حِداد الافق..

مضى الامام الحسين بن علي عليهما السلام بطريق أنارته إشراقة اليقين بلقاء المولى جل وعلا، متجها الى الكوفة في سبعين نفر من أصحابه المخلصين واهل بيته الاطهار، حتى حل بأرض كربلاء ليكون اللعين ابن زياد متهيأ لقتاله بجيش كبير.. وما لبثت ان وقعت معركة الطف الدامية التي لم يشهد التاريخ معركة مماثلة، استشهد فيها كل الرجال من انصار ابي عبد الله الحسين.. بل تعدى ذلك إلى قتل الأطفال والصبية وسبي النسوة من آل بيت النبوة وحرق خيامهن واصبحن اسيرات في موكب حط رحله في قصر الغدر في الشام، لتكون  أبشع جريمة وظليمة عرفتها الانسانية.. فطرت قلوب العارفين واعتصرت مهجهم حزنا على المقتول بكربلاء.. ولتكون بداية النهاية واللعنة الابدية لجبروت يزيد واتباعه ومن ظلم حق محمد وآل محمد الى يوم الدين.

اللوحة اعلاه تجسد بانوراما ملحمية لواقعة الطف ويبدوانها رسمت في العصر الحديث على يد احد الفنانين الايرانيين، الذي افلح بلا شك في توصيف مشاهدها السردية المترابط، حيث نفذت بأسلوب مزيج من فني المينياتور والقهوة خانة الشعبي المعروف في بلاد فارس وبعض من دول شرق اسيا.

التكوين الفني جاء بكل وقائع معركة الطف القبلية والبعدية في لوحة واحدة وعلى شكل حلقات متصلة الاحداث تاريخيا و مبعثرة مكانيا على سطح اللوحة.. وهي تصور  احداث عاشوراء ومعركة الطف الخالدة وما مرّ به الامام الحسين عليه السلام وعياله واصحابه وصولا لاستشهاده وقطع راسه الشريف الذي نقل الى الشام محمولا ورؤوس الشهداء على اسنة الرماح ، وهي ذات مشاهد مترابطة في وحدة موضوعية لها بداية ونهاية وتنقسم الى ثلاث أفضية اساسية وبشكل عمودي مقسمة الى الوسط واليمين واليسار وبتسع مشاهد مترابطة فيما بينها، قد شغلت جميع السطح التصويري وتشكلت وفقاً لمنظور اللوحة العام المبني على أساس النظر إليها من الأعلى بمشهد فوقي خارج حدود اللوحة أي ما يعرف بمنظور( عين الطائر).

المتأمل للوحة يلاحظ ان كل عمود تصويري قد حمل عنوان لمشاهد تالية بعده، تفصح علاماته عن أهداف ومبادئ أفرزتها واقعة ألطف، وعن طريق العمود التصويري الوسط والذي شكل بنيانه التكويني مركز البصر الرئيسي في العمل، وقد تم ربط الأعمدة الأخرى بواسطة إشعاعات الفراغ المنبعثة من وسط اللوحة، ليكون الناتج بالتالي رواية تشكيلية تحكي واقعة ألطف بمجملها.. وابتداء من المشهد الاول  الذي نستدل على عنوانه عن طريق ما أرسله التكوين من علامات معروفة الدلالة جمعيا بفضل تداولية الواقعة التاريخي والحكائي المستمر وضع الرسام الشعبي الشخصية المحورية في العمل وسط فراغ جمعه مع مخلوقات لا ترى بالبصر والبصيرة ألا من قبله، تعبيراً عن القدسية وتطابقاً للواقع فحملت الأشكال مضمونها وتشكلت بناء عليه.

احتل المشهد الثاني في اللوحة نقطة تقاطع أقطار اللوحة ليشكل مركز البصر الثاني فيها وليكون عنصر الشد الذي يجمع كل مكونات العمل من خلاله، فالرسام يحاول أن ينقل المرويات التي تتحدث عن إصرار ابي عبد الله الحسين عليه السلام للتصدي لأعدائه وأعداء الرسالة الإسلامية استجابة للأمر ألتكليفي بصحبة أهل بيته وأصحابه.. على الرغم من قلة عددهم وكثرة الجيوش المقابلة لهم والتي أظهرها الرسام من خلال تشابك الخطوط وبقع الألوان الغامقة التي عبرت عن مضمون شكلها معنوياً وأظهرت من خلالها عنصر السيادة في المشهد فنيا من خلال التبادل اللوني بين غامق وفاتح.

اما المشهد الثالث فهو مشهد نهائي ببناء فكري يتصل بالمشهد الاول من خلال حضور نفس العلامة وكتلة الأرض الدائرية الغامقة لإظهار ما عليها بالتبادل، فضلاً عن الكائن الملائكي بدلالة شكله المجنح الممسك بجسد مملوء بالسهام والطعنات بدلالة الخطوط المستقيمة على هيئة الجسد وبقع الدماء غامقة اللون على كتلة اللون الأبيض المشكلة لزيه، مما افرد للشكل المقدس مكانا معزولاً عما يجاوره من مدنسات الاعداء التي أشار إليها الرسام من خلال شكلين إنسانيين حاملين لمضمونهما من خلال سوداوية ألوا نهما وما يحملان من الاسلحة التي احيلت فيما بعد إلى أيقون ثابت للتعبير عنهما والمتمثلة بالخنجر والرمح الحامل للرأس، واما ما يلاحظ في المشهد الرابع وخطوطه العمودية المنتصبة على الأرض والتبادل اللوني بين غامق وفاتح وأشكال الرايات.. فهي تبيان  لكثافة الجيش المتواجد بالمعركة وعن طريق الشخص المتهيئ للرماية بدلالة حركته واتجاهه تقام العلاقة بالمشهد الاول ويبرر وضع المحور الرئيسي فيه بموقعين مختلفين بنفس المشهد.

عمد الرسام في المشهد الخامس على نقل كتلته في المشهد الرابع ألا أنه قد جمع فيها أكثر من اتجاه وبوضعية متعاكسة ليعطي إيحاء بالمعركة وذلك عن طريق لون الكتلة الغامق، حيث أظهر محور المشهد بكتلة فاتحة وهو يتصدى للجيش، ومن خلال تكرار نفس الشخصية بملامح وجهها الخالي من ملامح اللحى لبيان صغر السن وتوسمه بالهالة الممثلة لعلامة القدسية، وباتجاه وحركة مغاير للأولى حاول الرسام تبيان أن المقصود هو علي الأكبر تطابقا للروايات الواردة عن الواقعة.

اما فيما يخص المشهد السادس والسابع والثامن فقد عمد الفنان الى بناء الاشكال فيه واخراجها بواقعية مفصلة، ويعزى ذلك لمحاولة الفنان الجاهدة الجهيدة  لمطابقة روايته التشكيلية مع ما تناولته الكتب وتناقلته الألسن التي تحدثت عن تفاصيل الواقعة.. فابتدأ بتصوير مكان ليقيم فيه النخيل والماء ويضع في محيطه وفيه جيوش كثيرة تُميز من كثافة خوذ الرؤوس والرماح وأشكال الخيول ليهيئ المشهد لمحوره الرئيس الذي لا تكتمل صورته إلا بتلك العلامات، مضيفاً لها تشبيه للمولى ابي الفضل العباس مصوراً ذلك بالقربة والراية في اليد وعلامة التقديس، لتنسحب عين المشاهد منها الى بعض التكوينات المثلثة الشكل والتي توحي لأشكال الخيام وبعض الدلالات المرافقة للمخيم المتمثلة  بشكل نسائي يشير من خلاله الى شخص السيدة زينب الكبرى عليها السلام والآخر المتمثل بالأمام الحسين الذي يمثل محور الاشكال جميعها وهو يحتضن ولده الجريح بدلالة حركة الشكل، والثالث يمثل شكل شخص مضطجع على فراش المرض في إشارة إلى الامام زين العابدين عليه السلام .

اما فيما يخص المشهد التاسع والعاشر والاخير من مشاهد هذه البانوراما الملحمية المعبرة فهما يمثلان نهاية الواقعة وما آلت اليه نهاية يوم عاشوراء ، حيث وضعا في وسط واسفل وسط يمن للوحة بالنسبة للمشاهد.. ويمثلان ما تناقلته الأحاديث والروايات بحضور مقام امير المؤمنين عليه السلام والاسد وايضاً حضور السيدة الزهراء سلام الله عليها يوم الطف ويلاحظ ذلك من خلال تضمين الرسام لعلامات تشير إلى المكان والزمان من خلال أزياء الشخصيات وأرضية المشهد البعيدة عن جو الواقعة.

ان الكتل اللونية والمشاهد في العمود الأيمن والتي تقابل مشاهد العمود الأيسر.. شكلت نقيضا فكريا لها عند التدقيق عند اشكال خط المنتصف الزاخر بمشاهده الثلاثة والذي شكل حداً فاصلاً ما بين المقدس والمدنس الخير والشر وعبر العلامات التي تفصح عنهما، وبذلك يظهر الرسام عن تكوين منظم حمل التقابل والتناظر والتكرار لينتج بالتالي واقعة فنية تحاكي الواقعة التاريخية الخالدة ومروياتها المتناقلة عبر الاجيال.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات