إتسم عصر الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الاديان والمذاهب الاسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم فيما يخص البحوث الكلامية وخاصة فيما يتعلق بأصول الدين، وكان صراعاً مشفوعاً بالأدلة العقلية والمنطقية التي اقامها المتكلمون على ما يذهبون اليه ، وعندما تولى الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولاية العهد، اوعز المأمون العباسي الى ولاته في جميع انحاء العالم الاسلامي بإحضار كبار العلماء المتمرسين في مختلف انواع العلوم بالحضور الى العاصمة مرو ليسألوا الامام (عليه السلام) عن اعقد المسائل العلمية ولما حضروا وعدهم بالثراء الكثير اذا سألوا الامام (عليه السلام) سؤالاً يعجز عن الاجابة عليه[1].
وتشير الروايات التاريخية، ان الحسن بن محمد النوفلي وهو من اصحاب الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) لقد اعرب عن مخاوفه من هؤلاء الذين يحاججهم لانهم لايريدون الوصول الى الحقيقة والتعرف عن الحق، ولكن يعتمدون المغالطات للوصول الى اهدافهم، الا ان الامام (عليه السلام) ازال ما في نفس النوفلي من المخاوف قائلاً له: " اتخاف ان يقطعوا عليّ حجتي؟ ...، قال النوفلي: لا والله ما خفت عليك قط ، واني لا ارجو ان يظفرك الله بهم، ان شاء الله ... وانبرى الامام (عليه السلام) قائلاً: "يانوفلي ، اتحب ان تعلم متى يندم المأمون؟ ... ، قال: نعم ، قال : اذا سمع احتجاجي على اهل التوراة بتوراتهم وعلى اهل الانجيل بإنجيلهم ، وعلى الزبور بزبورهم وعلى الصائبين بعبرانيتهم ، وعلى اهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى اهل الروم بروميتهم ، وعلى اهل المقالات بلغاتهم ، فاذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ، ورجع الى قولي ، علم المأمون ان الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة! ولأحول ولاقوه الا بالله العلي العظيم" [2]
ويمكن ان نبين نموذج من الاسئلة لأصحاب المقالات من اهل الطوائف والاديان الاخرى ، ومن المتكلمين الذين حضروا في مجلس المأمون ، ليسمع الامام علي بن موسى الرضا كلامهم ويسمعوا كلامه، منهم على سبيل المثال لا الحصر مناظراته واحتجاجه على الهربذ الاكبر.
ومن المهم ان نشير هنا الى، ان الهربذ الاكبر هو المرجع الاعلى للمجوس وكان حاضراً في المجلس ، فالتفت اليه (عليه السلام) قائلاً: "اخبرني عن زرادشت الذي تزعم انه نبي ما حجتك على نبوته؟ قال الهربذ: انه اتى بما لم يأتنا به احد قبله ، ولم نشهده ولكن الاخبار من اسلافنا وردت علينا بأنه احل لنا ما لم يحله غيره فاتبعناه ، قال الامام (عليه السلام): افليس انما اتتكم الاخبار فاتبعتموه؟ قال: بلى ، وراح الامام (عليه السلام) يقيم عليه الحجة قائلاً: فكذلك سائر الامم السالفة اتتهم الاخبار بما اتى به النبيون واتى به موسى وعيسى (عليهم السلام) ومحمد (صلى الله عليه واله) فما عذركم في ترك الاقرار لهم؟ اذ كنتم انما اقررتم بزرادشت من قبل الاخبار الواردة جاء بما لم يجيء به غيره ، فانقطع الهربذ عن الكلام ، فقال الامام الرضا (عليه السلام): ياقوم ان كان فيكم احد يخالف الاسلام واراد ان يسأل فليسأل غير محتشم" [3].
وفي ضوء ذلك، قام رجل من الزنادقة فقال له أبو الحسن: " أرأيت إن كان القول قولكم ، وليس هو كما تقولون ، ألسنا وإيّاكم شرع سواء ، ولا يضرّنا ما صلّينا وزكّينا وأقررنا ؟ " فسكت ، فقال الامام (عليه السلام): " وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا ؟" .
في هذا الجزء من الرواية يناقش الامام (عليه السلام) اول شبهة لمن ينكر وجود الله تعالى، حيث يسال السائل الامام (عليه السلام) ويقول بما معناه: ان كانت دعوتكم الى الله تعالى خاطئة وخالية من الصحة فنحن متساوون في كل شيء أي لا ثواب ولا عقاب بعد الموت لان الاحكام الشرعية تصبح عبث، فأجابه الامام (عليه السلام) قائلاً :"وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا " بعبارة اكثر صراحة ووضوحاً، لو افترضنا ان الدعوة لله كانت صحيحة وواقعية فماذا تصنع ، فهل حكمت عقلك؟. فقال: " رحمك الله فأوجدني كيف هو ؟ وأين هو ؟" ولقد أجاب الإمام بقوله:" ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكيفوفيّة ، ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء" قال الرجل : "فإذن انّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس "! فقال الامام (عليه السلام): "ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء" فقال الرجل : "فأخبرني متى كان ؟!" فقال الامام (عليه السلام) : " أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان"
بتعبير أدق، يجيب الامام (عليه السلام) بجواب نقضي للسائل، فان من العقيدة الاسلامية ان الله تعالى سرمدي أي لا بداية ولا نهاية له، كما في قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) " كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم " فان الجواب واضح على ما ابتنت عليه العقيدة الاسلامية، اما الجواب لمن يحمل اساسا فكريا مخالفا للعقيدة الاسلامية فالجواب مستحيل منطقيا، كون السائل يريد ان يرى بداية لوجود الخالق بما تشتهيه نفسه، فاستطاع الامام (عليه السلام) من خلال الاحاطة بالفكر المخالف للإسلام ان يبين للسائل ان الخلل في السؤال المبني على الاساسات الخاطئة.
وكان امراً طبيعياً أن الرجل لم يقتنع، وأنه استغرب من ذلك فقال :" فما الدليل عليه ؟" فقال الامام (عليه السلام) : " إنّي لما نظرت إلى جسدي فلم يمكنني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه، علمت أن لهذا البنيان بانياً ، فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت أن لهذا مقدّراً ومنشأً" . ومما له مغزاه في هذه الرواية نستنتج منها ان الامام (عليه السلام) بين لنا اهم الادلة في اثبات وجود الخالق "عزوجل" ويطلق عليه في المصطلح العقائدي بـ"برهان النظم" ويعتبر هذا الدليل من الادلة العقلية.
وفي السياق ذاته، قال الرجل : "فلم احتجب ؟" فقال (عليه السلام) : " إنّ الحجاب على الخلق ، لكثرة ذنوبهم ، فأمّا هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ". قال :" فلم لا تدركه حاسة الأبصار ؟" قال (عليه السلام) : " للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل" . قال : "فحده لي ؟" قال(عليه السلام) : " لا حدّ له " ، قال : "ولم ؟"، فقال : " لأن كلّ محدود متناه إلى حدّ ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهَّم .. " [4]
بتعبير ادق ان صفة الحد لله هي صفة مخالفة للكمال الالهي، فيبين الامام (عليه السلام) علل مخالفة حد الخالق تعالى كانت الاولى الا وهي "احتمال الزيادة" ، اي ان قلنا في احتمالية الزيادة فهذا يدل على عدم كمال الخالق تعالى فالزيادة له اكمل . اما الثانية " احتمال النقصان" والخالق كامل لا نقص فيه اذن تبطل الاحتمالية. فالنتيجة ان الله تعالى غير محدود ولا متجزء
مما تقدم يبدو واضحاً، ان الرواية الشريفة تنتهي الى هذا الحد من النقاش مع القضية الالحادية، ويتبين لنا من خلالها ان الفكر الالحادي هو فكر قديم وكان يسمى سابقا بـ "الزندقة" كما تقدم، وتتشابه الشبهات لمعتنقين هذا الفكر تاريخيا الا ان الاختلاف وقع في المصطلحات لا المعاني لأصل الشبهات، وكان دور الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بارزا في الرد على تلك الشبهات والتصدي للانحرافات بأنواعها الدينية والفكرية والفلسفية.
وفي ضوء ما تقدم نستنتج ان المأمون اراد باتخاذه هذه المناورة السياسية احراج الامام علي بن موسى (عليه السلام) ليزعزع ثقة العامة لاسيما الشيعة واشعارهم بأن ما يعتقدونه بعلم الائمة بمختلف الامور ما هو الا وهم بدليل عدم قدرة امامهم اذا ما تعذر عليه الاجابة لاحد الاسئلة في مناظرة اصحاب الديانات والمذاهب الاخرى .
قيس العامري
[1] ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ، اثبات الوصية ، ط2، (قم: مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر، 2003م)، ص211؛ ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، عيون اخبار الرضا، تقديـم: مهـدي الخرسـان، (النجف: المطبعـة الحيدريـة ، 1970م)ج2، ص229
[2] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، المصدر السابق ، ج1،ص 127-128؛ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، الاحتجاج، تعليق: محمد باقر الخرسان ، (بيروت: مؤسسة النعمان ، بلا) ، ج2،ص 200-201.
[3] ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، المصدر السابق، ج2، ص212؛ محمد باقر المجلسي ، بحار الانوار (طهران: المكتبة الاسلام،1965م) ، ج49، ص176.
[4] ابي جعفر محمد بن علي القمي الصدوق ، المصدر السابق، ج ۱ ، ص ۱۲۰ .
اترك تعليق