عروج الروح..

تكوين فني آخر وصف فيه الفنان حادثة مأساوية ذات بعد انساني عميق، تثير الحزن والمشاركة الوجدانية في نفوس المشاهدين.. وهي لحظة التفاف جيش يزيد حول جسد الحسين بن علي عليهما السلام بعد استشهاده وحزّ رأسه الشريف ظهيرة يوم عاشوراء.. وهم يحيطون به من كل جانب ويتلقى طعن السيوف والرماح وحوافر الخيل تهشم اضلاعه المقدسات.

تجسد اللوحة اعلاه مشهداً واقعياً وجدانيا مؤثرا من معركة الطف الخالدة في ارض كربلاء، وقد نُفذت بريشة الفنان التشكيلي حسن روح الامين ونحى في تشكيلها منحاً واقعياً، ويتضح ذلك من الشكل العام للوحة ومعالم الوجوه التي اكتنزت عظم تلك المأساة، وقد تم معالجة فكرة اللوحة من قبل الفنان بأسلوب اقرب للواقعية من خلال مساحتها الممتدة افقياً وفضاءاتها التي مثلت بمجمل عناصرها واشكالها توثيقا فنياً يترك طابعا انفعاليا حسيا لكل مشاهد متأمل لتفاصيل اللوحة وعناصرها، حيث جعل الفنان السطح التصويري مشغول بأجمعه بكتل لونية افقية الامتداد قوامها اشكال بشرية و اخرى حيوانية، وهي مترابطة في مشهد معبر من واقعة ألطف ولحظة التفاف الباطل حول الحق في محاولة للنيل من الحسين عليه السلام و دين جده المصطفى صلوات الله عليه وآله، واتى الفنان بأشكال اللوحة وعناصرها موزعة بعملية تنظيمية احتفظت بأماكنها وزمانها لتطابق السرد الروائي لحقائق ألواقعة.. فقد سعى روح الامين لتمثيل شكلي درامي للأحداث وفق بناء جمالي خاص حاول من خلاله أن يُلم بمجمل أحداث الطف المبتغى توثيقها وعرضها وفقاً لمرجعيتها التاريخية المدونة والمروية.. مع الاعتماد على المنهجين الواقعي والتعبيري في طرح فكرة اللوحة واتخاذ المضمون أساسا لبناء أشكاله التي اظهر من خلالها جماليات العمل الاستثنائية، والتي يمكن لمسها من قبل المشاهد بتتبع آلية الإنشاء المكاني والزماني في اللوحة والعلاقات الترابطية فيما بينهما.

اخرج حسن روح الامين الموضوع اخراجا دينيا مرتبطا بالسماء، حيث انعطف على واقع معركة الطف المرير في محاولة عودة مقصودة للتطرق الى الحقائق التي تتميز بها اغلب لوحاته الحسينية والمتمثلة بالارتباط المرئي بين الارض والسماء.. كونها هي الحقيقة بعينها، حيث اعتمد الفنان على مخيلته الواسعة وسعة اطلاعه على تفاصيل يوم عاشوراء في تنفيذ وتركيب اجزاء اللوحة الواقعية الاسلوب، من خلال استشعاره لأدق احداثها الاليمة والتأثر والاحساس بها، فضلا عن الدقة المتناهية في رسم الرمال والاجساد من فوقها وتصوير بعض ملامح اشخاص اللوحة وتفاصيل الخيول وغيرها من العناصر التكوينية، ليقترب بها من واقعية اجواء معركة الطف الدامية ويكشف عن  مركب متجانس من هويته الولائية العقائدية النابعة من ذاته المسنودة بثقافة ثـَرَة تراكمت بها الخبرات وتجلت بموضوعية طرحه لأفكاره على سطح اللوحة، فقد أستطاع أن يؤسس لنقطة ارتكاز رئيسة في اللوحة بدت مشعة من منطقة الوسط لمراكز ثانوية اخرى منتشرة في اللوحة.. تعيد باتحادها المركز الرئيسي مع الثانوي – فكرة اللوحة الممثلة لمقتل الحسين عليه السلام - عبر اختيار نقطة مضيئة من وسط اللوحة أزاحت الكتل المزدحمة من حولها لتعطي للمتلقي إيحاءاً روحياً بالاستقرار والسكون واثارة الاحاسيس الوجدانية والعاطفية تعبيرا عن المقدس - الامام الحسين وسط اللوحة المتمثل بشعاع الضوء المرتفع الى السماء -، فقد منح الرسام الضوء معنى ومفهوما خاصا في لوحته فجعله كقطعة جميلة من النور تتناغم بجمالية خاصة مع السماء والوان اللوحة الاخرى رغم الاسى الذي نستشعره من مجريات الحادث الجلل المصور في اللوحة، مبينا من خلاله بعض ملامح القتلة الطغاة التي مُيزت وكأنها وجوه للشياطين المرتسمة بالذعر والخوف من ذلك النور الالهي الوهاج محاولين بلا جدوى اطفاءه ولم ولن يفلحوا.

دمج الفنان الخط باللون في تكوين الأشكال بهيئتها النهائية المميزة على سطح اللوحة ووفق بزرع الاحساس لدى المتأمل بصخبها وزحمة التلاحم فيها من خلال تجاور شخوصها وبعدها المنظوري والبؤري، اضافة الى ملمس شخوصها وأدواتها عبر استخدامه للألوان لجعلها تبدو مميزة كخطوط منحنية باتجاهات الطول والعرض وشمال ويمين المشهد التصويري، ليشغل فيها اكبر مساحة من اللوحة بغية تحقيق التنظيم والتغير في حركات.. متبعاً التساوي في الكتل حسب موقعها وتلازمها ليعطي إيقاعا صاخبا يمثل مضمون مشهد المعركة ، معززاً ذلك بالتبادل اللوني بين الغامق والفاتح المظلم والمضيء لينتج المركز البصري وسط اللوحة شكلياً.. والذي يختصر فكرة المشهد لو عُزل عن باقي اشكال اللوحة والمتمثل بجسد ابي عبد الله الحسين عليه السلام والنور المنبثق منه الى السماء.

ومن المميز في هذا التكوين الفني أن المشهد برمته يلتف تدريجياً داخل اللوحة لتشكل أحد أركانه – اقصى يسار اللوحة _ بداية لحلقة دائرية تكتمل فيها الأحداث في الوسط.. حيث تنتقل أنظار المتلقين بانسيابية عبر الأحداث بتخفيف حدة تكثيف الأشكال والكتل المتعمدة من قبل الرسام، لإظهار طابع السكونية والإيقاع الحزين بتوسيع فضاء اللوحة والمساحة المكانية وإفراغها من بعض العناصر عبر تقليلها تدريجياً، ومن جانب آخر أشغل الرسام مساحة كبيرة من اللوحة بعناصر مختلفة ليحقق فيها التنظيم والتغيير في حركات الشخصيات .. معززاً ذلك باستخدام تقنية التساوي في الكتل وتلازمها وتكرارها، إضافة إلى التبادل اللوني والمهارة بتحديد مواطن استخدامه بين الغامق والفاتح، مع ملاحظة إظهار الوحدة الشكلية في الوجوه والافعال والوحدة اللونية في الأزياء، لتبدو اشكال اللوحة وعناصرها قد تطابقت في بنيانها دينياً وعقائدياً مع مرويات الطف مع تضخيم بعض الشخصيات في العمل دلالة عن الظلم والقسوة عند البعض والبطولة والاباء عند الآخر.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات