دور المنبر الحسيني في الإصلاح الفكري ‏

مقدّمة

كان للمنبر الحسيني دور فاعل ومتميّز في إصلاح الفكر، سواء على مستوى الفرد أم المجتمع؛ لذلك نجده تارةً يؤثّر في إيمان الأفراد وهدايتهم وإرشادهم إلى الصواب، ويوجِد تغييراً ملموساً في حياتهم، وأُخرى نجده يؤثّر في ثقافة وقناعات مجتمع، بل مجتمعات بأكملها، فقد كان المنبر مؤثّراً في مواقف حسّاسة مرّت بها الأُمّة على طول التاريخ، ممّا جعل السلطات الظالمة وحكّام الجور يقفون في وجهه، ويقتلون روّاده وحضّاره، وهذا بمجمله يبيّن لنا السبب الذي جعل أهل البيت(عليهم السلام) يؤكّدون على تلك المجالس، وأنّ في حضورها الثواب الكبير والأجر الجزيل، فإنّ المنبر الحسيني هو هوية الإسلام.

في هذا المقال نسلّط الضوء على جنبة مهمّة ومصيرية في أداء المنبر، وهي دوره في الإصلاح الفكري، فكيف تمّ ذلك؟ وكيف أثّر؟ وما هي سُبل تطويره؟

تمهيد

قبل الدخول في صلب الموضوع لا بدّ من تقديم بعض الأُمور تمهيداً له، وهي:

أهمّية المنبر وأنواع تأثيره في المجتمع

يُعدّ المنبر الحسيني أحد أهمّ القنوات الإعلامية، والتبليغية، والتثقيفية، والتعليمية، والترويجية، والتوجيهية، والنقدية، وغير ذلك، بل يُعدّ هو الأهمّ على الإطلاق؛ لأنّه حوى ما تقدّم من الصفات مجتمعة، وهو ما لم نجده في مورد آخر. ونحن هنا لا نريد أن نعرّف المنبر الحسيني، ولا نريد أن نعرّج على تاريخه وتطوّره، ولا نريد أن ندخل في جزئياته المتعدّدة، وإنّما نريد أن نشير ـ ولو قليلاً ـ إلى أهمّية المنبر وأنواع تأثيره في المجتمع.

يمكن الوقوف على أهمّية أيّ موضوعٍ من خلال مجموعة من النقاط، من أهمّها: وظيفة ورسالة ذلك الأمر أوّلاً، وتأثيره وفائدته للمجتمع والمخاطب ثانياً، وإذا أردنا أن نقف على هذين الأمرين في مسألة المنبر الحسيني، نجده يحوز على أهمّية قصوى ووظيفة مصيرية لم ولن يؤدّيها غيره، ويمكن أن نذكر ـ في المقام ـ بعض هذه الوظائف بنحو العنوان:

1ـ إيصال الفكرة الصحيحة إلى المجتمع.

2ـ بيان العقيدة الحقيقية للمجتمع.

3ـ إيصال الحكم الشرعي.

4ـ الاهتمام بالجانب الأخلاقي، والتركيز على صفات الفضيلة والرذيلة.

5ـ نقل المعلومة التاريخية بصدق وأمانة.

6ـ توجيه المجتمع إلى ما فيه نفعه وصلاحه.

7ـ تحديد المشاكل والأمراض الاجتماعية وبيان حلولها.

 8 ـ تحديد الأولويات وترتيبها وتنظيمها. إلى غير ذلك من الوظائف المهمّة.

فالمنبر الحسيني لا يقتصر على مسألة السرد التاريخي، أو البيان العاطفي، أو ذكر المصائب وتهييج المشاعر، وإنّما أصبحت له وظائف عدّة، ومهام جسيمة، اضطلع بها ونجح أيّما نجاح، وأثّر أيّما تأثير، ولا يخفى أنّ هذا الدور الكبير والواسع للمنبر الحسيني لم يكن كذلك في كلّ الأزمان، وإنّما تطوّر شيئاً فشيئاً، إلى أن صار على ما هو عليه من السعة والتنوّع والشمولية، وهذا ما نجده ونشاهده في مختلف المجالس الحسينية التي تُقام في مختلف الأماكن، والتي يُبثّ الكثير منها على شاشات القنوات والفضائيات. يقول أحد خطباء المنبر: (إنّ المنبر الحسيني في بداياته كان مقتصراً على جانب الحزن والبكاء، ثمّ دخل عنصر الوعظ والإرشاد... بل راح يمتدّ في اهتماماته ليشمل مناسبات وذكريات النبي(صلى الله عليه واله)، والسيّدة الزهراء، والإمام علي بن أبي طالب، وبقيّة الأئمّة من أولاده(عليهم السلام)... ثمّ استمرّ المنبر الحسيني في تطوّره حتّى وصل مرحلته الأخيرة، حيث راح خطيب هذا المنبر يطرح مختلف القضايا والشؤون التي تهمّ الإنسان المسلم، ويناقش العديد من المسائل الاجتماعية، والعقدية، والتربوية، وغيرها)[1].

ويقول خطيب آخر ـ بعد أن بيّن السير التاريخي لتطوّر المنبر الحسيني مع ذكر مجموعة من المصنّفات لكلّ مرحلة مرّ بها ـ: (وفي هذا العصر حصل تطوّر كبير في عالم الخطابة؛ وذلك بسبب النهضة العلمية الحديثة، وفتح المدارس الجديدة، وتدريس العلوم العصرية، وانتشار الكتب في سائر العلوم... فصار الكثير من الخطباء يتعرّضون إلى معالجة قضايا اجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وأخلاقية، وسياسية، وثقافية، ويقارنون بين قوانين الإسلام والقوانين الحديثة، مستعينين بالدراسات الإسلامية، والعلوم القرآنية، إلى جانب العلوم الحديثة... وما زال المنبر في حالة تطوّر مستمر)[2] ، ثمّ ذكر مجموعة من المؤلّفات لهذه المرحلة من تطوّر المنبر أيضاً.

ومن خلال ما تقدّم يتبيّن أنّ المنبر الحسيني له أنواع التأثير في مختلف الجوانب:

الجانب الاقتصادي:

فهو يؤثّر في الجانب الاقتصادي، من خلال بيان موارد الصرف الصحيح، والتحذير من الإسراف والتبذير، والمصاريف الممنوعة شرعاً وعرفاً وقانوناً، وبذلك يكون المنبر من أهمّ الأدوات المؤثّرة في استقرار الاقتصاد، هذا فضلاً عن بيان القانون الاقتصادي المبسّط الذي يفهمه عموم أفراد المجتمع؛ ممّا يصنع ثقافة اقتصادية مستقيمة.

الجانب التثقيفي:

إنّ المنبر يؤثّر تأثيراً كبيراً في صناعة الشخصية العلمية، من خلال إثراء البحث بالمعلومات القيّمة في مختلف المجالات، ما من شأنه أن يصنع فرداً مثقّفاً واعياً في مختلف المجالات، ولو بشكل مبسّط ومعلومات ثقافية عامّة.

الجانب العقدي:

إنّ المنبر دائماً ما يعرض العقائد الصحيحة ويبيّنها، ويستدلّ عليها بشكل علمي واضح، ممّا يجعل المجتمع ذا عقائد قويمة ورصينة، مع الأدلّة والبراهين والفهم المستقيم.

الجانب الفقهي:

من الواضح أنّ نشر الثقافة الفقهية في المجتمع تعتمد اعتماداً كبيراً على المنبر الحسيني، بما يشمل من المسائل الأساسية والابتلائية والفرعية وغيرها.

الجانب الأخلاقي:

كان للمنبر الحسيني دور فعّال في نشر المبادئ والقيم الأخلاقية، سواء الدينية منها أو الإنسانية، وقد تربّت أجيال ومجتمعات كثيرة تحته، واستفادت من تعاليمه وهديه وإرشاده.

الجانب السياسي:

استطاع المنبر الحسيني وبما له من انتساب مقدّس إلى سيّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)، أن يقف بوجه السياسات المنحرفة والظالمة لحكّام الجور، وأن يقوّم مسار المجتمعات نحو العدالة والتنمية وإحقاق الحق.

الجانب الفكري

حيث كان للمنبر دور مهم في هذا الجانب، ولا بدّ أن يكون له دور أكبر في المستقبل، وهذا ما سوف نسلّط الضوء عليه بشكل أكبر في هذا المقال.وإذا أردنا أن نعدد أكثر فإنّ القائمة سوف تطول؛ لذلك نكتفي بهذه الإشارة.

مواقف خالدة للمنبر الحسيني

من خلال التأثير الكبير للمنبر الحسيني في مختلف مجالات الحياة كانت هناك مواقف خالدة للمنبر على مرّ العصور، نذكر منها أُنموذجاً معاصراً، وهو منبر الخطيب الشهير السيّد صالح الحلّي، فقد كان خطيباً مفوّهاً ألمعياً يؤثّر منبره في الجمهور بشكل كبير؛ لذلك كان له دور بارز أيّام ثورة العشرين ومقارعة الاحتلال البريطاني، فقد عبّأ الناس في البصرة ضدّ الاحتلال بعد أن سيطروا على أطراف البصرة، ثمّ عبّأ الناس في بغداد وأطرافها، إلى غير ذلك من المواقف المهمّة التي اتّخذها المنبر في تلك الأزمان العصيبة والمصيرية، واستمرّ إلى أن أُلقي القبض عليه من قِبل الاحتلال، وتمّ نفيه عن وطنه[3] . وهناك مواقف خالدة كثيرة جداً يصعب إحصاؤها، تستحقّ المتابعة والتأليف والبحث.

العداء للمنبر الحسيني وأسبابه

هذا الموضوع من المواضيع المهمّة التي تحتاج إلى كثير من التفصيل والبيان، ولكن سنشير إشارة عابرة فقط، فإنّه من خلال ما تقدّم من الإشارة إلى دور المنبر الخطير على مختلف المستويات؛ يكون المنبر الحسيني معرّضاً للعداء من قِبل جهات عدّة، منها: الطبقة السياسية الحاكمة، والأنظمة الاستبدادية، وهي أخطر الجهات على المنبر والمنبريين؛ لذلك نجدهم دائماً يمنعون المنبر ويقتلون الخطباء، وهذا ما عايشناه في زمن حكم البعث الصدامي؛ إذ تمّ منع المنابر، وإعدام الخطباء، وتشريدهم وسجنهم، وقد ألّف في ذلك سماحة الشيخ حمزة الخويلدي كتاباً تحت عنوان (شهداء المنبر الحسيني في العراق)، خصّصه للعقود الأربعة الأخيرة فقط، وأمّا إذا أردنا أن نُحصي شهداء المنبر الحسيني فهو بالإضافة إلى الصعوبة أو التعذّر ـ بحاجة إلى عشرات المجلّدات من الكتب.

ومن تلك الجهات، الحركات الفكرية الدينية المنحرفة، وهي كثيرة، فكان للمنبر الدور الأبرز في مواجهتها وبيان زيفها، وفضح تزويرها وغشّها وتلبيسها؛ لذلك نجدها تصدّت لخطباء المنبر بالقتل والتصفية الجسدية.

ومن تلك الجهات أيضاً، الحركات الفكرية الإلحادية، وهي إضافة إلى ما تشكّله من الخطورة الجسدية الأخطر من جهة تصفية الشخصية المنبرية من خلال الاتّهام والافتراء والبهتان. والنماذج كثيرة والقائمة تطول، فنكتفي بما ذُكر.

الإصلاح الفكري:

1ـ تعريف الإصلاح الفكري

قبل أن نقف على معنى الإصلاح الفكري لا بدّ أن نتعرّف على الفكر أولاً، وهنا لا نريد أن ندخل في التعريفات التي ذُكرت في علم المنطق والفلسفة، وأُصول الفقه وغيرها، فلا نريد أن نقول: (بأنّه ترتيب أُمور معلومة لتحصيل الأمر المجهول، والإيراد على ذلك بأنّه ربما تحصل معرفة المجهول بأمر واحد، كما في تعريف الإنسان بأنّه ضاحك، أنّ المشتق ليس أمراً واحداً، بل هو أُمور عديدة؛ لأنّ معناه شيء أو ذات ثبت له المبدأ، فهو مركّب من الذات والمبدأ والنسبة بينهما. وأورد عليه السيّد شريف في الحاشية بأنّه يستحيل أخذ الشيء في المشتق؛ لأنّه إن أُريد من الشيء مفهومه، فيلزم أخذ العرض العامّ في الذاتي، أعني: الفصل في مثل ناطق، وإن أُريد منه مصداق الشيء وواقعه، فيلزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية...)[4].

ولا نريد أن نقول: (إنّ النظر ـ أو الفكر ـ المقصود منه إجراء عملية عقلية في المعلومات الحاضرة؛ لأجل الوصول إلى المطلوب، والمطلوب هو العلم بالمجهول الغائب، وبتعبير آخر أدقّ: إنّ الفكر هو: حركة العقل بين المعلوم والمجهول)[5].

ولا نريد أن نقول: (التفكير: اسم يُطلق على الحركة الإرادية للنفس الإنسانية بقوّتها العاقلة؛ لتحصيل العلم بالمطالب المجهولة، وتكون حركة النفس هذه ضمن خطوات تبدأ من مواجهة المجهول، فتتحرّك نحو المعلومات الموجودة عندها، باحثة عن المبادئ العلمية المناسبة لتلك المطالب، إلى أن تجدها، ثمّ ترجع منها نحو المطالب، مؤلِّفة بين تلك المبادئ على هيئة موصلة إلى النتيجة)[6].‏

لا نريد أن نقول ذلك لا لتخطئة ما قيل، وإنّما لأجل بيانه بعبارة أوضح، فنقول: إنّ الفكر والتفكير: هو التأمّل والعقلانية والطريقة الصحيحة في فهم الأُمور، واتّخاذ موقف مناسب لها، بحيث تكون قرارات الفرد منسجمة ومنظّمة في ضوء معلومات واقعية منسجمة مرتّبة، حتّى تخرج حياة الفرد من العبثية والفوضى، والقرارات الخاطئة التي لا يبقى منها سوى الحسرة والندامة، مع ضياع الكثير من الفرص المناسبة، والمصالح النافعة، سواء في الدنيا أو الآخرة.

وأمّا الإصلاح: فهو من المفاهيم الواضحة التي يتغنّى بها الجميع، ومع إضافة الإصلاح إلى الفكر يكون المعنى: هو الوصول إلى الطريقة الصحيحة والسليمة في التفكير، وهذه الطريقة تتعرّض إلى شبهات وإشكالات سواء على مستوى النظرية أو التطبيق، فيشوبها الخراب والانحراف، ممّا يستدعي ملاحظتها وإصلاحها وإبعادها عن الخراب والانحراف بشكل مستمر، فلا بدّ من الإصلاح الفكري.

2ـ أبعاد الإصلاح الفكري وأهمّيته

إنّ الفكر له أبعاد واسعة، وأهمّية بالغة في حياة الإنسان العاقل والكون بشكل عامّ، ومن جميل ما قرأته في هذا الصدد: (الفكر: هو رصيد الأُمم، وأساس تطوّرها، وعليه تقوم دعائم الحضارة، ومقوّمات المدنية، وعلى قدر ما يكون ذلك الفكر أصيلاً ونابعاً من تأمّل وتجربة وعمق ومعرفة وواقع واتّزان، بقدر ما تندفع هذه الأُمّة أو تلك نحو سلّم الرقي والتطوّر، فإذا انسجم الفكر مع مكوّنات الإنسان الروحية والبدنية والنفسية والواقعية، وتطابق مع الكون والحياة في التفسير والغاية، فإنّ هذا الفكر يكون مثاليّاً متّسقاً من داخله، ويستطيع أن يحقّق ما تطمح إليه عوالم الإنسان الداخلية من الخير والسعادة والحقّ والجمال) [7].

وقال آخر: (فإنّ أغلب الأزمات التي يمرّ بها المجتمع أو الفرد، هي أزمات في ذاتها فكرية؛ لعدم وجود القدرة على إدراك الواقع الخارجي إدراكاً سليماً، ممّا يؤدّي إلى الوقوع في أخطاء كبيرة ومهلكة في بعض الأحيان، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): مَن ضعُفت فكرته قويت غرّته. ذلك فإنّ عملية تجديد الذات وإصلاح الأُمّة لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال عملية الإصلاح الفكري، وتنقية الفكر من الشوائب التي تعيق وجود النظرة السليمة للحياة، فلا يمكن تأسيس حركة إنسانية واجتماعية متطوّرة ومتقدّمة ما لم توجد بُنية فكرية سليمة في أساس بناء الأُمّة وهيكليتها)[8].

تأثير المنبر في الإصلاح الفكري

كان للمنبر الحسيني دورٌ مهمٌّ في إصلاح الفكر، كما أنّه يمكن أن يكون له دورٌ أهمّ في المستقبل؛ ولذا سوف يكون بحثنا في مطلبين: المطلب الأوّل: الإصلاح الفكري الذي رافق المنبر منذُ تأسيسه وإلى الآن، والمطلب الثاني: الدور الإصلاحي المطلوب من المنبر في المستقبل.

المطلب الأوّل: الإصلاح الفكري الذي رافق المنبر

يمكن أن نقسّم الإصلاح الفكري الذي رافق المنبر إلى قسمين:

القسم الأوّل: تأثير المنبر في الإصلاح الفكري من خلال نفس تشكيله وتطوّر مراحله

إنّ السير التاريخي للمنبر الحسيني منذُ التأسيس وإلى اليوم يمكن أن نضعه في مراحل كلّية عدّة، تطوّر من خلالها العرض المنبري وكيفية العرض، وهي:

المرحلة الأُولى: مرحلة الربط وإثارة السؤال

من الأُمور الواضحة أنّ مصطلح المنبر الحسيني تأسّس ونشأ بعد واقعة الطف الأليمة، فكان ـ وما زال ـ مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً وإلى يومنا هذا، وإذا دقّقنا النظر في المراحل الأُولى لتأسيس المنبر، نجد أنّ المحتوى يؤكّد على أُمور معيّنة، منها: إثارة العاطفة، وبيان المظلومية، وربط المجتمع بالإمام الحسين(عليه السلام)؛ لذلك نجد أنّ الأئمّة يركّزون على هذا الربط، وتوجيه الأنظار إلى واقعة كربلاء، ويمكن أن ندرج في هذه المرحلة جميع المآتم التي أُقيمت على الإمام الحسين(عليه السلام)، سواء العفوية منها ـ وهي التي أقامها بعض الصحابة، وبعض الفئات من الناس، كالتوّابين، وأهل الكوفة، وأهل مصر، وغيرهم[9] ـ أم التي أمر أهل البيت(عليهم السلام) بإقامتها، ويمكن أن نذكر بعض النماذج على ذلك:

منها: ما رواه ابن قولويه، عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: (مَن زار الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً لقيَ الله(عز وجل) يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجّة، وألفي ألف عمرة، وألفي ألف غزوة، وثواب كلّ حجّة وعمرة وغزوة كثواب مَن حجّ واعتمر وغزا مع (صلى الله عليه واله) ومع الأئمّة الراشدين(عليهم السلام). قال: قلت: جُعلت فداك، فما لـمَن كان في بُعد البلاد وأقاصيها ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟ قال: إذا كان ذلك اليوم برز إلى الصحراء، أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره، وأومأ إليه بالسلام، واجتهد على قاتله بالدعاء، وصلّى بعده ركعتين، يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثمّ ليندب الحسين(عليه السلام) ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويُقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين(عليه السلام)، فأنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله(عز وجل) جميع هذا الثواب)[10].

ومنها: ما رواه الصدوق، عن الإمام الرضا(عليه السلام)، أنّه قال: (مَن تذكّر مصابنا وبكى لمِا ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب)[11].

ومنها: ما رواه ابن قولويه، عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال لأبي هارون المكفوف: (يا أبا هارون، أنشدني في الحسين(عليه السلام). قال: فأنشدته، فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرقّة ـ قال: فأنشدته:

اُمرر على جدث الحسين

 

فقل لأعظمه الزكيه

 

قال: فبكى، ثمّ قال: زدني. قال: فأنشدته القصيدة الأُخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر. قال: فلمّا فرغت قال لي: يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً، فبكى وأبكى عشراً كُتبت له الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً، فبكى وأبكى خمسة كُتبت له الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً، فبكى وأبكى واحداً كُتبت لهما الجنّة، ومَن ذُكر الحسين(عليه السلام) عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنّة)[12].

وغيرها من الروايات الكثيرة عن أهل البيت(عليهم السلام)، التي أمرت بإقامة المآتم على الإمام الحسين(عليه السلام)، والمجالس، وذكر المصيبة، والنعي والبكاء، والارتباط العاطفي بالإمام الحسين(عليه السلام) ومصيبته، وما جرى عليه وعلى أهل بيته، وتعتبر هذه هي المرحلة التأسيسية للمنبر الحسيني؛ ولذلك اهتمّ بها أهل البيت(عليهم السلام) اهتماماً بالغاً، وهذا الربط بدوره يُثير ويُؤسّس للكثير من الأسئلة التي يطرحها ذهن المسلم، بل والبشري بشكل طبيعي، وهي أسئلة مصيرية، منطقية، فكرية، مرتّبة ومنظّمة، منها: مَن هو الإمام الحسين(عليه السلام)؟ ولماذا ثار وانتفض وقاوم ورفض؟ وما هي غايته؟ وما هو هدفه؟ ومَن هو عدوّه؟ ولماذا صار عدوّه؟ وكيف استُشهد(عليه السلام)؟ وما هي تلك المصيبة العظيمة التي وقعت؟ وعلى ماذا تدلّ بالنسبة لحقيقة مَن ارتكبها؟

هذه الأسئلة ومثلها كثير تبتني على المرحلة الأُولى من مراحل المنبر الحسيني، وبالإجابة عنها تبدأ مرحلة جديدة من مراحل المنبر، تترتّب ترتّباً منطقياً على المرحلة الأُولى.

المرحلة الثانية: مرحلة الجواب والبيان

بعد المرحلة الأُولى من مراحل المنبر الحسيني التي كانت للربط وإثارة السؤال ـ ترقّى المنبر إلى مرحلة ثانية كان عمادها الجواب عن الأسئلة المتقدّمة التي اهتمّت بمَن هو الإمام الحسين(عليه السلام)؟ وما هي سيرته وحركته وأهدافه؟ وما هو ارتباطه بالإسلام؟ كما كان الأمر مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهوية الإمام الحسين(عليه السلام)، وانتمائه العقدي والديني، والبيت الطاهر الذي كان ينتمي إليه؛ لذلك دخل في المنبر حديث عن فضائل الرسول الأعظم(صلى الله عليه واله) وسيرته، وفضائل سائر أهل البيت(عليهم السلام) وسيرتهم، وهذا ترتيب منطقي، وقضية فكرية منظّمة بين المراحل، فالمرحلة الثانية مرتّبة على الأُولى بشكل انسيابي؛ لأنّ الدخول في المرحلة الأُولى يوصل بشكل مباشر إلى المرحلة الثانية، طبعاً مع الوقت والاستمرار والمواظبة على المرحلة الأُولى، ولا نعني بذلك أنّ المرحلة الأُولى قد انتفت بتحقّق الثانية، وإنّما المرحلة الثانية هي الأُولى مع زيادة في بعض الخصوصيات، وهذا يُعتبر توسّعاً لوظيفة المنبر ومهمّته وأهدافه ومخاطبه.

وهذه المرحلة ربّما لا نستطيع أن نذكر متى بدأت بالضبط، ولا إلى متى استمرّت  وهذا غير مهمّ فيما نحن فيه؛ إذ لا نريد أن نؤرّخ لمرحلة، وإنّما نريد أن نبيّن وجود تلك المراحل التي صاغت الفكر وتعاملت معه، وأثّرت فيه وربّته، وعوّدته على الترتيب، والتنظيم، والتسلسل، والرقي، والتقدّم  وإنّما يمكن أن نذكر بعض الشواهد على ذلك، بعضها يعود إلى زمن متقدّم، وبعضها إلى أواسط التاريخ الإسلامي، ونكتفي بشاهد لكلّ زمان من تلك الأزمنة:

الشاهد الأوّل: ما رواه ابن قولويه، عن عبد الله بن حمّاد البصري، عن الإمامالصادق(عليهالسلام): (...ثمّ قال: بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساءً يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي. فقلت له: نعم، جُعلت فداك، قد شهدت بعض ما تصف. فقال: الحمد لله الذي جعل في الناس مَن يفد إلينا، ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوَّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم، يهدرونهم ويقبّحون ما يصنعون)[13].

فهذا النصّ صريح في أنّ المأتم الحسيني، وإقامة العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام)، قد اشتمل على القصة، والمراثي، والمدح للإمام الحسين وسائر أهل البيت(عليهم السلام)، كما ويتمّ التعرّض لمثالب أعدائهم، وهذا ما يكشف عن عقيدة الولاء والبراء التي هي من مهمّات العقيدة الإسلامية.

الشاهد الثاني: ما نجده في مجموعة من الكُتب التي أُلّفت فيما بعد، عن مصيبة كربلاء وما جرى فيها، فهي كُتبت للمنبر الحسيني ولإقامة المأتم، وقد تطرّقت إلى موضوع المقتل وسيرة الإمام الحسين وأهل البيت(عليهم السلام)، وبيان فضائلهم ومثالب أعدائهم، ككُتب المقاتل والسير التي ألّفها كبار علماء الشيعة من قبيل كُتب ابن طاووس في هذا المجال.

المرحلة الثالثة: مرحلة الشمولية والاستيعاب

في هذه المرحلة قد تطوّر أداء المنبر بشكل ملحوظ جداً، وتوسّعت وظائفه بشكل شمولي؛ إذ شمل مختلف أُصول الدين الإسلامي وفروعه، والمنظومة الأخلاقية، وسائر التعاليم الدينية، بل حتّى الأعراف العامّة والقضايا الاجتماعية والثقافية، فنراه يتحدّث عن التوحيد وصفات الخالق والأدلّة على وجوده، وجواب الشبهات المثارة حول هذا الموضوع، ويتطرّق إلى النبوّة وأبعادها وأدلّتها، وإلى الإمامة والعصمة وأدلّتهما النقلية والعقلية، وإلى المعاد ويوم القيامة، وإلى العدل وما يترتّب على ذلك، وإلى التاريخ العامّ والخاصّ، وإلى المسائل الفقهية المرتبطة بسائر الأبواب من الطهارة والصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ، وغيرها، إلى غير ذلك من التوسّع الكبير والعظيم الذي حصل في موضوع المنبر الحسيني.

يقول الشيخ شمس الدين بهذا الصدد عند ذكره للمراحل التي مرّ بها المنبر الحسيني:(احتلّت مركزاً مهمّاً جداً في المأتم الحسيني، والدراسات الإسلامية، والدعوة إلى الإسلام، وردّ شبهات الملحدين حول الإسلام، ومحاكمة الدعوات الإلحادية واللاأخلاقية، وكذلك الدراسات القرآنية والتفسير، ويحدث غالباً أنّ الخطيب يبدأ كلامه بآية من كتاب الله تعالى يفسّرها، ويخلُص منها إلى بحث إسلامي في العقيدة، أو في الشريعة، أو في الأخلاق، أو في دفع الشبهات عن الإسلام، ثمّ يمرّ في حديثه على شيء من التاريخ...) [14]

المرحلة الرابعة: المنبر الخاص

يمكن أن نُطلق على هذه المرحلة مرحلة المنبر الخاص، وهي التي يتمّ التطرّق فيها إلى بعض العلوم الخاصّة والتخصّصية، ولكنّها ترتبط بنحو أو بآخر في بعض مسائلها ببعض المسائل الدينية، أو النصوص الدينية، ممّا يعزّز قيمة المعلومة الدينية بشكل أكبر، أو ربّما يفتح آفاقاً لتلك العلوم من خلال النصّ الديني، وهذا النوع وإن كان خاصّاً، يمكن تطويره بشكل أكبر في المستقبل.

قال أحد الخطباء: (وفي هذا العصر حصل تطوّر كبير في عالم الخطابة؛ وذلك بسبب النهضة العلمية الحديثة، وفتح المدارس الجديدة، وتدريس العلوم العصرية، وانتشار الكتب في سائر العلوم، كالفيزياء، والكيمياء، والطبّ، والقانون، والاجتماع، والنفس، والفلسفة، والتربية، وانفتاح باب الدراسات والبحوث التحليلية... فصار الكثير من الخطباء يتعرّضون إلى معالجة قضايا: اجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وأخلاقية، وسياسية، وثقافية، ويقارنون بين قوانين الإسلام والقوانين الحديثة، مستعينين بالدراسات الإسلامية، والعلوم القرآنية، إلى جانب العلوم الحديثة...) [15].

ويقول خطيب آخر بهذا الصدد أيضاً: (وأخذ المشرفون على إقامة المنابر الحسينية، ومعهم طبقات الواعين والمثقّفين، يُولون شروطاً أُخرى... وتمثّلت تلك الشروط الجديدة بثقافة خطيب المنبر الحسيني، وتمكّنه من معالجة القضايا التي تهمّ الإنسان، من قضايا تربوية، أو سلوكية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وحتّى سياسية أو جهادية إذا سمحت الظروف بذلك، أو اقتضت الحاجة والمصلحة العامّة)[16].

هذه مجموعة من المراحل التي مرّ بها المنبر الحسيني[17] منذُ التأسيس وإلى وقتنا الحاضر، وهي تعكس بوضوح تامّ الطريقة المنظّمة والمرتّبة منطقياً وعقلائياً، الطريقة التي تدلّ على أنّ هذه المؤسّسة تربّي الأذهان والفكر على التسلسل في الأُمور، والتدقيق في ترتيبها، وأنّها إذا كانت كذلك فمن شأنها أن تبقى وتستمرّ رغم كلّ الصعوبات والتحدّيات، من القتل والهتك، والسجن والتشريد، ممّا مورس بشكل مستمرّ ومركّز على هذه المؤسّسة العريقة ـ أعني: مؤسّسة المنبر الحسيني ـ التي تحمل في داخلها روح الماضي وعمق التاريخ، وكذا عنفوان الحاضر والنجاح الباهر، وفيها ومعها المستقبل المشرق المنير، فرغم كلّ الصعاب ما زالت باقية وقوية ومؤثّرة بشكل كبير، وأقوى من أيّ وقتٍ مضى، فمؤسّسة المنبر الحسيني من خلال نشوئها وتأسيسها وتطوّرها وتكاملها، تُعلّمنا الفكرة الصحيحة، وكيفية تنميتها وتطويرها، على مستوى التنظير والتفكير والعمل، والاستقامة والاستمرار.

القسم الثاني: تأثير المنبر في الإصلاح الفكري من خلال المضمون والمحتوى

ركّز المنبر الحسيني[18] على الفكر وإصلاحه بشكل كبير؛ ذلك من خلال عدّة نقاط تمركز حولها وأكّدها، وجعلها نهجاً له بحسب ما ينسجم مع تطوّر مراحله التي مرّ بها كما تقدّم، ومن تلك النقاط، ما يلي:

الأُولى: الاعتماد على الدليل والبرهان، حيث نجد أنّ الطرح المنبري يسعى حثيثاً لإقامة الدليل والبرهان على مُدّعاه قدر الإمكان، ولا يترك كلامه عائماً إنشائياً بحتاً، لا يستند إلى دليل قائم وبرهان قاطع، فأوّلاً الدليل، ثمّ النتائج بحسب الثبوت، وإن لم تكن كذلك بحسب الإثبات، فالمسائل العقلية كإثبات وجود الله تعالى وصفاته[19]، ومباحث النبوّة العامّة، خصوصاً في أصل ثبوتها وما شاكلها من البحوث، نجد أنّ الطرح فيها يعتمد على الدليل العقلي، والبرهان القطعي، ولا يُستند في مثل هذه المباحث إلى الدليل القرآني أو الروائي، إلّا من باب التأييد والتبيين؛ حذراً من لزوم إشكال الدور أو التسلسل.

الثانية: الاعتماد على المصادر الأصلية للمعلومة الدينية، من قبيل الاعتماد على القرآن وسنّة النبي(صلى الله عليه واله) وأهل البيت(عليهم السلام)؛ لذلك لا نجد مجلساً ـ خصوصاً في الأزمنة المتأخّرة ـ يخلو في افتتاحه من آية أو رواية، وهذا يروّض الفكر ويصلحه ويعلّمه أن يأخذ المعلومة الدينية من أهلها ومن مصدرها.

الثالثة: الاعتماد على المصادر الأصلية التي نقلت لنا سنّة الرسول(صلى الله عليه واله) وأهل البيت(عليهم السلام)؛ لأنّ عصر النصّ قد انقطع منذُ زمن طويل، وقد نقلت لنا مجموعة من المصادر والكتب كلامهم(عليهم السلام)، وتلك المصادر بعضها صحيح يمكن الاعتماد عليه وبعضها الآخر ليس كذلك، فالمنبر يعلّمنا من خلال طرحه ومن خلال توصياته أن لا يتمّ الاعتماد على كلّ مصدر، بل لا بدّ من التنقيح والبحث والمعرفة حتّى لا يصل الفرد إلى معلومات خاطئة بالاعتماد على معلومات خاطئة أُخرى، ولا يرتّب نتائج على تلك المعلومات.

الرابعة: المصادر التاريخية، فإنّ التاريخ قد نُقل لنا بأشكال عدّة، فبعضه خاصّ بوقائع معيّنة، وبعضه بأمكنة معيّنة، وبعضه بأزمنة معيّنة، وبعضه عامّ، وبعضه نُقل بإنصاف، وبعضه بزيادة ونقصان، وبعضه بتزوير وبهتان، وخصوصاً ما كُتب في ظلّ البلاط والدولة وحاكم الجور، من أجل ذلك لا بدّ من تنقيح المعلومة التاريخية من خلال معرفة المصادر المهمّة أو النقيّة، والطرق والمناهج التي لا بدّ أن تُتبع لاستلال المعلومة التاريخية، وهذا ما يؤكّده المنبر من خلال عرضه التاريخي، ومن خلال توصياته العامّة في التعامل مع المعلومة.

الخامسة: بيان الانحرافات الفكرية والردّ عليها، وإنّما سُمّيت الشبهة شبهة؛ لأنّها تشبه الحقّ، لذلك فإنّ أخطر ما يكون في الانحراف الفكري هو في استناده إلى شبهة معيّنة، وهذا ما يجعل دور المنبر أكثر حساسية وصعوبة في التعامل مع مثل هذه الانحرافات؛ لأنّه يلزم معرفة الشبهة من جهة، ومعرفة اختلافها عن الحقّ من جهة أُخرى، ثمّ تقويم الفكر وإصلاحه من خلال بيان الحقيقة مرفقة بالأدلّة والنظم والترتيب.

السادسة: الحثّ على التعلُّم؛ إذ يُعدُّ التعلُّم أحد العوامل الأساسية في إصلاح الفكر، وهو ما أكّده الدين بشكل أساسي، وقد اعتبره المنبر من أهمّ رسائله التي يريد إيصالها إلى المجتمع، فلا نبالغ إذا قلنا: لا يكاد منبر يخلو من الحثّ على التعليم والتعلُّم والتأكيد عليهما.

السابعة: الحث ّعلى السؤال، فإنّ المنبر يحثّ عليه ويرغّب فيه؛ لأنّ السؤال مقدّمة للمعرفة، ومقدّمة لإصلاح الفكر، ومقدّمة للتعلُّم؛ لذلك نجد المنبر في كثير من حالاته يقوم على طرح الأسئلة والجواب عنها، فهو يؤكّد هذه الحقيقة قولاً وعملاً، تنظيراً وتطبيقاً.

الثامنة: الحثّ على القراءة والمطالعة، فإنّ القراءة والقلم (المطالعة والكتابة) أدوات التعليم والتعلُّم، والقراءة كذلك مقدّمة للمعرفة والفكر، وهي طريق للنجاح والصلاح والإصلاح؛ لذلك كانت أحد أهمّ الأُمور التي ركّز عليها المنبر وأوصى بها، ورغّب فيها.

التاسعة: انسجام العلم والعمل، فإنّ من الأُمور التي يرفضها الفكر السليم، هي مسألة الاختلاف بين العلم والعمل، الاختلاف بين القناعة وبين الممارسة، وهو أمر شائع للأسف، ويُعتبر من المسائل الخطيرة والمنحرفة عن الفكر السليم، وهي بحاجة إلى إصلاح، وهو ما يؤكّده المنبر من خلال توصياته وممارساته.

هذا، وتوجد هناك موارد فكرية كثيرة أكّد عليها المنبر، وعلى إصلاح المجتمع من خلالها، نذكرها على نحو العنونة، وهي:

العاشرة: مطابقة الفعل للقول.

الحادية عشرة: الترتيب المنطقي بين المسائل وانسجامها.

الثانية عشرة: التأكيد على الاستشارة والنصيحة.

الثالثة عشرة: التأكيد على النظم والترتيب.

الرابعة عشرة: الرؤية داخل الإطار العام.

الخامسة عشرة: الرجوع عن الخطأ مهما كان.

السادسة عشرة: الثبات والاستقامة على الحقّ.

السابعة عشرة: العدل ونبذ الظلم.

الثامنة عشرة: الرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم.

التاسعة عشرة: مراعاة الزمان والمكان والظروف.

العشرون: تحديد الأولويات والمهمّ والأهمّ.

وغيرها من الموارد الأُخرى.

إنّ ما تقدّم من هذه المسائل والإصلاحات الفكرية المتنوّعة، التي ذكرنا أنّ المنبر قد تصدّى لها وأكّدها وعمل بها، هو أمر مأخوذ من الواقع الخارجي، وليس محض أقوال وأفكار بعيدة عن الواقع والمجتمع، ويمكن أن نستدلّ على ذلك من خلال أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ المنابر الحسينية التي تُقام في المناسبات المعروفة والمحدّدة، بل حتّى المنابر التي تقام في أوقات شخصية ولمناسبات خاصّة، أكثرها موجودة بين أيدينا إمّا بشكل مكتوب، أو مسموع، أو مرئي، أو بالحضور المباشر، وهي لا تكاد تخلو من النقاط المتقدّمة، وخير دليل على وجود الشيء وقوعه.

الأمر الثاني: بإحصاء بسيط من داخل المجتمع الذي تقام فيه المنابر الحسينية، نجد أنّ الكثير من المعلومات الفكرية وغيرها مستقاة من المنبر الحسيني، وكثير من المواقف التي يتّخذها الناس هي في أغلبها مبنية على معلومات وإرشادات ونصائح منبرية.

المطلب الثاني: الدور الإصلاحي المطلوب من المنبر في المستقبل

إنّ كلّ ما تقدّم كان يبيّن الدور الماضي والحاضر للمنبر الحسيني في إصلاح الفكر، سواء كان من خلال نشوئه وتطوّره، أم من خلال تعاليمه واهتماماته، وهو دور مهمٌّ ومصيري بالنسبة إلى الوضع الديني بشكل عامّ، ولا يمكن الاستغناء عنه؛ لأنّه هو الذي يرسم الأُطر العامّة للفكر والثقافة في المجتمع؛ لذلك فإنّه من الواجب أن يتمّ تطوير المنبر في المستقبل حتّى يمكنه أن يواكب العصر، وتقدّم الذهنية البشرية التي ما انفكّت عن التقدّم والتطوّر والنمو، وهذه الحالة ليست جديدة أو دخيلة على المنبر الحسيني، فهو منذُ أن تأسّس وهو في حالة تطوّر ونمو وازدهار على جميع المستويات، سواء في طريقة الطرح والعرض، أو في نوعية المعلومة المطروحة، أو الشمولية والسعة الموجودة فيه، خصوصاً في الأزمان المتأخّرة، أو في كمّية التأثير في المجتمع، أو سعة المتلقّي كمّاً وكيفاً، فلأجل هذه الخصوصيات والقابليات الموجودة في المنبر لا بدّ أن يتطوّر، حتّى يواكب العصر، بل لا بدّ أن يتقدّم حتّى يمكنه أن يسيّر الفكر ويمنهجه ويؤطّره بأُطر العقل والدليل والبرهان، وكلّ ما هو حقّ، وهنا يمكن أن نطرح نوعين كلّيين من أنواع تطوير المنبر الحسيني الساعي إلى الإصلاح الفكري، الأوّل: على مستوى تطوير المعلومة، والثاني: على مستوى صناعة المنهج.

الأوّل: تطوير المعلومة

إنّ العلوم دائماً في تطوّر وتوسّع مستمر، ولم تقف عند حدٍّ معيّن، وهذا من الأُمور الواضحة والبيّنة والوجدانية، وهو ناتج من طبيعة الذهنية البشرية؛ إذ إنّها تُفكّر وتتأمّل، وتبحث وتُحلّل، وتُشقّق وتُفرّع، وتُقسّم وتُعرّف، وتُميّز، وتُفرّق وتُوحّد، فلا نجد علماً من العلوم بقيَ على حاله منذُ تأسيسه أو اكتشافه، سواء العلوم الطبيعية أو الإنسانية، فدائماً ما نجد أنّ كلّ علم يتطوّر ويترقّى طولاً وعرضاً، بتعميق مسائله وتشقيقها وتقسيمها وتفريعها طولاً، ومن خلال إضافة مسائل جديدة، أو فروع متنوعة، أو قوانين مستحدثة ومكتشفة عرضاً، فإذا أخذنا ـ مثلاً ـ علم الطبّ وقارنّا بينه قبل ألف عام وبين ما وصل إليه اليوم، فلربّما لا نجد من الاشتراك إلّا الشيء اليسير؛ لكثرة ما أُضيف إليه، وما تمّ التوصّل إليه، وكذا في الهندسة، والكيمياء، والفيزياء، أو كما في علوم الدين كالعقائد، والأحكام، والأخلاق، وما إلى ذلك. وهذا التطوّر والتعمّق والتوسّع في العلوم حالة صحّية إيجابية مطلوبة لا بدّ أن تكون. وبما أنّ المنبر هو الناقل والمبيّن والمؤكّد لكثير من تلك العلوم في أوساط المجتمع، وهو لسان الحوزة الناطق، فلا بدّ أن تكون معلومته التي يوصلها متطوّرة، ومنسجمة تمام الانسجام مع آخر ما توصّل إليه ذلك العلم المنقول عنه، وحتّى تتّضح الفكرة أكثر نذكر مقدّمتين ومشكلة وحلّها:

المقدّمة الأُولى: تعامل المنبر مع مختلف العلوم

إنّ المنبر الحسيني في غالبه هو ناقل للعلوم الدينية، سواء التي ترتبط بالعقيدة، أو الأحكام الشرعية، أو الأخلاق، بل وتشمل التاريخ والسيرة والسياسة وعلوماً أُخرى، ومختلف الثقافات العامّة التي يؤسّس لها العلماء، والتي هي بطبيعة الحال مشمولة بالتطوّر الذي تمرّ به العلوم طولاً وعرضاً.

المقدّمة الثانية: أنواع العلوم بالنسبة للمجتمع

يمكن أن نقسّم العلوم من حيث ضرورة مواكبة المجتمع لها بشكل كلّي إلى قسمين:

ففي قسم منهما لا بدّ أن تواكب الذهنية العامّة للمجتمع نتائج العلوم المنضوية تحته، وتتواصل مع آخر ما توصّلت إليه، وتتعرّف على آخر النظريات فيها، وعلوم هذا القسم من قبيل العلوم الدينية المرتبطة بعقيدة الإنسان وسلوكه العام، والقانون الذي لا بدّ أن يتّبعه، فعلى سبيل المثال لو طرحت شبهة في أحد تلك العلوم، وقد كان ذلك العلم قد تفرّع وتوسّع وأجاب عنها، ولكن المجتمع لم يكن مطّلعاً عليها، فإنّه يمكن لتلك الشبهة أن تنتشر وتؤثّر سلباً في فكره، فلو أنّ المجتمع كان متسلّحاً بتلك المعلومة، لكان قد رفضها وردّها ووأدها في مهدها.

بينما نجد أنّ هناك قسماً آخر ليس من الضروري أن تواكبه الذهنية العامّة في المجتمع، بل هو لأهل الاختصاص، وإن كان المجتمع يستفيد منه بشكل كبير، كبعض مسائل الطبّ، والهندسة، والفيزياء، وما شابهها من العلوم.

المشكلة: الفاصلة الكبيرة بين الذهن العام والذهن الخاصّ

هناك مشكلة ملموسة يعاني منها المجتمع بشكل كبير، وهي الفاصلة الكبيرة بين ذهنية المجتمع بشكل عام، وبين النتائج الكثيرة والدقيقة التي توصّلت إليها العلوم ـ الذهن الخاصّ ـ من القسم الأوّل، فضلاً عن العلوم التي هي من القسم الثاني، والتي قلنا: إنّ على الذهن العامّ أن يواكب آخر نتائجها، فالمعلومات الموجودة في داخل الكتب أكثر بكثير من تلك التي في ذهن المجتمع؛ لذلك نجد أنّ فكر المجتمع هشّ بعض الشيء، ويمكن أن تجتاحه بعض الانحرافات الفكرية، وتؤثّر فيه سلباً، وهذا أمر لا بدّ أن يعالج، وإلّا فسوف يذهب الكثير من الجهد المبذول من قِبل العلماء وأهل الاختصاص سُدى، أو لا أقل سوف تكون فائدته على أقلّ مستوياتها، وفي الجهة الأُخرى سوف تكون الشبهات والانحرافات الفكرية أكثر تأثيراً في المجتمع، وسوف يعاني من أمراض كثيرة تؤثّر في فكره ومواقفه وعقائده وسلوكه بشكل عام، وهو ينعكس بطبيعة الحال بشكل سلبي على سعادته في الدنيا والآخرة.

الحلّ: منهجية طرح المعلومات

لا بدّ أن تكون هناك منهجية في طرح المعلومة المنبرية، فإنّ المنبر الحسيني وللخصوصية التي ينفرد بها، وهي أنّه مستمر في أوقات خاصّة وعامّة، وعلى مدار السنة، ويخاطب مختلف العقول، ويحضره مختلف المستويات، يمكنه أن يبرمج طرحه للمعلومات، ويطوّره خلال عدّة سنوات، لتكون متناسقة ومرتّبة ومنظّمة في الطرح، ومركّزة على الموضوعات المهمّة والضرورية، بحيث يتمّ تناول موضوع واحد في حدود معيّنة وتركيزه في الذهن من خلال ثقافة منبرية عامّة، من الواضح  أنّه لا يمكن أن يقوم بها فرد أو أفراد معيّنين، بل هي رؤية عامّة متنوّعة الطرح والعرض والألفاظ، وفي أوقات عدّة وأماكن كثيرة، ومدّة أقلّها سنوات عدّة، ثمّ يتمّ تطوير تلك المعلومة مرّةً عرضاً وبنفس الكيفية المتقدّمة، وأُخرى طولاً كذلك، وبذلك يمكن التقريب بين الذهنية العامّة في المجتمع والذهنية الخاصّة في العلوم الضرورية للمجتمع، وكذلك يتمّ التخلّص من التكرار الكثير الذي يحصل في عدد غير قليل من المنابر، التكرار الذي لا يكون له فائدة إلّا التذكير أو لا فائدة منه أصلاً.

نعم، لا يفوتنا أن ننوّه بأنّ هناك معلومات كثيرة لا بدّ أن تكرّر على الأجيال حتّى تبقى ثابتة وراسخة جيلاً بعد جيل، هذا فضلاً عن الأُمور التي لا بدّ أن تكرّر من أجل ثوابها ومركزيتها ومصدريتها كفضائل أهل البيت(عليهم السلام) وسيرتهم وتاريخهم وما شاكل ذلك.

والذي نعنيه ـ من التكرار الذي لا فائدة فيه ـ هو مجموعة كبيرة من المعلومات التاريخية وبعض الوقائع المعيّنة، التي يتمّ تكرارها في السنة الواحدة عشرات، بل مئات المرّات، فتُسبّب الملل في كثير من الأحيان لدى السامعين، وقد تُسبّب ـ لا سمح الله ـ العزوف شيئاً فشيئاً عن الحضور في المجالس، وهذه الحالة ـ أعني: التكرار ـ حالة ملموسة في المنابر بشكل كبير، فلو استبدلنا حالة التكرار بحالة تعميق المعلومة أو توسيعها وفق نظام وترتيب معيّن، فنكون قد حقّقنا مجموعة من الأهداف في وقت واحد.

الثاني: صناعة منهج فكري خاصّ

خلق الله تعالى الإنسان وأعطاه العقل؛ ليفكّر ويستدلّ ويستنتج ويصل إلى المعلومة الصحيحة، حتّى يبني عقائده في ضوئها، ومن ثَمّ أعماله، فيؤسّس لرؤية كونية مستقيمة، وعلى هديها ينتخب أيديولوجية سليمة تمكّنه من الوصول إلى سعادته المنشودة.

فـ(بعد التقدّم الحاصل في مستوى الحالة الفكرية للإنسان، وفي شتّى مجالات المعرفة، وكون جميع العلوم هي نتاج التفكير الإنساني، ومن الواضح أنّ الإنسان حينما يفكّر قد يهتدي إلى نتائج صحيحة ومقبولة، أو ينتهي إلى نتائج خاطئة وغير مقبولة، فالتفكير الإنساني ـ إذن ـ معرّض بطبيعته للخطأ والصواب، ولأجل أن يكون التفكير سليماً، وتكون نتائجه صحيحة، أصبح الإنسان بحاجة إلى قواعد أساسية تهيّئ له مجال التفكير الصحيح متى سار على ضوئها، وهذا لا يتحصّل إلّا بتعلّمنا لقواعد المنطق، عندها نستطيع أن نقيّم الأفكار والنظريات العلمية، فنتبيّن أنواع الخطأ الواقع فيها، ونتعرّف على أسبابها)[20] ؛ لذلك تأسّس علم المنطق وعرّفوه بأنّه: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر)[21].

كما وتأسّست علوم أُخرى تهتمّ بالجانب الفكري على مستوى المنهج، كعلم نظرية المعرفة، ومجموعة كبيرة من مباحث علم الفلسفة، فقد قنّن العلماء عملية التفكير والأدوات التي يستند إليها العقل، والمواد التي يعتمد عليها، ورأس ماله من العلوم الفطرية واللّدنية، وقيمتها ومقدار الاعتماد عليها، وكيفية ذلك، جميع ذلك من خلال البحث والتنقيب، والتحليل والتدقيق العلمي، فتوسّعت تلك العلوم وتعمّقت، وازدادت مسائلها وتكثّرت بشكل ملحوظ، وأصبحت ـ ربّما منذُ تأسيسها ـ من العلوم المدرسية التي هي بحاجة إلى أُستاذ وتدريس وتفرّغ.

ونحن إذا أردنا أن نقيّم هذا الوضع فسوف نكون بين أمرين، أمر إيجابي، وأمر سلبي:

الأمر الإيجابي: أنّ حالة تطوّر العلوم وتعميقها وتدريسها ومدارستها من الأُمور الإيجابية، بل والضرورية لتنمية ذلك العلم وتوسعته؛ حتّى تعمّ الفائدة وتتعمّق المعرفة، فكلّما تقنّن المنهج تعمّقت المعلومات وصارت أكثر دقّة وفاعلية وثبات وفائدة، وبطبيعة الحال سوف ترافق هذا النوع من التوسعة والتعميق دقّة العبارات وصعوبة المطالب، وكثرة المصطلحات التي لا غنى لأيّ علم عنها؛ إذ إنّها تختصر الطريق في الكثير من الأوقات؛ لأنّها تعطي الكثير من المعاني بأقلّ الألفاظ.

الأمر السلبي: أنّ ما يرافق تدقيق وتوسعة وتعميق تلك العلوم من الصعوبة والدقّة وكثرة المصطلحات، يجعل تلك العلوم وتلك المناهج بحاجة إلى دراسة وحضور عند أُستاذ، وهذا ما لا يتيسّر لكثير من الناس؛ لأسباب عدّة ليس المحل محلاً لذكرها؛ من هنا نجد أنّ الكثير من الناس يعيش الفوضوية في تفكيره والعفوية والعبثية، وهذا أمر خطير جداً على المجتمع، بل هذا ما يعانيه الكثير من المجتمعات على مرّ الأزمان.

وبعبارة أُخرى: إنّ من الضروري تعميق العلوم بما يشمل علوم مناهج التفكير، حتّى يكون المجتمع مفكّراً بشكل صحيح، ووفق آلية منضبطة ومستقيمة، وهذا له لوازم، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى إنّ تلك المناهج بذلك الشكل المدرسي لا تتيسّر للكثير من الناس، من هنا لا بدّ من الحلّ.

الحلّ المقترح: منهج التفكير المنبري

ونعني به أنّه لا بدّ أن يُصاغ ويُصنع منهج ينسجم مع طبيعة المنبر الحسيني وكيفية الإلقاء معه، بحيث يتمّ إيصاله إلى المجتمع مع تهذيبه من كثير من المباحث الاصطلاحية والمدرسية، والنظريات التجاذبية بين علماء ذلك الفنّ، وينسجم مع آخر النظريات والتوصيات التي توصّلت إليها تلك العلوم في أبحاثها المدرسية، فهو من جهة يعتمد المعلومة الرصينة والثابتة والأخيرة، ومن جهة أُخرى يكون بأُسلوب واضح بيّن، بعيد عن التعقيد في العبارة والطرح، وكثرة المصطلحات. فإذا كتب هذا المنهج وتمّ إلقاؤه من على المنابر الحسينية فإنّه يمكنه أن يُحقق نتائج مهمّة ومؤثّرة جدّاً؛ لأنّه سوف يصنع ثقافة فكرية مستقيمة وسليمة، من شأنها أن تُصلح الكثير من الأفكار الخاطئة والمنحرفة وغير المناسبة، كما يمكنه أن يُقلّل الفجوة الكبيرة بين الذهنية العامّة في المجتمع وبين ما هو موجود في العلوم التخصّصية المدرسية، بل يمكنه سدّ الفجوة بين ما هو موجود في الكتب الثقافية والفكرية العامّة، وما هو موجود في ذهنية المجتمع بشكل عام.

وهذا المنهج لا بدّ أن تتكاتف على صناعته وتأليفه لجان متخصّصة في الخطابة الحسينية، ولجان متخصّصة في تلك العلوم المنهجية؛ وبذلك سوف يكون المنبر الحسيني أكبر المؤثّرين في إصلاح الفكر البشري.

إشكال وجواب

إن قلت: إنّ المنهج كيفما كان وكيفما كُتب، أي: سواء كتب بشكل واضح وبسيط أو لا، فهو بحاجة إلى دروس متسلسلة ومنظّمة ومرتّبة، وهذا يستلزم مدّة زمنية معيّنة، وطريقة حضور خاصّة، وهذا غير موجود في طريقة الحضور عند المنابر الحسينية.

قلت: لذلك قد قلت: لا بدّ أن يُصنع منهج خاصّ بالمنبر، بحيث يخلو من ذلك الإشكال، ولا دليل على هذه المقولة (المنهج كيفما كان وكيفما كُتب...)، فهذا أمر موكول إلى كتابة المنهج، فتؤخذ بنظر الاعتبار هذه الملاحظة وغيرها من الملاحظات.

لماذا المنبر؟

تبيّن من خلال ما تقدّم أنّ للمنبر الحسيني دوراً مهمّاً في الإصلاح الفكري، سواء على مستوى التأسيس والتطوّر والتكامل، أو على مستوى المضمون والطرح ونوعية المعلومة كمّاً وكيفاً، أو على مستوى المنهج الفكري المقترح، الذي لا بدّ أن يكون خاصّاً بالمنبر الحسيني، ومنسجماً تمام الانسجام مع طريقة المنبر، وعرضه العام، وثوابته وثقافته.

من هنا يُطرح سؤال مهمّ وهو: لماذا المنبر؟ وما الداعي لكلّ هذه المقترحات؟

وبعبارة أُخرى: هناك وسائل عدّة يمكن من خلالها نشر المعلومة وترويجها في أوساط المجتمع، فلماذا نأتي بأُمور خاصّة بالمنبر، ونشترط فيها مجموعة من الشرائط؟

خصوصاً في مسألة المنهج المقترح، فإنّ هناك مناهج مكتوبة ومنظّمة ومرتّبة، وقد تمّ اختبارها، وأثبتت نجاحها، فلا داعي لإنتاج مناهج جديدة خاصّة بالمنبر الحسيني، ولنترك المنبر على ما هو عليه يؤدّي دوره بشكله الحالي.

الجواب

يمكن أن نجيب عن السؤال المتقدّم بأجوبة عدّة:

منها: أنّه وإن كانت هناك قنوات عدّة لنشر المعلومة إلّا أنّ هذا لا يعني ألّا نهتمّ بالمنبر الحسيني، ولا نخصّص له أبحاثاً وطرقاً للبحث والعرض، كما أنّه من المهمّ أن نهتمّ بالقنوات الأُخرى أيضاً.

ومنها: أنّ إعداد منهج فكري خاصّ بالمنبر الحسيني يمكّنه من الإصلاح الفكري في عموم المجتمع، من الأُمور التي تعتمد بشكل أساسي على المناهج التخصصية المعدّة من قبل، فهو ليس بديلاً منها، كما أنّ تلك المناهج لا يمكنها أن تؤدّي الدور الذي يقوم به.

ومن الأجوبة المهمّة عن السؤال المتقدّم هو: أنّ المنبر الحسيني قد اختصّ بمجموعة من المقوّمات والميزات التي لا توجد في غيره، أو لا أقل أنّها لا توجد مجتمعة في غيره، هذه المؤهّلات جعلت من الضروري أن يُؤسَّس للمنبر الحسيني مجموعة من العلوم والمناهج الخاصّة به، التي من شأنها أن تؤدّي دوراً مهمّاً في الإصلاح الفكري في عموم المجتمع، ومن تلك الخصائص والميزات:

التاريخ: فإنّ المنبر الحسيني يحكي عن تاريخ طويل وعريق قُدّمت فيه مختلف التضحيات، وقد امتزج بالذاكرة الفعلية والتاريخية للمجتمع، فهو يحمل في طياته أنواعاً كثيرة من الثقافات والتطوّرات والتحدّيات.

العاطفة: إنّ المنبر الحسيني هو حاصل التضحية والفداء الذي قدّمه الإمام الحسين(عليه السلام)، فهو حاصل أعظم مظلومية وقعت في التاريخ، وأبشع انتهاكات طالت القداسة والطفولة والمرأة وكلّ ما هو جميل.

العقل: ارتبط المنبر الحسيني بالإمام الحسين(عليه السلام)، يعني: أنّه مرتبط بالإمامة، أي: بالعصمة، وبالبرهان، والعقل السليم، والاستدلال القويم.

الإصلاح: المنبر حسينيٌّ، والحسين(عليه السلام) يقول: (إنّما خرجت لطلب الإصلاح)[22].

القداسة: المنبر الحسيني هو منبر ثار الله، منبر الله، منبر القداسة وكلّ ما هو مقدّس.

إلى غير ذلك من المميزات والخصائص التي يتمتّع بها المنبر الحسيني، التي تجعل من الضروري الاهتمام به، وإعداد مناهج وطرق وأساليب خاصّة لإصلاح الفكر في هذا الصرح، وهذه المؤسّسة العريقة، مؤسّسة المنبر الحسيني التي لا يمكن لغيرها أن يمارس هذا الدور، ولا أن يؤثّر هذا التأثير[23].

شرائط الإصلاح ومقوّماته

هذا الموضوع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأبحاث السابقة، فهو المتمّم لفاعليتها، ولكنّه بحاجة إلى بحث مستقل يسلّط الضوء فيه على البحوث الآتية:

أ ـ الخطيب الناجح وشرائطه ومقوّماته.

ب ـ المعلومة: تطويرها، وتنظيمها، وأدلّتها، ومطابقتها لمقتضى الحال، وكيفية تعميقها.

ج ـ المتلقّي: نوعه، مستواه، ثقافته، مدّة تلقّيه.

الخاتمة

وفي الختام نذكّر بأهمّ النتائج التي توصّل إليها البحث أو التي أوصى بها:

قد تبيّن من خلال ما تقدّم أنّ المنبر الحسيني له تأثير كبير في الساحة الاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والسياسية، وغيرها؛ لذلك كان له أعداء كُثر، وواجه تحدّيات عدّة ومظلوميات كثيرة.

إنّ من أهمّ تلك الأدوار التي اضطلع بها المنبر الحسيني وكان مؤثّراً فيها بشكل ملحوظ، هو دوره في الإصلاح الفكري، وقد بيّنا أنّ الإصلاح الذي قدّمه المنبر الحسيني للفكر ـ تارةً ـ تمّ من خلال نشوء المنبر الحسيني وتطوّره وتكامله، والمراحل التي مرّ بها، وأُخرى من خلال مضمونه، وما ألقاه ويُلقيه على المجتمع باختلاف أطيافه وأنواعه، وذلك في نقاط كثيرة تطرّقنا إلى بعضها.

ثمّ قدّمنا مقترحين كتوصية مهمّة لأصحاب الشأن لتطوير دور المنبر في المستقبل على مستوى الإصلاح الفكري، وهما:

الأول: تطوير المعلومة من خلال تعميق وتوسعة المعلومة المنبرية.

الثاني: ضرورة صناعة منهج فكري منبري؛ للخصوصيات التي تقدّم ذكرها لهذه الوسيلة الإعلامية المهمّة.

المصادر والمراجع

الأمالي، محمد بن علي الصدوق، تحقيق ونشر: مؤسّسة البعثة، طهران‎ ‎ـ‎ ‎إيران، الطبعة الأُولى، 1417‎هـ.‎

بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي،‎ ‎تحقيق: محمد باقر البهبودي، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان،‎ ‎الطبعة الثانية المصحّحة، 1983‎م. ‎

بين المنبر والنهضة الحسينية، مرتضى مطهري، دار الإرشاد، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى،‏ 2009‎م.‎

تجاربي مع المنبر، أحمد الوائلي، دار الزهراء، بيروت ـ لبنان.‏

ثواب الأعمال، محمد بن علي الصدوق، منشورات الرضي،‎ ‎قم‎ ‎ـ‎ ‎إيران، الطبعة الثانية، 1368‎هـ‎ ‎ش.‎

ثورة الحسين في الوجدان الشعبي، محمد مهدي شمس الدين، الدار الإسلامية، الطبعة الأُولى.‏

دراسات في علم الأُصول (تقرير بحث السيّد الخوئي)، علي الهاشمي الشاهرودي، دائرة المعارف على طبق مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، الطبعة ‏الأُولى، 1998‎م.‏‎ ‎

دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية، محمد باقر المقدسي، دار الكتاب العربي، بيروت‎ ‎ـ‎ ‎لبنان، الطبعة الأُولى، 2011‎م.‎

زبدة الأُصول، محمد صادق الحسيني الروحاني، مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، الطبعة الأُولى، 1412‎هـ. ‎

عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، محمد بن علي الصدوق، مؤسّسة الأعلمي،‎ ‎بيروت ـ لبنان، 1984‎م.‎

كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه القمّي، تحقيق:‎‏ جواد القيّومي، نشر الفقاهة، قم‎ ‎ـ‎ ‎إيران، الطبعة الأُولى، 1417‎هـ.‎

معجم الخطباء، داخل السيّد حسن، دار الصفوة، بيروت ـ لبنان،‎ ‎الطبعة الأُولى، 1997‎م.‎

المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل، فيصل الخالدي الكاظمي، دار ومكتبة الهلال، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 2004‎م.‏

المنبر رافد المجتمع وقلبه النابض، أحمد عطاء‎ ‎إسماعيل، دار المحجّة البيضاء،بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 2013‎م.‎

المنطق، محمد رضا المظفر، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم‎ ‎ـ‎ ‎إيران.‏

ميزان الفكر، فلاح العابدي، سعد البخاتي، أكاديمية الحكمة العقلية، الطبعة الأُولى.‏

هكذا عرفتهم، جعفر الخليلي، المكتبة الحيدرية، الطبعة الأُولى، 1384‎هـ.‎

.https://www.alukah.net/culture

الشيخ رافد التميمي

 

[1] الكاظمي، فيصل، المنبر الحسيني.. نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل: ص202.

[2] المقدسي، محمد باقر، دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية: ص32 ـ35.

[3]  اُنظر: الخليلي، جعفر، هكذا عرفتهم: ج1، ص108. حسن، داخل، معجم الخطباء: ج1، ص80. المقدسي، محمد باقر، دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية: ص21.

[4] الشاهرودي، علي، دراسات في علم الأُصول: ج1، ص124. واُنظر أيضاً: الروحاني، محمد صادق، زبدة الأُصول: ج1، ص141.

[5] المظفّر، محمد رضا، المنطق: ج1، ص24.

[6] العابدي، فلاح، والبخاتي، سعد، ميزان الفكر: ص15ـ16

[7] للمزيد من التفاصيل ينظر . شبكة المعلومات الدولية ، www.alukah.net/culture

[8] للمزيد من التفاصيل ينظر . شبكة المعلومات الدولية، https://annabaa.org/arabic/

[9] اُنظر: الكاظمي، فيصل، المنبر الحسيني.. نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل: ص40ـ80.

 

[10] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص326.

[11] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص131. الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا(عليه السلام): ج1، ص264.

[12] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص208. واُنظر: الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص83.

[13] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص539.

[14]  شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين في الوجدان الشعبي: ص203.

[15] المقدسي، محمد باقر، دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية: ص33.

[16] الكاظمي، فيصل، المنبر الحسيني.. نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل: ص210.

[17] لسنا بصدد بيان تاريخ تلك المراحل ولا خصوصياتها، ولا النصوص الدينية أو التاريخية التي تدلّ عليها؛ إذ ليس غرضنا ذلك، ولسنا نذهب إلى أنّ هذه المراحل كانت مرتّبة في جميع الأماكن التي تواجد ويتواجد فيها المنبر، بل ربّما لا توجد المرحلة الأخيرة في أماكن كثيرة، كما أنّه يمكن أن تكتمل المراحل في منطقة دون أُخرى، فهذا يرجع إلى نوعية الخطيب وكفاءته، وأنّ هناك كُتباً أُخرى اهتمّت بتلك الجوانب، وحدّدت بعض التواريخ، وقرّبت أُخرى، واحتملت بعض الاحتمالات، وذكرت الشواهد عليها، ككتاب ثورة الحسين في الوجدان الشعبي للشيخ شمس الدين، الذي أصّل لهذا الموضوع، وقد استفاد منه أكثر مَن جاء بعده، ممّن بحثوا هذه المسائل وجمعوا الشواهد والقرائن على ذلك. اُنظر ـ على سبيل المثال ـ: دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية للمقدسي، والمنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل للكاظمي، والمنبر رافد المجتمع وقلبه النابض لأحمد عطا، وبين المنبر والنهضة الحسينية لمطهري، وغيرها.

[18] ونعني بالمنبر هنا: هو المنبر الناجح والصحيح والواقعي، سواء كان المنبر الفعلي أو ما ينبغي أن يكون عليه، لا المنابر المزيّفة والمحرّفة والناقصة؛ إذ يمكن تقسيم المنبر إلى قسمين: منبر صحيح وواقعي ومطلوب، قائم على الأُسس السليمة، ومنبر مغلوط زائف، قائم على أُسس باطلة، وهذا النوع الثاني له عدّة أسباب، فهو إمّا تابع لبعض الحركات الدينية المنحرفة التي تجعل منه آلة هدّامة مشوّشة ومحرّفة بيد أعداء لهم غايات، ويتّبعون أجندات خاصّة، وإمّا أنّ مَن ارتاده ليس من أهل العلم، وإنّما تلبّس بلباسهم، وما أكثرهم. وإمّا أنّ مَن صعد الأعواد ممّن لم تكتمل مراحل تعليمه.

[19] نعم هناك مجموعة كبيرة من المسائل المرتبطة بالتوحيد وبعض العقائد، يمكن الاستناد فيها إلى الأدلّة القرآنية والروائية، وفق آليات معيّنة وشروط محدّدة، بحسب درجة الاطمئنان المطلوبة، وبما لا يلزم منه الدور أو التسلسل.

[20] العابدي، فلاح، والبخاتي، سعد، ميزان الفكر: ص9.

[21] المظفر، محمد رضا، المنطق: ص8.

[22] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[23] قد أشارت مجموعة من الكتب إلى موضوع خصائص المنبر الحسيني، منها: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي للشيخ شمس الدين، دور المنبر الحسيني في التوعية الإسلامية للمقدسي، المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل للكاظمي، المنبر رافد المجتمع وقلبه النابض لأحمد عطا، بين المنبر والنهضة الحسينية لمطهري، تجاربي مع المنبر الحسيني للشيخ الوائلي، وغيرها من المصادر.

المرفقات