدعوة الفطرية إلى الايمان والعلم بعرض واحد ، فهو إرهاص بإيمان سينتشر ، وإشعار بإفاضات علمية ستضيء ، مصدرها الله تعالى ، وأدئها العلم ، لارتياد المجهول واكتشاف المكنون (73) .

وتداعت قريش إلى افتراضات متناقضة تجاه القرآن ، وضلّت في متاهات حائرة من أمره ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي ويقظته ، وعزوه إلى الكذب والاختلاق ، وقد وصفوه هم أنفسهم بالصادق الامين ، ونسبوه إلى الشعر ، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما استقامت لهم الدعوى بشيء ، فوصموه بسلاح العاجر ، وقالوا أنه مجنون ، قال تعالى : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ * ) (74) .

وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة التجريبية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجاحة عقله ، وإتزانه الدقيق في تصرفاته كافة ، فرددوا قول الكهانة والجنون فرد إفتراءهم القرآن : ( فَذَكِّر فَمَآ أَنتَ بِنِعمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجنُونٍ * ) (75) وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم معلماً من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة ، ولا يعرف العربية فردهم القرآن رداً بديهياً حاسماً ، قال تعالى : ( وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلحِدُونَ إِلَيهِ أَعجَمِيٌ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُّبِينُ * ) (76) .

وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم ، وتداعت الأوهام المتناثرة هنا وهناك إنطلقوا إلى القول : ( إِن هَذَآ إِلاَّ سِحرٌ يُؤثَرُ ) (77) ، وما كان لمحمد أن يتداول السحر ، ولا رصدوا عليه مأخذاً في ذلك ، ولكنها تهمة الأنبياء في كل زمان ومكان ، كما وصف ذلك القرآن : ( كَذَلِكَ مَآ أَتَى آلَّذِينَ مِن قَبلِهِم مِّن رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجنُونٌ « 52 » ) (78) .

وأرجف بهؤلاء وأولئك القرآن العظيم ، فصكهم بهذه الايمان العظمى ، ليقطع دابر القول ، ويكشف الحقيقة كما هي : ( فَلآَ أُقسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ * وَالَّيلِ إِذَا عَسعَسَ * وَالصُّبحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العَرشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمًّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجنُونٍ * وَلَقَد رَءَاهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الغَيبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَولِ شَيطَانِ رَّجِيمٍ * فَأَينَ تَذهَبُونَ * ) (79) .

وأعيتهم السبل ، وبان عجزهم ، فنهى بعضهم بعضاً عن سماع القرآن ، وأمر بعضهم بعضاً باصطناع الضوضاء عند قراءة النبي للقرآن ، قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسمَعُوا لِهَذَا القُرءَانِ وَالغَوا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغلِبُونَ * ) (80) . فما غلبوا بل انتكسوا ، وما انتصروا بل انهزموا ، وصكهم القرآن بالإنذار النهائي : ( فَإِن أَعرَضُوا فَقُل أَنذَرتُكُم صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود * ) (81) . فحدثني أستاذي المعظم آية الله السيد محمد علي الحكيم مد الله في عمره الشريف ، قال : فلما تلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية قف لها شعر قريش .

وإنتهت هذه الملحمة في الآخذ والرد والتفنيد ، ويئس الكفار من جميع المناورات التكذيبية الباهتة وطار هباء تكذيبهم الواهن للقرآن ، وحجهم الله تعالى في كل ذلك إحتجاجاً بليغاً ، أخذوا يقترحون معجزة غيره ، وآية سواه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولآ أُنزِلَ عَلَيهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ ) (82) . وكأن القرآن ليس آية ، فردهم الله رداً مفحماً ، وبين عظمة هذا القرآن : ( وَلَو أَنَّ قُرءَاناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَو قُطِّعَت بِهِ الأَرضُ أَو كُلِّمَ بِهِ آلمُوتَى بَل لِّلَّهِ الأَمرُ جَمِيعًا ) (83) .

فأبان تعالى أن هدايتهم لا أمل في تحقيقها ، لأن أمر الآيات بيده تعالى ، والأمر له جميعاً وبين أيديهم الآية الكبرى وهو القرآن ، فلو أن قرآنا كانت هذه صفته ، لكان هذا القرآن ، ومع ذلك فلم يكن لهم أن يهتدوا به إلا بإذنه تعالى .

وحينما جوبهوا بهذا الردّ المتين ، تسللوا من طرف خفيّ لانكار أصل الرسالة في صلف وغرور لا مثيل لهما : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَستَ مُرسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَينِي وَبَينَكُم وَمَن عِندَهُ عِلمَ الكِتَابِ * ) (84) ، فلقن الله نبيه الحجة عليهم لرسالته بشهادته وشهادة من عنده علم الكتاب ، وفي الآية إسناد الشهادة إلى الله تعالى ، وشهادة الله عندهم كبيرة : ( قُل أَيُّ شَيءٍ أَكبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَينِي وَبَينَكُم ) (85) . فهم يشهدون أن أكبر الشهادات هي شهادة الله تعالى ، وحينما أخذ هذا الاقرار منهم ، وسجله عليهم ، اعتبر ذلك كافياً بينه وبينهم ، وأضاف له « ومن عنده علم الكتاب » في شهادته ، وهنا يبرز دور في بنائه قواعد الاسلام جنباً إلى جنب النبي ، وعليه الروايات الدالة أن الآية نزلت في علي عليه السلام ، ويؤيده أنه أعلم الامة بالكتاب ممن آمن بالنبي بإجماع المسلمين ، عن أبي سعيد الخدري ( رض ) . قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله جل ثناؤه « قَالَ الَذيِ عِندَهُ عِلمُ من الكِتاب » . قال ذاك وصي أخي سليمان بن داود ، فقلت يا رسول الله فقول الله : « قَلْ كَفَى بالله شَهِيداً بَينِي وبينكم ومن عِندَهُ عَلمُ الكِتابِ »

قال ذاك أخي علي بن أبي طالب (86) .

وعن الامام محمد الباقر والامام جعفر الصادق والامام موسى بن جعفر والامام علي بن موسى الرضا عليهم السلام ، وزيد بن علي ، ومحمد بن الحنفية وسلمان الفارسي ، وأبي سعيد الخدري ، وإسماعيل السدي ، قالوا جميعاً : « وَمِنْ عِنْدَهُ عِلمُ الكِتاب » هو علي بن أبي طالب(87) .

وهنا نقف مقارنين بين من عنده علم من الكتاب وهو وصي سليمان في قوله تعالى : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبلَ أَن يَرتَدَّ إِلَيكَ طَرفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُستَقِرًا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبِيّ لِيَبلُوَنِي ءَأَشكُرُ أَمْ أَكفُرُ ) (88) .

وعند أهل العربية أن من للتبعيض كما هو معروف ، أي أن وصي سليمان عنده جزء وشيء من كليّ علم الكتاب ، وبلمحة عين جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى حيث مجلس سليمان من الأرض المقدسة . فما هو رأيك بمن عنده علم الكتاب كله ، وما هي قدرته الخارقة التي خولها الله إياه فيما لديه من إمكانات وطاقات سخرها جميعاً في إعلاء كلمة الله في الأرض ، وترسيخ الكيان الاسلامي الوليد ، ووحدة الأمة المتفرقة ، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد ليس غير يكفي أن نشير إلى فدائه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ليلة الهجرة ، وقتله نصف المشركين ببدر ، وكانوا سبعين ، قتل منهم بسيفه خمسة وثلاثين فارساً ، وشارك في النصف الثاني ، وقتله حملة الألوية جميعاً في أحد من بني عبد الدار ، وقتله عمرو بن ودّ العامري في الخندق ، وقد برز الايمان كله إلى الشرك كله ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكانت ضربته تلك تعادل عبادة الثقلين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقلع باب خيبر وقتل مرحب ، وقد أعطاه الراية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : والله لأعطين الراية غداً رجلاُ يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، كراراً غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . وحضوره كل مشاهد رسول الله عدا غزوة تبوك التي كان فيها بمنزلة هارون من موسى ، وقد إستخلفه النبي على المدينة ، وأهم من هذا كله تمثل الاسلام متكاملاً في شخصيته بمبادئه كافة ، فهو النموذج الأرقى الذي حمل الاسلام فكراً ورأياً وعقيدة ونظاماً حتى ذهب شهيد عظمته في مثل هذه الليلة نتيجة مؤامرة ثلاثية خطيرة بين الخوارج ومعاوية ورتل المنافقين في الكوفة متمثلاً بالاشعث بن قيس ، وماذا عسى أن أقول في علي عليه السلام وقد قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَبُونَ * فِي جَناَّتِ النَّعِيمِ * ثُلَةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ * مَّتَكِئِينَ عَلَيهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيهِم وِلدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنهَا وَلاَ يَنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحمِ طَيرٍ مِّمَّا يَشتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمثَالِ اللُّؤلُؤِ المَكنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ * لاَ يَسمَعُونَ فِيهَا لَغوًا وَلاَ تَأثِيمًا * إِلاَ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا * ) (89) .

وكان عليٌّ أول السابقين للأسلام في تأريخ الاسلام ، وأفضل السابقين للأيمان في العالم ، فقد أخرج العلامة السيوطي في الدار المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس في قوله « والسابقون السابقون » قال نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب التجار الذي ذكر في ياسين ، وعلي بن أبي طالب ، كل رجل منهم سابق أمته ، وعليٌّ أفضلهم سبقاً (90) .

عاش عليٌّ عليه السلام تأريخاً إنسانياً مليئاً بالاحاسيس الكونية ، والأسرار الألهية ، واستشهد عملاقاً أزلياً لم تكتشف الحضارة الانسانية مرافئ وشواطئ عالميته ، فضلاً عن الأعماق البعيدة ، وقد اتسع للبشرية جمعاء ، ولم تسعه البشرية جمعاء ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً .

وكانت مسيرة الكائن الانساني مرتبطة الوجود الحقيقي الناصع برسالته نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة أوصيائه الائمة المهديين ، فقد كمل بذلك الدين ، وتمت النعمة وأرتضي الاسلام ديناً ، فعالجت هذه الرسالة قضية الانسان في كل أبعادها المعقدة ، وأوجدت لها الحلول الشاملة ، وتابعت مراحل هذا الكائن الكريم عند الله في أدواره الزمنية الفعلية ابتداء من الحضانة حتى الميراث ، وسارت معه سيراً سجحاً أوقفه على ساحل الأمن والاطمئنان ، فأهتدى من إهتدى عن بصيرة وبينّة ، وضل من ضل عن عناد وإصرار ، حتى إنتهت به إلى العالم الآخر .

والمتفحص للسياق القرآني العظيم ، يجد الحياة الدنيا ويجد الحياة الآخرة بجلاء ووضوح ، ويلمس بينهما حياة البرزخ بعد التبصر والامعان .

الحياة الدنيا في النشأة والترعرع والكيان والاكتمال في التزاوج والرعاية والحقوق والواجبات في الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس ، والفقه والفرائض والوصايا والجروح والقصاص والديّات ، والحياة الآخرة في الوعد والوعيد ، والبشارة والنذارة كما سيأتي .

وحياة البرزخ باهوالها المجهولة بحدود ، والمعلومة بحدود أخرى ، حياة فاصلة بين الدنيا والآخرة ، فالدنيا بعد لم تنته ، والآخرة بعد لم تقم ، ولكن الروايات تؤكد : إذا مات المرء قامت قيامته ، والامام علي عليه السلام يؤكد هذا الملحظ ويقول : الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا . والقرآن العظيم يصرح ، وتصريحه الحق ، ويقول وقوله الفصل : ( وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُو فِي سَبِيلِ اللهِ أَموَتَاً بَلْ أَحيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرزَقُونَ * ) (91) ، والمتدبر في سياق الآيات القرآنية لدى المقارنة الحيّة يستهدي إلى هذا اللون من الحياة البرزخية .

أن إنفصال الروح عن الجسد لا تعني أكثر من الانتقال بالكائن الحيّ إلى عوالم رتيبة أخرى ، قد تدخل في حساباتنا الداخلية وقد تنحسر عنها ، وقد تدخل في أعماقها ولكنها قد لا تستقرّ ، وقد تستقر عند ذوي الصفاء الروحي استقراراً ثابتاً لا يتزلزل ، وقد ورد أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنان ، أو حفرة من حفر النيران ، والذي تؤكد الاخبار ، أو الذي يبدو من قسم كبير منها ، أن الانسان عندما يوضع في قبره يحاسب حساباً إجمالياً يلزم فيه الانسان طائره في عنقه فيما عمل ، فإذا قامت القيامة ، وكان الحساب الجزائي التفصيلي وضع كتابه بين يديه ، وعليه قوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَابًا يَلقَاهُ مَنشُورًا * ) (92) ، وقد ورد أن سؤال القبر حق على الملكين ، وإذا كان الأمر كذلك فهناك نوع من الحياة مجهولة في جملة من حيثياتها قد يعلم بعضها في الآيات كقوله تعالى : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنَتَينِ وَأَحيَيْتَنَا اثنَتَينِ ) (93) ، والمعنى يوحي بإثبات البرزخ فتكون إماتة في الدنيا وأخرى في البرزخ ، وإحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيامة .

واستحباب تلقين الميت ثلاث مرات عند الموت وعند القبر وبعد الأنصراف عنه يوحي بذلك إيحاء كبيراً ، لأنه مقترن بفتاوى علماء المسلمين ومنشأ ذلك الروايات الصحيحة الثابتة التي تفيد هذه الاحكام .

ومن خلال ما سلف يتضح بكثير من الوضوح مناخ الحياة البرزخية بأنه العالم المثالي الذي يحايه الانسان في القبر بعد موته إلى يوم القيامة ، ويدل على هذا الفهم ما يستفاد من قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ رَبِّ ارجِعُونِ * لَعَلِي أَعمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرزَخٌ إِلَى يَومِ يُبعَثُونَ * ) (94) . فهذا الطلب التذللي الاستكاني من الظالم أو الفاسق أو الكافر أو الضال : ( رَبِّ ارجِعُونِ ) عند الموت ، وقد شاهد الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يلتفت إليه حينئذ ، فهي كلمة عابرة يقولها عند الموت ، بل سيموت ولا يرجع ، « وَمِنْ وَرَائِهِم بَرزَخٌ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ » ، فالبعث يوم القيامة وراءهم يطلبهم حثيثاً ، وهم الآن في عالم القبر البرزخي ، فلا رجوع إلى الدنيا . ويمكن استنباط حياة البرزخ من قوله تعالى : ( وَحَاقَ بِئَالِ فِرعَونَ سُوءَ العَذَابِ النَّارُ يُعرَضُونَ عَلَيهَا غُدُوّاً وَعشِيّاً وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدخِلُوا ءَالَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ * ) (95) . فالعرض على النار في الحياة البرزخية في القبر إذ لا غد وعشياً يوم القيامة ، أما في القيامة فالدخول في أشد الحساب ، فسوء العذاب في البرزخ العرض على النار صباحاً ومساءً ، وفي القيامة سوء الحساب بدخول النار . وفي قوله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقتَلُ فيِ سَبِيلِ اللَّهِ أَموَتٌ بَل أَحيَاءٌ وَلَكِن لاًّ تَشعُرُونَ * )(96) .

دلالة أن هناك نوعاً من الحياة الخاصة بالشهداء عند الله بعد الموت مباشرة ، فهم ليسوا بأموات بمعنى فنائهم ، بل هم أحياء بأعيانهم ، ولكن الحواسّ القاصرة لا تدرك هذا النوع من الإحياء .

يقول السيد الطباطبائي « إن الآية دالة على الحياة البرزخية ، وهي المسماة بعالم القبر ، العالم المتوسط بين الموت والقيامة ، ينعم فيه الميت أو يعذّب تقوم والقيامة » (97) .

وفي هذا الضوء فإنّا نرى الحياة البرزخية حقيقة قرآنية واقعة لا محالة ، لهذا ورد أن من خصائص الدفن في النجف عند أمير المؤمنين عليه السلام ، أو من آثاره ، رفع عذاب البرزخ ، فتأمل : ( وَنُفِخَ فيِ الصَورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجدَاثِ إِلَى رَبِّهِم يَنسِلُونَ * ) (98) .

وهذه نفخة البعث والاحياء وهي النفخة الثانية ، أما النفحة الأولى فهي والثانية تتمثل في قوله تعالى :

( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهَ أُخرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * ) (99) . وبهذا نظهر أن النفخ نفختان ؛ الأولى للإماتة الشاملة إلا من شاء الله ، والثانية للأحياء والنشور ، وهو ظاهر القرآن وتدل عليه روايات الائمة عليهم السلام .

هنالك يصدر نداء الملكوت الجبروتي المطلق من قبل الله تعالى : ( لِّمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ) (100) . وهما سؤال وجواب منه تعالى في آن واحد ، إذ لا مجيب في الكون فقد انطمسوا في ظل الفناء والموت ، وبقي الحيّ القيوم وحده لبيان حقيقة الملك السرمدي .

عند ذلك ينفرج الجمع في المحشر إلى فريقين أهل النار وأهل الجنة : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَت أَبوَبُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأتِكُم رُسُلٌ مِّنكُم يَتلُونَ عَلَيكُم ءَايَتِ رَبِّكُم وَيُنذِرُونَكُم لِقَآءَ يَومِكُم هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِن حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ * قِيلَ ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئسَ مَثوَى المُتَكَبِرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُم إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيكٌم طِبتُم فَادخُلُوهَا خَالِدِينَ * ) (101) .

ويصف القرآن حياة أهل الجنة في مئات من الآيات البيّنات ، ويصف أيضاً حياة أهل النار في مئاتٍ من الآيات البينات ، وفي سورة الواقعة عرضٌ تفصيل للملّذات الحسية والنعيم المادي السرمدي لاصحاب اليمين وهم أهل الجنة (102) . وفيها دليل على تواجد اللذائذ بمختلف أصنافها المعددة هناك وهو ردّ على من قال بأن النعيم روحي فقط ، أو قال بأن البعث روحاني لا جسماني روحاني ، فالنعيم كالبعث روحي مادي بأبرز صوره ، والحياة الروحية هناك تتجلى أيضاً بقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَةُ * ارجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرضِيَةً * فَادخُلِى فِي عِبَادِى * وَادخُلِي جَنَتِي * ) (103) .

فهذه النفس قد إطمأنت لله تعالى فوصفت بأنها راضية ، وإذا رضي العبد عن ربه عمل له عملاً صالحاً مستقلاً لا شائبة معه ، ولا رياء فيه ، وإذا كان كذلك رضي الله عنه ، وما بعد رضى الله تعالى من درجة ، وحينئذٍ يصدر الأمر الالهي لتلك النفس بالدخول في عباده ، وهي منزلة عليا إذ إستعمال لفظ العبد في القرآن يوحي بأنهم الطبقة العليا الحائزة على مقام العبودية الخالصة ، وعادة ما يستعمل هذا اللفظ صفة وإسماً لمن بلغوا أقصى مراتب الزلفى عند الله ، فلا أمر ولا نهي عندهم إلا أمر الله ونهيه ، فالدخول في هذه الصفوة مقدم على الدخول في الجنة ، فهو مقام روحي كبير فيه من الشرف والرفعة والعزة ما لا يدانيه أي ملحظ آخر في السمو والارتقاء والمنزلة ، إذ الحشر مع محمد وآل محمد صلوات الله عليهم آجمعين والأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين ، وهم العباد المنتقون حقاً فيه من القرب لله عز وجل ما فيه من المعاني الروحية البهيجة ، وإذا تم هذا فقد تعيّن الدخول إلى الجنة ، وهذه الجنة مضافة إليه سبحانه وتعالى تشريفاً لها وتعظيماً لشأنها ، إذ لم تضف الجنة لله في القرآن إلا في هذا الموضع .

وكما تضمنت سورة الواقعة تفصيل حياة أهل الجنة ، فقد تضمنت حديث أهل النار ، وهم أصحاب الشمال في لوحة قاتمة فظيعة في مناخها ، وسمومها ، وظلها ، وأكلها ، وشربها ، وصفتهم وخصائصهم بالترف والاصرار على كبائر الذنوب ، والتكذيب بيوم الدين والحشر والنشر (104) .

أعاذنا الله وإياكم من هذا العذاب الأليم ، ووقانا شر ذلك اليوم ، ورزقنا خيره وسروره وحبوره ، بقي علينا أن نتذكر قول الامام العظيم علي بن أبي طالب عليه السلام : « إِعمَلُوا لِلجَنَّةِ عَمَلَها فإنّ اللهَ لا يُخدُعُ عن جَنَتِهِ » . كتبنا الله وإياكم في أهل الجنة إنه سميع الدعاء .

 

الدكتور محمد حسين علي الصغير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الأسراء : 70 .

(2) طه حسين ، تجديد ذكرى أبي العلاء : 170 .

(3) البقرة : 30 .

(4) البقرة : 34 .

(5) (6) الأعراف : 12 .

(7) الحجر : 33 .

(8) صّ : 71 .

(9) آل عمران : 59 .

(10) مريم : 16 ـ 20 .

(11) مريم : 21 ـ 26 .

(12) مريم : 27 ـ 33 .

(13) فاطر : 11 .

(14) ياسين : 78 ـ 79 .

(15) الحج : 5 .

(16) ظ : الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 14 / 344 .

(17) المؤمنون : 12 ـ 14 .

(18) الذاريات : 56 .

(19) آل عمران : 183 .

(20) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 5 / 300 .

(21) المائدة : 27 .

(22) النساء : 163 .

(23) آل عمران : 33 .

(24) الأعراف : 59 .

(25) هود : 40 .

(26) نوح : 23 .

(27) نوح : 7 .

(28) نوح : 22 .

(29) القمر : 10 .

(30) المؤمنون : 27 .

(31) هود : 38 .

(32) القمر : 11 ـ 12 .

(33) نوح : 26 .

(34) الشورى : 13 .

(35) البقرة : 13 .

(36) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 10 / 266 .

(37) العنكبوت : 15 .

(38) الصافات : 76 ـ 82 .

(39) الأعراف : 65 .

(40) الأعراف : 66 .

(41) الأعراف : 69 .

(42) الأعراف : 71 .

(43) الأعراف : 72 .

(44) الأعراف : 73 .

(45) الأعراف : 78 .

(46) الأعراف : 84 .

(47) الأعراف : 92 .

(48) الأنبياء : 57 .

(49) الأنبياء : 58 .

(50) الأنبياء : 59 ـ 63 .

(51) الأنبياء : 68 ـ 71 .

(52) الصافات : 102 ـ 107 .

(53) إبراهيم : 39

(54) البقرة : 124 .

(55) آل عمران : 45 .

(56) الأنعام : 34 .

(57) القصص : 7 ـ 8 .

(58) القصص : 13 .

(59) القصص : 29 ـ 30 .

(60) الشعراء : 46 ـ 48 .

(61) القصص : 7 ـ 8 .

(62) القصص : 13 .

(63) القصص : 29 ـ 30 .

(64) الشعراء : 46 ـ 48 .

(65) الأعراف : 155 .

(66) المائدة : 24 .

(67) البقرة : 87 :

(68) المائدة : 110 .

(69) النساء : 157 ـ 158 .

(70) النساء : 159 .

(71) سبأ : 28 .

(72) العلق : 1 ـ 5 .

(73) ظ : المؤلف ، تأريخ القرآن : 38 .

(74) الحجر : 6 .

(75) الطور : 29 .

(76) النحل : 103 .

(77) المدثر : 24 .

(78) الذاريات : 52 .

(79) التكوير : 15 ـ 26 .

(80) فصلت : 26 .

(81) فصلت : 13 .

(82) الرعد : 27 .

(83) الرعد : 31 .

(84) الرعد : 43 .

(85) الأنعام : 19 .

(86) ظ : الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 11 / 388 .

(87) ظ : المرجع نفسه والصفحة .

(88) النمل : 40 .

(89) الواقعة : 10 ـ 26 .

(90) ظ : الطباطبائي ، الميزان 19 / 118 .

(91) آل عمران : 169 .

(92) الأسراء : 13 .

(93) المؤمن : 11 .

(94) المؤمنون : 99 ـ 100 .

(95) المؤمن : 45 ـ 46 .

(96) البقرة : 154 .

(97) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 1 / 349 .

(98) ياسين : 51 .

(99) الزمر : 68 .

(100) المؤمن : 16 .

(101) الزمر : 71 ـ 73 .

(102) ظ : الواقعة : 27 ـ 40 .

(103) الفجر : 27 ـ 30 .

(104) ظ : الواقعة : 41 ـ 56 .

المرفقات