بعد أن دبّ الضعف والوهن في كيان الدولة العباسية، قامت دولة أخرى نشرت ألويتها على جميع الممالك والدويلات الإسلامية، ألا وهي (دولة الأدب)، فقد جرّ الفساد الإداري والترف والمجون الذي رافق الخلافة العباسية منذ تأسيسها إلى اندلاع الفتن والحروب والانتفاضات، فكان أن انشقت عنها دول عديدة منها الدولة الإدريسية على يد العلويين في المغرب، والدولة الصفّارية في فارس, ثم السامانية التي أزاحتها عن تخومها واستولت على فارس وما وراء النهر, وظهرت الدولة الزيارية في جرجان, والحمدانية في حلب, والفاطمية في مصر, ثم كانت الغزنوية والسبكتكينية والخلفية في سجستان, ولعل أهم هذه الدول هي البويهية التي حلّت محل الخلافة في بغداد فقد ضمّت العراق إلى نفوذها فضلاً عن فارس وبسطت سلطانها على قصر الخلافة.
ولكن هذا الاخفاق السياسي كان يقابله انتصار في الدين واللغة والأدب لم يشهد له التاريخ مثيلاً في تاريخ الأمم بفضل القرآن الكريم وآداب الإسلام الحنيف, فقد كان ذلك العصر الذي نستطيع أن نسميه (زبدة العصور الأدبية)، هو عصر العلم والأدب والشعر والتأليف والتصنيف، فكانت هذه الدول تتنافس في تزيين مجالسها ودواوينها بالعقول والنوابغ والعبقريات من العلماء والأدباء والشعراء.
الفتى الهمذاني
قدم على الصاحب بن عباد الذي كان يعد أحد أبرز أعلام الأدب والعلم في زمانه، فتىً في الثانية عشرة من عمره من مدينة همذان وهي من الأسماء القديمة لمدينة همدان الحالية التي تقع وسط إيران وعلى سفوح جبال (زاغروس), وكان هذا الفتى يدعى أحمد بن الحسين ويكنى بـ (أبي الفضل) وكان قد تلقى بعض العلوم في مدينته على يد ابن فارس وكان لواء الكتابة في ذلك الوقت بيد ابن العميد يرفرف على حواضر المدن الإسلامية حتى قيل: (بُدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) ولكن صاحب هذه المقولة لو أدرك نبوغ هذا الفتى الهمذاني الذي عرف بـ (بديع الزمان ومعجزة همذان) لوضع اسمه مكان اسم ابن العميد.
فقد انضوى إنشاء ابن العميد داخل أسوار القصور وأناقتها، وخبت جذوته بتقوّضها، أما الهمذاني فقد تجاوز سلطان إبداعه الأدبي لسان العرب وتغلغل في الفارسية والسريانية والعبرية, وحاول الكثير منهم أن يقلّدوه ويكتبوا على غرار آثاره في تلك اللغات كما كتب, وبقيت ناره متأججة في مقاماته ورسائله وشعره ومن يقرأ هذه الآثار يحسب أنها قد كتبت بالأمس.
ولعل القول الذي يختصر وصفه ــ والذي يفصّل الثوب على القد ــ كما قيل, ما قاله أحد معاصريه فيه حيث قال ما نصه: (قريحة وقادة، وبصيرة نفاذة، وذخيرة من الأدب فيّضة، ألهمت صاحبها بآثار روائع فنسب إلى فلتات الزمان وبدائع الدهر).
مع الصاحب بن عباد
في يوم 13 جمادى الآخرة من سنة (358هـ) كانت همذان على موعد مع ولادة معجزتها, فقد ولد فيها طفل اسمه أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن يسر الهمذاني وكُني بـ (أبي الفضل) وهذا الوليد هو الذي سيرفع اسم همذان عالياً وتذاع باسمه شهرتها أكثر من شهرتها بالجبل الذي عرفت به فغلب اسمه قمته الشامخة، ولو أنصف التاريخ لتقصّى أخبار هذا الوليد منذ طفولته.
لم يكن لمعلمه الأول أبي الحسين أحمد بن فارس أي أثر على تكوينه الابداعي لذا غادر بلده ليبحث عن العلم أينما حلّ فقد شغف بالعلم وطلبه فكان لا يشبع منه فترك الهمذاني بلدته متوجّهاً نحو الصاحب بن عباد الذي وجد فيه ضالته المنشودة وغايته المقصودة فقد كان الصاحب يزجي الصفوف من المبدعين والموهوبين والنابغين ويحضنهم ويرعاهم ويعنى بتعليمهم وصقل مواهبهم، وكان جلّ ما يبغي الفتى الهمذاني هو الانضواء تحت هذه الرعاية الكريمة فأتيح له من الصاحب ما أراد، فلزم دار كتبه فطبع على غرار تلك المدرسة وتأثر بأساليبها, ونهل من مواردها، وكان بدوره قد وهب ذاكرة قوية وحافظة نادرة وذهن فريد لا يفلت منه ما يعلق به فصار مدار حديث معاصريه وذهولهم ودهشتهم حتى قيل عنه:
(إنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها مناولها إلى آخرها لا يخرم منها حرفاً وينظر في أربع أو خمس أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره, نظرة واحدة ثم يمليها عن ظهر قلبه وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جراً إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه)
أدب العقيدة
استفاد الهمذاني من علوم الصاحب وابن العميد مدة إقامته معهما وتفتّقت مواهبه وبرع في كتاباته ويدلنا هو على ذلك بقوله عن نفسه: (قدمت على الصاحب ولي اثنتا عشرة سنة فبينا أنا عنده في دار الكتب إذ دخل أبو الحسن الحميري الشاعر وكان شيخاً مبجّلاً, فقالوا له: إن هذا الصبي لشاعر، يعنوني بذلك). ولا يخفى إن إطلاق صفة شاعر على فتى بهذا السن وفي ذلك الوقت يعني أنه قد استكمل مبادئ العلوم والآداب.
ويظهر من شعره تأثره بمدرسة الصاحب خاصة أنه ينتمي إلى مذهبها كما يتضح من مناظرته مع أبي بكر الخوارزمي قوة عقيدته في تشيّعه وولائه لأهل البيت (عليهم السلام) بقوله:
(أيها السيد: أنا إذا سار غيري في التشيّع برجلين طرت بجناحين, وإذا مَتَّ سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة توسّلت بغرة لائحة, فإن كنت أبلغت غير الواجب فلا يحملنك على ترك الواجب, ثم إن لي في آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البر والبحر, وركبت الأفواه ووردت المياه, وسارت في البلاد ولم تسر بزاد, وطارت في الآفاق ولم تسر على ساق, ولكني أتسوق بها لديكم ولا أتنفق بها عليكم, وللآخرة قلتها لا للحاضرة, وللدين ادّخرتها لا للدنيا).
فقال له الخوارزمي: أنشدني بعضها فأنشده القصيدة التي أولها:
يا لمَّةً ضربَ الزمانُ *** على معرَّسِها خيانه
قالوا فيه
جاء في ترجمته في كتاب أمل الآمل للحر العاملي ما نصه: (أما في المذهب، فاضل جليل، حافظ أديب منشئ، له المقامات العجيبة وله ديوان شعر وكان عجيب البديهة والحفظ، كان شاعراً وكاتباً ولغوياً) وجاءت مثل هذه الترجمة في يتيمة الدهر للثعالبي وتذكرة الخواص لابن الجوزي
وقال عنه الشيخ المحقق عباس القمي في الكنى والألقاب: (أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى الهمداني الشاعر المشهور فاضل جليل إمامي أديب منشئ له المقامات وهو مبدعها ونسج الحريري على منواله وزاد في زخرفتها وطبعت المقامات مكرراً وطبع بعضها مع ترجمتها باللغة الانكليزية في مدارس ، وكان بديع الزمان معجزة همدان ومن أعاجيب الزمان، يحكى أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتاً فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم منها حرفاً، وينظر في أربع أو خمس أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة ثم يمليها عن ظهر قلبه، وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيات العربية فيجمع فيها بين الابداع والاسراع، ومن كلماته البديعة:
الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه, وإذا سكن متنه تحرك نتنه, وكذلك الضيف يسمج لقاؤه إذا طال ثواؤه. .
وقال عنه الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني في روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات: أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمداني الحافظ المعروف ببديع الزمان كان من أجلاء شعراء الامامية وكتابهم صاحب المقالات الرائقة والمقامات الفائقة، وعلى منواله مسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره واعترف في خطبته بفضله وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج وعبّر عنه هنالك ببديع الزمان وعلامة همدان وقد صحب الصاحب الكبير إسماعيل بن عباد الوزير إلى أن صار من خواصه وندمائه، وله ديوان شعر مشهور
وقال عنه جرجي زيدان في آداب اللغة العربية: وكان سريع الخاطر قوي البديهة يقترح عليه نظم القصيدة أو إنشاء الرسالة فيفرغ منها في الوقت والساعة وربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدأ بآخر سطر منه وهلم جر الى الأول وله من المؤلفات، رسائل مجموعة في كتاب يعرف برسائل بديع الزمان طبعت في الآستانة سنة 1298 هـ وفي بيروت سنة 1890 م وديوان شعر منه نسخة خطية في مكتبة باريس وقد طبع بمصر سنة 1321 هـ ومقامات تعرف باسمه وهي أقدم كتاب وصل إلينا في هذا الفن عن فنون اللغة
قال طابع ديوانه محمد شكري المكي: هو الأستاذ فخر همدان بديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني المتوفي سنة 398 وقد أربى على 40 سنة.
شعره
دل شعره على صدق ولائه لأهل البيت ومن ذلك ما رواه الحر العاملي في أمل الآمل من أبيات في مدح أبي جعفر محمد بن موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حيث يقول:
يا عقدَ منتظـــــــمِ النبوِّة *** بيتَ مختـــلفِ الملائكْ
يا ابنَ الفواطم والعواتك *** والترائــــــك والارائك
انا حائـــــــكٌ إن لم أكن *** عبداً لعبدِكَ وابن حائك
وقد عقب الشيخ الطريحي في مجمع البحرين عند ذكره هذه الأبيات في معنى حائك التي ذكرها الهمذاني بقوله :(ذكر حائك عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وأنه ملعون. فقال (عليه السلام): إنما ذلك الذي يحوك الكذب على الله ورسوله).
ومن شعره في أهل البيت قوله من قصيدة بحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع):
يقولونَ لي لا تحــبُّ الوصيَّ *** فقلتُ الثـــــــرى بفمِ الكاذبِ
أحبُّ النبـــــــــيَّ وأهلَ النبيَّ *** واختصّ آلَ أبي طــــــــالبِ
فإن كان رفضاً ولاءَ الوصيّ *** فلا يبرحُ الرفضُ من جانبي
فلله أنتم وبهتـــــــــــــــــانكم *** وللهِ من عجــــــــــبٍ عاجبِ
ألا تنظرون لرشـــــــدٍ معي *** ألا تهتــــــــــدونَ إلى اللهِ بي
وشعره في أهل البيت كثير يقول عنه الاستاذ محمد شكري المكي :(وله ديوان شعر هو (ديوان الأدب)، يحق أن تفخر به العجم على العرب يزري بعقود الجمان وقلائد العقيان)
كما ذكر له السيد محسن الامين في أعيان الشيعة (ج8 ص331) قصيدة في رثاء الحسين (عليه السلام) يقول فيها:
يا لُمّةً ضـربَ الـزمانُ على مـعـــــرسِّــها خيامَـه
لله درّكِ مـن خـــزامى روضـــــة عـادتْ ثغـامَـه
لرزيّةٍ قـامـت بـــــها للديـــــــنِ أشراط القـيـامَــه
لمضرّجٍ بـدمِ النبـوُّةِ ضـــــــــــاربٌ بــيدِ الإمامـه
متقسّمٌ بظـبا السيـــــــــوفِ مجرَّعٌ منـها حــمامَـه
مُنِعَ الـورودُ ومـاؤه منـــــه على طـرفِ الثــمامه
نصبَ ابنُ هندٍ رأسَـه فوق الورى نصبَ الـعلامه
ومقـبّلٌ كـان النـبـــــــــــيُّ بلثـمِهِ يـشفي غـرامَــه
قرعَ ابنُ هندٍ بالقضيــبِ عـــــذابَه فرطَ استضامه
وشدا بنغمتهِ عــليــهِ وصـــــــبَّ بالفضلاتِ جامَه
والدينُ أبلجُ سـاطـعٌ والـعـــــــدلً ذو خـالٍ وشـامه
يا ويحَ من ولّى الكتـابَ قـــــــــــفاهُ والدنيا أمــامَه
ليضرِّسَنّ يـدَ الـنـــــــــدامةِ حيـن لا تُـغني الندامه
وليُدرِكنّ على الـغرامــــــةِ سوءَ عاقـبةِ الغـرامـه
وحمىً أباحَ بنو أميــة عن طــــــــــوائلِـهم حرامه
حتى اشتفوا من يومِ بدرٍ واستـــــــبدوا بـالزعامـه
لعنوا أمير المـؤمنيـــــــــــــن بمثلِ إعلانِ الإقامه
لِم لا تخرّي يـا سمــــــــــاءُ ولم تصبّي يـا غمامه
لم لا تزولـي يا جبـــــــــــالُ ولم تشولـي يا نعامه
يا لعنة صـارت على أعـنــــــاقِهم طـوق الحمامه
إن العمـامـة لم تكنْ للئيـــــــــم ما تــحـت العمامه
من سبطِ هنـدٍ وابنها دون الـبتــــــــولِ ولا كرامه
يا عين جودي للبقيــــــــــــعِ وزرّعي بدمٍ رغامه
جودي بمذخورِ الدموعِ وأرســــــــلي بدداً نظامه
جودي بمشهدِ كربلاء فوفّــــــــــــري منّي ذِمامه
جودي بمكنونِ الدموعِ أجد بما جــــــادَ ابن مامه
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق