المقرنصات.. شوق إلى عالم الروح

رتب المعمار المسلم اغلب اعماله الفنية الابداعية على المساحات المسطحة من العمائر الاسلامية وقد شملت انواع الزخارف والنقوش بنوعيها النباتي والهندسي وبعض العناصر الانشائية الاخرى كالزخارف الكتابية والمقرنصات بأشكالها الرائعة التي شغلت سقوف الحنيات والمداخل والمحاريب وغيرها من مفاصل العمائر الاسلامية..

والمقرنص كما هو معلوم عنصر إنشائي وزخرفي يصنع عادة من الأحجار التي تنحت وتجمع في أشكال ذات نتوءات بارزة ومتدلية، تؤلف باجتماعها حليات معمارية تتكون من صواعد و هوابط تشبه خلايا النحل تتدلى في طبقات مصفوفة بعضها فوق بعض في أماكن مختلفة من العمائر الإسلامية مثل أركان القباب وشرفات المآذن والنوافذ والعقود والأعمدة والزوايا والمداخل وغير ذلك من الاجزاء التي تكون مطواعة لقبول هذا العنصر المعماري .

شُكلت المقرنصات على شكل صفوف يتألف كل منها في تكرار مقرنص واحد عدة مرات، بحيث يكون شكله مختلفاً عن الأشكال الأخرى في باقي الصفوف ، الأمر الذي خلق تواصلاً تدريجياً ينتج عنه تتابعاً ترتيبياً.. مما جعلها تتجلى دائماً أمام الناظر في مجموعات مكثفة ومتزاحمة تشبه خلايا النحل ، وتقوم هذه المجموعات علاوة على وظيفتها الإنشائية والزخرفية بوظيفة دينية ترتبط في غالب الظن بفلسفة الظاهر والباطن.

ادخل الفنان المقرنص جنباً غلى جنب مع الزخارف الاسلامية باعتبار أن تكوينه ينسجم مع التكوينات الزخرفية او انه من جنسها.. فضلاً عن وظيفته المعمارية من كونه يسهم في تأسيس قاعدة يرتكز عليها السقف المقوس أو القبة، وهو بهذا يكون قد ساهم مع الجدران في امتصاص ثقل القبة ، أو القوس ، أو السقف ، وبالنتيجة يكون الفنان المسلم قد حقق معادلة يجتمع فيها الجميل والمفيد فكان من خلال هذا الوصف خير مطبق لقوله تعالى الذي يجمع بين الزينة والوظيفة كما جاء في قوله تعالى: )) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ))، فالزينة جاءت هنا غير مجردة عن الفائدة ، بل جاءت تحمل خاصيتين الأولى جمالية والثانية هي رجم الشياطين، والفنان المزخرف لم يستبعد هذه الخاصية من مقرنصاته الزخرفية.. و يتضح ذلك من خلال التأمل والإحالة، فإن الذي يتأمل الاشكال المقرنصة فانه حتماً يحال إلى الخطابين الإلهي والديني.. فيحصل لديه نوع من المرابطة مع هذين الخطابين اللذين من شأنها تقريب العبد من المعبود من خلال المعرفة، فالمشاهد المتذوق هنا مأخوذ من نفسه بدهشة الجمال وجلال الجمال الذي اشاعه المكان فهي تشير إلى دلالة معروفة مجهولة ، ومنزهة مشبهة في الوقت نفسه.. ويعزى سبب ذلك كون الحق تعالى منزه عن المثال إذ لا يوجد وجود مماثل لوجوده ولا تجل مثل تجليه ولا ظاهر مثل ظاهره، ولا يوجد باطن مثل باطنه فهو الأول والآخر وهو كما هو عليه دائم الوجود والتجلي.

إن هذا الوعي الذي يرتبط بالحقيقة الإلهية لم يكن جديداً في ضمير الفنان.. بل هو قديماً قدم أول وجود إنساني والمذاهب والديانات القديمة قد صرحت بهذه الحقائق.. فالطاوية*في الصين مثلاً كانت تعتقد أن من المحال تعريف ( طاو ) وإن الكلمات والعبارات في الزمن الحاضر لا يمكنها الإحاطة بالقديم الأزلي ( طاو ) لأنه مخفي وراء أسرار إلهية أزلية ومع ذلك ( فالطاو ) له وجود في جميع الموجودات الكونية ، وهو دائماً يظهر بصورة محيرة ، وقاطعة ومهمة ولكنه أصيل وثابت ، فهو خفي لكنه محيط بجميع الموجودات ، والذين يريدون مشاهدته لا يستطيعون ، لذلك يقولون إنه موجود غير موجود فهو يسمعهم ولكنه غير مسموع.

إن المقرنصات بوصفها خطاب زخرفي تشكيلي لفنان مسلم لابد له أن يحيل إلى إشارات تعبر عن اقتراحات الفنان من جهة وتحيل الذائق إلى حقائق مكتشفة من جهة أخرى، فالمقرنصات وجود حسي غير مدرك ، أي بمعنى اخر إن العقل ليس بمقدوره قراءة هذا النص، لكنه يستطيع من خلال التفكير والتأمل واستدعاء الخطابين الإلهي والديني أن يزاوج بين الإشارة والخزين المعرفي الكامن فيه ومن خلالها يستطيع فك بعض الرموز والإشارات، فعلى سبيل المثال إن المقرنصات وإن كان لها دور مهم في العمارة باعتبارها تأسيس لقوس ، أو قبة إلا أن زخرفتها وتزيينها لا بد أن يكون له وظيفة أخرى سواء كانت هذه الوظيفة جرت بهدي العقل ، أو جرت بهدي الروح ، أو ما يطلق عليه ( اللاوعي ) ، ولما كان الفنان المعمار المزخرف متبني لعقيدة الإسلام وإن المكان الذي يشرف عليه بالبناء والزخرفة له مواصفات من كونه مكان دراسة دينية إلى جانب كونه مكان للعبادة أيضا فإن شعوره بكل ما يمتلكه من تمكينات لابد له أن يأخذ بالحسبان طبيعة المكان ووظيفته وما يؤول غليه أمر المكان في النهاية ، وهذه الأمور جميعها مضافاً غليها رهافة الحس لابد أن يتناسل عنها إبداع يحمل جميع هذه الخصائص .

إذن المقرنصات هي محاولة ذكية للفنان من خلالها إستدراج المتلقي عقلياً وحسياً بإتجاه السمو ، وإن هذا الاستدراج لا يخلو من جلال الجمال لوهلته الأولى عند المتأمل ، لكنه سرعان ما ينقلب إلى جمال بعد أن تهدأ النفس ، وتستحضر ما لديها من تمكينات معرفية تسعفها في فك الشفرات المحمولة على الاشكال فينشأ فيها شعور بالإتحاد ، أو التماهي في الجو الإنشائي ، والزخرفي الذي أبدعه الفنان المسلم ، فيخلق هذا التماهي ، أو الإتحاد حنين وشوق إلى عالم الروح ، ولذلك عندما يغادر المكان يداهمه شعور بالحزن إزاء مواجهته للمكان الجديد الذي خلت معالمه من الوجود الروحي.. فالمعمار والفنان المزخرف تواجدا في المقرنصات ليقولا إن الوسائل متاحة بشكل مشروع من اجل الحصول على رغيف الخبز وسد الحاجات المادية غير إن هناك حاجات روحية ومعرفية لابد لنا أن نسعى للوصول اليها نبحث عن الوسائل المؤدية لها.

*الطاوية: هي تقليد ديني أو فلسفي ذو أصل صيني، وهي تؤكد على العيش في وئام مع الطاو، والطاو هو فكرة أساسية في معظم المدارس الفلسفية الصينية ، ومعناها المبدأ الذي هو مصدر ونمط ومضمون كل شيء موجود في الحياة.

اعداد سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات