ثورة الشهيد زيد بن علي.. الاسباب والنتائج

إن الخوض في غمار أحداث التاريخ مسألة صعبة وشائكة بسبب كثرة الأحداث والآراء والدوافع والأغراض لرواة هذه الأحداث، مما يجعل البعض يتوجس خيفة وحذراً من إبداء رأيه فيها، وتجاوزاً لهذا التخبط أصبح لزاماً على الباحث التاريخي أن يكون دقيقاً في التحري عن الرواية الصحيحة واعتمادها ، ومن أهم الضوابط المعتمدة لترجيح رواية على أخرى هي معرفة رجال السند وتقييم المؤرخين لهم من حيث الأمانة والدقة في النقل، إضافة إلى معرفة ميول الراوي وتوجهاته وقربه إلى الحدث، أو معرفة الأشخاص الذين يروي عنهم .

وسوف نتناول شخصية طالما اشتهرت بمعرفتها لعلوم الفقه والتفسير، إلا وهي شخصية زيد بن علي بن ابي طالب (عليهما السلام) ، نتناوله كالموتور الثائر الذي واجه المخطط الأموي المنحرف في الحياة الاسلامية، والظروف الصعبة التي تعيشها الأمة وعايش حوادثها بعد مذبحة كربلاء .

ولد الشهيد زيد بن علي في ظل الدولة الاموية، حكم وراثي عضوض، وجاهلي برداء اسلامي، يتسم بالقوة السياسية، ويمنع الناس من أن يبدوا آراءهم في الحكام الا ما يوافق هواهم، وكان يتجه الى تقديس كل ما يفعله الولاة والحكام، حتى كانوا يعبرون عن أنفسهم بانهم  ظل الله في الارض وان تلك الكلمة التي صاح بها عبد الملك بن مروان في مكة المكرمة " من قال لي اتق الله قطعت عنقه"[1] .

مع ذلك فقد بنوا لهم دولة كبرى، ومدوا الفتوح الى اقاليم جديدة، ولكن على حساب العدل الاسلامي الذي يشير له الله تعالى في كتابة الكريم ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾، وقد تصاعدوا بالظلم الاجتماعي حتى عم وطم، واصبح القاعدة ، وغدا العدل هو الاستثناء النادر، لذلك قامت ضدهم ثورات لم تتوقف، وكانوا يمارسون العنف الوحشي ضد الثورات، الأمر الذي استنفر الفقهاء والزهاد فانخرطوا في هذه الثورات .       

وقد بلغوا قمت العنف في قمعهم الثورات التي تزعمها آل بيت النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله)، وشيعتهم، فقد صنعوا مذبحة كربلاء  التي جسدها الاستشهاد المأساوي للإمام الحسين (عليه السلام) وقمعوا ثورة التوابين التي قادها في الكوفة سليمان بن صرد الخزاعي[2] ، فضلا عن ثورة عظيم الأزد الحارث بن سريح سنة 116هجري. لكن هذه القمع الذي مارسه الأمويون ضد خصومهم لم ينجح في كف العزائم والقلوب عن ان تفكر في الثورة طريقا للتغير.

وتبين الروايات التاريخية ان عهد هشام بن عبد الملك هو من اكثر العهود التي برزت فيها الاضطهاد حيث شاع الارهاب والتصفية الجسدية لكل القوى المعارضة للحكم الاموي، فضلا عن اقصاء التيارات الفكرية ونفيهم الى جزيرة دهلك القاحلة النائية الحارة  والتي تقع في مدخل البحر الاحمر، حيث كانت مضرباً للأمثال في البعد، بالإضافة الى المضايقة الاقتصادية واسلوب التجويع، وخصوصا في البلاد التي تحب علياً وأهل بيته.  

ومن خلال متابعة حياة زيد بن علي بن ابي طالب (عليهما السلام) والحوادث التي عايشها والظروف التي أحاطت به، تكشف لنا بجلاء انه لم يكن يمتلك مستلزمات الفوز المادي في معركته مع سلطة الجور الاموي، ولكنه مع علمه بالموت كان مصرا على تفجير الثورة ومواصلتها حتى النهاية .

 اذن لماذا هذا الاصرار؟ ولماذا الثورة؟

مما لا شك فيه، ان اهداف الرجال العظام هي عظيمة في التاريخ، وتزداد رفعة وسموا حين تنبعث من عمق رسالة سامية، وعندما نقف امام حفيد الامام الحسين بن علي (عليه السلام) الذي يمثل رجل عظيم في عصرة  وهو يحمل سمو الأخلاق التي هي امتداد لأخلاق جده النبي الاعظم محمد(صلى الله عليه واله)، لقد تفانى زيد بن علي في الله ومن اجل دينه، فكانت اهدافه التي تمثل رضى الله وطاعته، كما انها كانت واسعة وعديدة. ويمكننا ان نذكر بعض اهداف زيد بن علي من ثورته كما يلي :

تجسيد الموقف الشرعي تجاه الحاكم الظالم

تشير المصادر التاريخية ان الامة قد اصابها  حالة من الركود حتى انها لم تعد تتحرك لاتخاذ موقف عملي واقعي تجاه الحاكم الظالم، فالجميع يعرف من هو هشام بن عبد الملك بن مروان وبماذا يتصف من رذائل الاخلاق، فتحرك زيد بن علي ليجسد الموقف الرسالي الرافض للظلم والفساد، في حركه قوية واضحة مقرونة بالتضحية والفداء من اجل العقيدة الاسلامية، وقد لخص زيد بن علي اسباب خروجه في كلماته الى وجهها يومئذ الى اصحابه :" اني ادعوكم الى كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين... واحياء السنن واماتة البدع..."

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد كان غياب فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجة طبيعية لتولي الزعامة المنحرفة، وقد حدث هذا تحت عناوين متعددة منها على سبيل المثال لا الحصر لزوم طاعة الوالي، وحرمة شق وحدة الكلمة، فزيد بن علي باعتباره حفيد الامام الحسين (عليه السلام) الثائر على دولة الظلم والطغيان، فكان يرى ان وفاءه بالتزاماته نحو شريعة الله تعالى كان يفرض سلوك منهج الثورة  ولا سبيل سواه، لأنه يدون الثورة ولا يرتجى اي اصلاح.   

أيقاظ الضمائر واحياء العمل بكتاب الله

وقد ابتليت الامة الاسلامية في عهد زيد بن علي بن ابي طالب بعد تسليط هشام بن عبد الملك بحالة من الجمود والقسوة وعدم التحسس للأخطار التي تحيط بها، اضافة لفقدان الارادة في مواجهة التحديات ضد العقيدة الاسلامية ، لهذا لم يكتف زيد بن علي  بتثبيت الموقف الشرعي وتوضيحه علميا من خلال موقفه الجهادي بل سعى الى ايقاظ ضمائر الناس وتحريك وجدانهم ليقوموا بالمسؤولية، فسلك سبيل البذل والعطاء والتضحية من اجل العقيدة والدين واحياء العمل بكتاب الله ، وانهاء دور الباطل والبدع والقضاء على التمييز بين الامة الاسلامية وتحقيق المساواة بين جميع الناس، وتوفير العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

تشويه القيم الاسلامية ومحو ذكر اهل البيت (عليهم السلام)

اجتهد الحكم الاموي ان يغير الصورة الصحيحة للرسالة الاسلامية والتركيب الاجتماعي للمجتمع المسلم، فقد عمد المروانيون الى اشاعة الفرقة  بين المسلمين والتمييز بين العرب وغيرهم وبث روح التناحر القبلي، والعمل على تقريب قبيلة دون اخرى من البلاط وفق المصالح الاموية في الحكم .

ولما كان لأهل البيت (عليهم السلام) الاثر الكبير في تجذير العقيدة الاسلامية ورعاية هموم الرسالة الاسلامية، فقد عمد المروانيون ومنذ تفرد مروان بن الحكم بالحكم بأسلوب مبرمج الى محو ذكر اهل البيت (عليهم السلام) .

ولذلك تجمع المصادر التاريخية ان زيد بن علي سلك في البداية طرق سلمية للتغير، منها النصح المباشر للحاكم وللولاة ، حيث كان زيد يعي المسؤولية وعياً تاماً ولأجل ذلك قال :" فوالله لو علمت ان رضا الله عزوجل عني في ان اقدح نارا بيدي حتى اذا اضطرمت رميت بنفسي فيها لفعلت، ولكن ما اعلم شيئا ارضى لله عزوجل عني من جهاد بني امية" [3].

ثم لجأ زيد الى دعوة الناس للتصدي للظلم ومحاربة الجور، وفضح الاعمال التي يقوم بها الولاة المخالفة لما جاء به الاسلام، وباشر دعوة من يثق بهم الى الثورة فدخل المسجد النبوي فقال لهم :" يا قوم أأنتم اضعف من اهل الحرة" قالوا :لا. فقال :" وانا اشهد ان يزيد ليس شرا من هشام فما لكم"،  وذلك لا يمكن له ان يتغاضى اكثر من ذلك عما يشاهده من ظلم يقترف واعمال بعيده عن الاسلام يجاهر بها [4] .

واعلن زيد ثورته على النظام الاموي حتى احصى ديوانه خمسة عشر الف رجل من اهل الكوفة، ولم يفي من هؤلاء الخمسة عشر الفاً الا نحو سبع مائة رجلا، فقد استطاع بنو امية شق صف الثورة من خلال شراء الكثير منهم، الا ان ذلك لم يغير من موقف زيد بن علي بل قال:" فوالله لو لم يكن الا انا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى افنى"[5]

تقدم زيد بن علي الى المعركة مع قلة أنصاره، وكثرة اعدائه الذين يأتيهم المدد باستمرار ، حيث قاتل زيد بقوته الضئيلة في موازين العدد و رجحت كفة زيد في بداية القتال وقد هُزم جيش الامويين في اول اصطدام له مع زيد بن علي، الا ان داود بن سليمان انهى المعركة بمصرع الحق اثر اصابتهِ بسهم في جبينه فارق الدنيا وفاضت روحه الزكية واخمدت تلك الانوار التي اضاءت في سماء الشرق لتنير العقول وتهذب النفوس وتقيم منار العدالة وتقضي على الظلم والطغيان، فكفن في ثيابه وحُمل في جوف الليل حتى دفن  في السبحة.   

اتضح من خلال الدراسة ان زيد لم يخرج طالبا لسلطة معينة بقدر ما انه خرج لطلب الاصلاح وتطبيق مبدا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وثاراً لدم جده الامام الحسين. 

وكما ان ثورة زيد انتهت الى تلك النهاية المؤلمة، ولكنها دفعت، بالتأكيد بالحكم الاموي الى طريق الهاوية، فانه لم يمضِ على استشهاد  زيد سوى بضع سنين حتى انهار العهد الاموي من اساسه على جميع من فيه، ولم تسلم امية من القتل الجماعي والابادة ونبش وحرق قبور موتاها الطغاة.

وكما انهت ثورة الامام الحسين الفرع السفياني من بني امية، انهت ثورة زيد الحكم للفرع الثاني والاخير من بني امية ( حكم بني مروان بن الحكم )، وهاتان الثورتان ستبقيان على مر الزمن بمثابة الطليعة والقدوة والهداية لمواكب الجهاد .

جعفر رمضان

 

[1] علي بن محمد ابن الاثير، كامل في التاريخ،(بيروت: دار الكاتب العربي، )ج3، ص535.

  [2]احمد بن علي الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا،(بيروت: دار الكتب العلمية، 1417هـ)، ج1، ص216؛ سعيد أيوب، معالم الفتن نظرات في حركة الإسلام وتاريخ المسلمين، (قم: مطبعة سيهر،  1416 هـ)، ج2، ص325.

[3] يحيى بن الحسين الهاروني، تيسير المطالب في امالي ابي طالب، (صنعاء: مؤسسه الامام زيد بن علي) ، ص166

[4] حسين محمد تقي الحكيم، تفسير الشهيد الامام زيد بن علي ،(بيروت: الدار العالمية للطباعة والنشر،1995)، ص18

[5] يحيى بن الحسين الهاروني ، مصدر السابق، ص165.

المرفقات