قناديل الطف السّنِية إضاءات في مسار تحمل المسؤولية

الأستاذة الدكتورة عهود عبد الواحد العكيلي

تحمُّل  الأسماء المبرَّزَة معاني ودلالات تصاحبها عند ذكرها  ؛ لتكون ماثلة أمام الأعين سواء في ذلك مَنْ نَطَقَ بها ومَنْ  سَمِعَهَا ، لتختصر مسافات التاريخ وهذا ما كان مع السيدة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام التي هي قطب الرحى الثاني في القضية الحسينية فلقد أصبحت عنوانا لكل معنى سامٍ ،  ودلالة على ارتقائه واستمراره ، فهي الإيمانُ المتجذِّرُ ، والشجاعةُ والتصبُّرُ والبلاغةُ والتبحُّرُ و المسؤوليةُ التي أبهرتنا بتحمُّلها ولم تقصِّر ، فهي بحق الأنموذج الحي المتبصِّر ، من لا ينسخهُ التحضُّرُ ولا يمحوهُ التطورُ ، فمن منا يمرُّ بمعشارِ ما مرَّت به السيدةُ زينب عليها السلام ولم تطشْ سهامُ صبرهِ ؟ ويفقد السيطرة على زمام أمرهِ ؟ فيتلعثم لسانُهُ ويهربُ منه بيانُهُ !! وهو يفقد أهله جميعا وحماته وأمانَهُ ؟ ما سرُّ اختلاف هذه المرأة عنًّا ؟ ألأنها سليلةُ البيت النبويِّ العلويِّ الطاهرِ الصابرِ ؟ أم لأنها وعت المسؤوليةَ الملقاةَ على عاتقها التي أوجبها عليها إيمانُها بربـِّها الكريم الذي لن يتخلى عنها وعن القضية التي اضطلع بها أخوها وإمام زمانها الإمام الحسين عليه السلام فكان ممَّا هيأه الله لها إتمام المهمة واستمرارها واطلاع الناس على خفاياها وأسرارها ، وبيان أبعاد النهضة الحسينية وشاء الله أنْ تكون سببا في استمرارها من خلال التغلب على سيطرة المشاعر الإنسانية والعواطف البشرية والانطلاق من جذوة تلك المشاعر لمرحلة أكبر وأعمق هي مرحلة إثبات الوجود وتحمُّل  المسؤولية .

ومَنْ مِنَّا سمع بطوعة اليوم ولم يُكْبِرْها ويقف إجلالا لها وتقديرا لموقفها الجريء .. تلك هي المرأةُ العراقيةُ الصابرةُ التي لبَّتْ نداء المرجعية الرشيدة منفِّذة فتوى الجهاد الكفائي للدفاع عن أرض العراقِ ومقدَّساتِهِ وقد خَصَّتْها الفتوى بأن تجاهد من موقعها فَتَحُثُّ زوجَها وابْنَها وأخاها على التصدي لمن اعتدى على الوطن ومقدساته ؛ ليهبوا مُسرعين مُدافعين عن أمن بلدنا الحبيب وحرماتِهِ ، وليس عبثا أني رمزت للعراقية البطلة بـ (طوعة) التي ارتبط اسمها في أذهانِ المسلمين بمساندة المرأة للأبطالِ كما فعلت السيدة طوعة رضوان الله عليها مع سفير الإمام الحسين مسلم بن عقيل عليه السلام في واقعة الطف .

 لقد وعتِ العراقيةُ الأصيلةُ المسؤوليةَ عندما اتخذت نساءَ أهلِ البيت عليهم السلام ومن اتَّبعَهُنَّ أسوةً حسنةً ؛ ففهمتْ بذلكَ معنى  تحمُّلِ  المسؤولية وقيمة العمل في الحياة الدنيا ليكونَ جسراً لها إلى الآخرة ؛ لتجنيَ ثمارَهُ وتبلغَ قرارَهُ . وكان ذلك مدعاةً لكتابة بحثي هذا الموسوم بـ (قناديل الطف السنية إضاءات في مسار تحمل المسؤولية . ) ؛ لأكشفَ به النقابَ عن بطولةِ المرأةِ العراقيةِ التي أجابتْ عن سؤالٍ طالما حيَّرَ الباحثينَ وهم يكتبون عن السيدة زينب عليها السلام مفاده : هل يمكن أن تكونَ في العصر الحالي زينبُ جديدةٌ ؟ وأنا أقولُ : إنَّ زينبَ العقيلةَ عليها السلام واحدةٌ لن تتكرر ولكنْ هناك مَنْ يمكن أنْ تسيرَ على نهجها وتقتفي خطواتِهَا فتظهرُ ثمارُ ذلك الاقتفاءِ بهيةً تنشر نورَ الإيمانِ في سماءِ أهلِهِ . وقد جعلت البحث متضمِّناً ثلاثة مباحث :

الأول :  تحمُّل  المسؤولية عند زينب الأمس ، قراءة استنطاقية لأهم مصاديقه  التأريخية .

والثاني :  تحمُّل  المسؤولية عند طوعة اليوم (المرأة العراقية المجاهدة ) ، قراءة لأهمِّ مواقفِ  النَّماذجِ المختارةِ  .

والثالث : ثمارُ تحمُّل المسؤولية بين الأمس واليوم وأثرها في إنجاح المعارك وانتصار الأبطال .

يسبقها تمهيد عنوانه : أثر الأسوة الحسنة في ارتقاء النفس البشرية وصنع الشخصيات القوية .

وتتلوها خاتمة تضمَّنت أهم نتائج البحث ، وقائمة بهوامش البحث وأخرى لمراجعه ومصادره .

لقد أردتُ من بحثيَ أن يضيءَ جوانبَ من عملِ المرأة المؤمنة الصامدة قديما وحديثا ، ويبيِّنَ أثرَها في عمارةِ الأوطانِ وارتقائِها من خلال تمسُّكِها بالإيمان الراسخ وجَعْلِهِ منهج حياة ، وما استمرارُ تلك السلسلةِ الوضَّاءةِ بتحمُّل المسؤوليةِ  إلاَّ باقتفائها أثر الأسوة الحسنة التي مَنْ تمسَّك بها نجا ومن تخَلَّف عنها هَلَك ، كما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أهلُ البيتِ عليهم السلام حجج الله على خلقه ، فإن أجدت فبتوفيق من الله تعالى وإن أخفقت فمن نفسي وحسبي المحاولة لإذاعة فضائل سيدتي ومولاتي زينب الحوراء عليها السلام ، وبيان بطولة العراقيات الأبيات، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين .

 

 

التمهيد أثر الأسوة الحسنة في ارتقاء النفس البشرية وصنع الشخصيات القوية

تتعدَّد المصطلحات  لمفهومٍ واحدٍ أحيانا ، ومنها الأسوةُ والقدوةُ ، فيقال : ((لي في فلان إِسْوَةٌ وأُسْوَةٌ، أي قدوةٌ وائتمام ))(1) ، وقال ابن منظور : ((الأُسْوَةُ والإسْوَةُ القُدْوة ويقال ائتَسِ به أي اقتدَ به وكُنْ مثله ، ــــ قال الليث ـــ فلان يَأْتَسِي بفلان أَي يرضى لنفسهِ ما رضيهِ ويَقْتَدِي بهِ وكان في مثل حالِه )) (2)

والملاحظ في وقتنا الحاضر إيراد الباحثين مصطلح القدوة أكثر من الأسوة الذي كانوا يستعملونه قديما ، فقد ورد في كتاب الله قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ معنى كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا  ) (3) .

إن للقدوة الحسنة أثرها الكبير في حياة الناس وتربية الشعور بالمسؤولية ، ولاسيما إذا كانت مؤمنة بالله تعالى وبرسله وبكتبه واليوم الآخر ذلك اليوم الذي يسود فيه العدل وتوزن فيه الأعمال وتثقلُ فيه الموازين أو تخفُّ فالإيمان به ((هو الوازع والدافع الحقيقي الذي يكمن وراء الشعور بالمسؤولية الجدية الحقَّة، وأن لاشعور بالمسؤولية حقا بدون هذا الإيمان، ولذلك لاحظنا أن ميزة التشريع الإسلامي تكمن في تقبل الناس له، بطواعية ))(4) وهذه مسؤولية المربِّين سواء أكانت العائلة أم المدرسين أم المؤسسات التربوية تعنى بتربية النشء الجديد لتعدَّهم بناةً للمجتمع يرتقون به ويعلون شأنه بين المجتمعات المتحضِّرة ((فالعمل على إعداد جيل قائد يثق بنفسه و يتحدى العقبات التي تعترض طريق أمته هدف ضروري في تربيه النشء القادم . و زرع تلك الصفة فيهم تكسبهم القدرة على الثبات و الصراع و امتلاك المؤهلات الضرورية للحفاظ علي هوية الأمة و رقيها بعيداً عن التبعية و الذوبان و الانهيار)) (5) .

وبذلك ارتبط العمل الدنيوي بالجزاء الأخروي وامتزج العلم النافع بالعمل الصالح ، فطوبى لمن عمل فأحسن وقدَّر فأتقن  وقدَّم  ما يجعله خالد الذكر بحُسْن دينه  وسُمُوِّ خلقه وجميل مواقفه في أوضح طُرُقِه ، وطوبى للمربين الذين نبَّهوا الناس على ضرورة التمسُّك بدينهم القويم وصراطه المستقيم وجميل الاقتداء بالنماذج المشرفة التي تأخذ بأيدي الأجيال إلى رقي الحياة وفهم المغزى الحقيقي لوجود الإنسان على هذه الأرض .

 

المبحث الأول  :  تحمُّل  المسؤولية عند زينب الأمس ، قراءة استنطاقية لأهم المصاديق التاريخية .

حين أقرأ في سيرة السيدة زينب عليها السلام منقِّبة في أخبارها عما يدل على  تحمُّل  المسؤولية تأخذني الحيرة : أيها اقتبس ؟ فكلها تفوحُ منها رائحة البطولة وتطرِّزُها خيوط  تحمُّل  المسؤولية ؛ وهو يحتاج كتبا وليس بحثا وهذا الأمر حيَّر كل من كتب عنها فمنهم من يقول عن حيرته : (( وجدت نفسي أصارع أمواجا متلاطمة في بحر عظمتها أخبط خبط عشواء ، كالغريق الذي يستنجد بالقشة لتخلِّصه كما وجدت نفسي أمام عدة أبواب شارعة كل واحد منها يؤدي إلى طريق مستقيم قائم بذاته فتحيَّرت من أي الشوارع أدخلُ وفي أي الأبواب ألِجُ لأنتهي إلى مقصدي ؛ لأن شعاع عظمتها يبهر العقول ويغشي الأبصار ...))(6) ،وقد انبهر بما حوته حياتها المعطاء السيد محمد كاظم القزويني في مقدمة كتابه عن السيدة زينب (7) وغيرهما ؛ لذا سأستنطق منها ما يغني وجوده عن سواه ويختصر القول عمَّا عداه فيختصر التفصيل ويُستغنَى عن الكثير بالقليل .

فمن أهم ما أستنطقته من أخبارها التي أوردتها المصادر المعتمدة والتي تُظهر ركائز مهمتها وقيامها بأدائها على أكمل وجه ما يأتي :

ـ إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل البيت عليهم السلام بما سيجري من أحداث في كربلاء وذلك مما أطلعه الله تعالى عليه ، ولا ريب فقد أطلعه على كثير من الغيبيات التي تحقَّقت ، كما أطلعَ مَنِ ارتضى من الرُّسل قبله قال تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )(8) ، وقد اتَّضحت تلك المعرفة فيما نقله ابن قولويه القُّمي رحمه الله تعالى عن الإمام زين العابدين عليه السلام واصفاً حالهم في المعركة وبعدها وطريقة محاورة عمته السيدة زينب  له :  (( لمَّا أصابنا بالطفِّ ما أصابَنَا وقُتِل أبي (عليه السلام) وقُتِل مَنْ كانَ معهُ مِنْ وِلْدِهِ وإخوتِهِ وسائرِ أهلِهِ، وحُمِلَتْ حُرَمُهُ ونساؤهُ على الأقتابِ يرادُ بنا الكوفةَ، فجعلتُ انظرُ إليهم صرعى ولم يوارَوْا، فعَظُمَ ذلك في صدري واشتدَّ لما أرى منهم قَلَقِي، فكادتْ نفسِي تَخرجُ ))(9) .

فَلَمَّا رأتِ العقيلةُ منه ذلك قالتْ  ((ما لِي أَرَاكَ تَجُوْدُ بِنَفسِك يا بقيةَ جَدِّي وأبِي وإخْوَتِي، فَقُلْتُ : وكيفَ لا أَجْزَعُ وأهلعُ وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ووِلدَ عمي وأهلي مُضَرَّجينَ بدمائهم، مُرَمَّلينَ بالعُرْيِ، مُسَلَّبينَ، لا يُكَفَّنونَ ولا يُوارونَ، ولا يَعْرُجُ عليهم أحدٌ، ولا يقرَبُهُمْ بشرٌ، كأنَّهم أهلُ بيتٍ من الدَّيْلَمِ والخَزَرِ، فقالتْ: لا يُجْزِعَنَّكَ ما تَرَى  فَوَاللهِ إنَّ ذلكَ لَعَهْدٌ منْ رسولِ اللهِ (صَلَّىْ اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ) إلى جدِّك وأبيكَ وعمِّكَ، ولقدْ أخذَ اللهُ ميثاقَ أُناسٍ مِنْ هذهِ الأمةِ لا تعرفُهُمْ فراعنةُ هذهِ الأمةِ، وهُمْ معرُوفُونَ في أهلِ السماواتِ أَنَّهُم يَجْمَعُوْنَ هَذهِ الأعْضَاءَ المُتَفَرِّقةَ ))(10)

ولقد تحدَّث عن ذلك وأشار إليه من كتب عن السيدة زينب عليها السلام يقول د. حسن الصفار: ((وأهل البيت المعنيون بتلك الواقعة كانوا في طليعة من أحاطهم الرسول بها علماً كما تؤكد ذلك مختلف المصادر الحديثية والتاريخية .فطبيعي إذاً أن تكون السيدة زينب في أجواء تلك النبوءة ، وعلى معرفة بالخطوط العامة للحادثة ، بل وببعض تفاصيلها وجزئياتها .))(11) .

 

ـ تهيئة زينب السيدة زينب عليها السلام لأداء المهمة المقدسة من أمير المؤمنين حين ربَّى أولاده على المحبة والاحترام المتبادل* والارتباط الروحي الرسالي وتمتين العلاقة بينهم وتزويج السيدة زينب عليها السلام في بيت أبيها حتى لا تفارق أخويها وتواكب الأحداث التي تمر بها العائلة ؛ مما أكد التلازم بين السيدة وأخويها السبطين عليهم السلام للتمهيد لما ستقوم به العقيلة زينب لتكون القطب الثاني الذي تدور عليه نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، وهي في أعلى درجات الشعور بالمسؤولية لتأدية المهمة الموكلة إليها (12).

ـ إصرار الإمام الحسين على مصاحبة أخته له في ذهابه إلى كربلاء ووصيته لها بمجموعة من الأمور التي تبيِّن مهمتها الجسيمة التي لابد من الاضطلاع بها ، قبل نزوله النهائي للميدان بعد استشهاد الرجال الذين كانوا معه جميعا ، فقال لها :

(( يا أختاه اتقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وان كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعيدهم، وهو فرد وحده، جدي خير مني، وأبي خير مني وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله أسوة، فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخيَّة إني أقسمت عليك فأبري قسمي، لا تشقِّي عليَّ جيبا، ولا تخمشي عليَّ وجها، ولا تدعَي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت ))(13)

 وضرورة تنفيذها بحذافيرها على الرغم من صعوبتها ؛ لأن السيطرة على مشاعر الحزن وعدم إظهاره مع مخاطبة الناس وبيان أحقية أهل البيت والمجيء بالأدلة والبراهين التي تغيِّر القناعات التي رسَّخها بنو أمية في أذهان العامة  ليس باستطاعة الإنسان التمكُّن منه . وعدم إظهار الحزن على ابنيها جعفر وعون عند استشهادهما في معركة الطف مع خالهما والاكتفاء بذكر الحسين عليه السلام والشهداء من آل محمد عليهم السلام . (14) ، ويعلل السيد محمد كاظم القزويني عدم بكائها على ولديها حتى لا تسبب الخجل والإحراج  لأخيها الإمام الحسين لأنهما قتلا بين يديه ودفاعا عنه ولسان حالهما يقول إنهما فداء لك (15) ، وأنا أرى أنها فدتهما لأخيها وللقضية الكبرى التي يحملها ويدافع عنها ، وهذه هي المشاركة الحقيقية في الدفاع عن المبادئ والتعبير العملي الأكثر إبانة عن تحمل المسؤولية التي اضطلعت بها السيدة زينب عليها السلام .   

ـ التصرُّف بحكمة واتزان والاحتفاظ بالحجاب والمحافظة على النساء والأطفال على الرغم من هجوم الأعداء على الخيام وإحراقها وعدم السماح لأحد أن يركِّب السبايا على الأقتاب بل ركَّبت النساء بعضهن بعضا على تلك النياق الهزيلة بإشراف السيدة زينب عليها السلام على الرغم من أخذهن أسيرات إلى الكوفة (16)

ـ إبداء الرضا بقضاء الله تعالى وإظهار رباطة الجأش وعدم الانكسار أمام الأعداء يظهر ذلك من حديثها مع ابن زياد عندما خاطبها متشمِّتا قائلا: (( الحمدُ لله الذي فضحكم وأكذبَ أحدوثتكم!! فقالت: إنما يُفتضَحُ الفاسق ويُكذَّبُ الفاجر، وهو غَيرُنا.فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيكِ وأهلِ بيتكِ؟ فقالت: ما رأيتُ إلاَّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتبَ اللهُ عليهم القتلَ، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمعُ اللهُ بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظرْ لمـَنْ الفَلَج يومئذ، هبلَتكَ  ـ أي ثَكِلتْكَ ـ أمُّكَ يا ابنَ مرجانة..))(17) فقد رفعت عن أهل بيتها الفضيحة والكذب ، وأبانت رضاها بقضاء الله العادل الذي سيجمع بين هذا الظالم وبين الإمام الحسين ومن معه فيقضي بينهم بالحق ،  فصغَّرت بذلك قدر الدَّعي ابن زياد أمام الناس ولاسيما أنه جَمَعَهُم ليظهرَ التشفِّي بأهلِ البيتِ عليهم السلام أمامهم فإذا بالعقيلة تظهر نتانة منبته وصغر حجمه أمام عظمة الشهداء من أهل بيت الرحمة . فإذا فكَّرنا في الوقت الذي دار فيه ذلك الحوار ومقدار الحزن الذي كانت تعيشه العقيلة عليها السلام عرفنا قوة شخصيتها وشدة شعورها بالمسؤولية ، فكل كلمة وكل تصرف لابد أن تحسبَ حسابَه فهي الآن منْ يمثلُ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا ، وهو الراسخ في الأذهان بشهادة الله تعالى في محكم القرآن (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(18) ، ويجب أن يتمثل في التصرف الحكيم الصادر ممن يمثِّلهم وهذا ما أثبتته السيدة في المواقف كلها على اختلاف الأماكن التي حلَّت بها وتعدُّد الشخصيات المعادية لها التي ناظرتها .

ـ عدم الخوف من الظالمين كالشمر بن ذي الجوشن ، وعمر ابن سعد في نهاية الواقعة وابن زياد ويزيد بعد الواقعة ، على الرغم من فقدان الناصر لها ـ سوى الله تعالى ، فلقد نقلت لنا المصادر تقريع السيدة للظالمين وعدم الخوف منهم ومخاطبتهم بما يبيِّن أصولهم الخبيثة وما حملته من عار وجنته مواقفهم ومواقف أسلافهم على الإسلام ، وفيما نَقَلتُهُ من حجاجها لابن زياد ـ المعروف ببطشه وقسوته ـ ما دلَّ على ذلك وأفصح عن شجاعة منقطعة النظير، وقبله قرَّعت شرار أهل الكوفة ، بمثل قولها : ((هل فيكم إلا الصلف ، والعجب، والشنف ، والكذب، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوا أبدا  ))(19)

 

وفي الشام أبهرت الأعداء بشجاعتها وفصاحتها وقوة حجَّتها حتى صيَّرت أفراحهم أتراحا وأماطت اللثام عن الصورة الحقيقية ليزيد فانقلب عليه الناس ورأوا ظلمه وسفاهة رأيه  من خلال خطبتها في الشام وعدم الخوف من يزيد واحتقاره فمن وردها على يزيد في الشام كما ذكرت سابقا خلال خطبتها في  قصره ، وبيان عدم أهليته للخلافة في مثل قولها (( وما استصغاري قدْرَكَ، ولا استعظامي تقريعك  توهما لانتجاع الخطاب فيك  بعد أن تركت عيون المسلمين به عبرى، وصدورهم عند ذكره حرَّى، فتلك قلوبٌ قاسيةٌ، ونفوسٌ طاغيةٌ ، وأجسامٌ محشوَّةٌ بسَخَطِ اللهِ ولعنةِ الرسولِ، قد عششَ فيه الشيطانُ، وفرَّخَ ، ....فالعجبُ كلُّ العَجَبِ لقتْلِ الأتقياءِ ، وأسباطِ الأنبياءِ ، وسليلِ الأوصياءِ ، بأيدي الطُّلقاءِ الخبيثةِ ، ونسْلِ العَهَرَةِ الفَجَرَةِ ..... فَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَاْ مغنماً لتجدَ بِنَا وشيْكَاً مَغْرَمَاً حينَ لا تجدُ إلَّا ما قدَّمتْ يَدَاكَ، وما اللهُ بظلَّام للعبيدِ فإلى اللهِ المُشْتَكَى والمُعَوَّلُ، وإليه الملجأ والمؤمَّلُ))(20)

، وقولها له أيضا : ((كِدْ كَيْدَكَ، واجهَدْ جَهْدَكَ فوَ اللهِ الذي شَرَّفَنَا بالوحيِ والكِتَابِ، والنبوَّةِ والانتِخَابِ، لا تُدْرِكُ أَمَدَنَاْ، ولا تَبْلُغُ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعن الله الظالم العادي.))(21) ، فلقد أخبرت يزيد بأنَّ ذكر أهلِ البيتِ باقٍ أبدَ الدَّهرِ مهما اجتهد أعداؤهم في محوِهِ ، بينما ستمضي أيامُهُ ويذهبُ إلى ربِّه مذموماً مدحوراً قد التصقَ به عارُ أفعالِهِ وقد تبيَّن للناس جميعا رأيه المُفَنَّدُ وجمعُهُ المُبَدَّدُ في الدنيا ، ولعنة الله تحلُّ به مع جمعِ الظالمينَ الحاقدينَ المعتدينَ في يوم الحساب يوم العدل الإلهي .

والحقَّ أقول : إنِّي لأنبهر عند قراءة خطبتها في الشام فلا يبدو لمن يقرأها أنها صادرة من امرأة غريبة أسيرة طريدة ،  مثكولة محزونة وحيدة ، قد قُتِلَ أهلُ بيتها جميعا ، وهي تعاني من التعب الشديد وإحاطتها بالعدو العتيد ، فلم تؤثر فيها صروف الأيام وقتل الأئمة الأعلام ، بل زادتها إصرارا فأظهرت قوة وعزيمة ووقارا ، قلَّ لها النظير على الرغم من الأمر العسير والعدو الخطير ، وهذا ينم عن شخصية قدَّرت المهمة الموكلة إليها ونبهت الناس إليها فهي اللبوة الجريحة التي ألحقت بالعدو الهزيمة والفضيحة ، فأثبتت أن أهل البيت كما وصفهم أحد المستمعين لخطبتها في الكوفة وقد اخضلَّت لحيته بالدموع تأثرا بها : ((بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى.))(22) .

لقد امتلكت العقيلةُ أدواتِ الإعلامي المتمكِّن الذي يحارب بكلمته المشفوعة بالقوة والعزيمة والحجة القويمة والوقفة الثابتة الكريمة ؛ مع رزانة وأدب ، وامتلاك لبلاغة الخطب ، تنجلي بها الحقائق بالأدلة الدامغة التي خبرها المستمعون ، وآمن بها المخاطبون ؛ لترفع النقاب عن التعتيم ، وتذيق أعداءها السم القاتل الأليم ، من خلال فضح ألاعيبه وإظهار صورته التي حاول إخفاءها ما استطاع إلى ذلك سبيلا وهي رسالة لنا ترسم الطريق أمام كل من سلك سبيل الحرية والكلمة الأبية ، فهو وإن امتلأ أشواكا لكنه بلسم لجراح الكرامة  وصراط لأصحاب العزة والشهامة .

ـ الدفاع عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام وإيضاح الصورة الحقيقية لذلك وإزالة التعتيم الإعلامي الذي حاول بنو أمية إيهام الناس به من خلال وصفهم آل الحسين بالخوارج وأنهم من سبي الروم ، وإيضاحها عدالة أهل البيت عليهم السلام وأحقيتهم في قيادة الأمة في خطبتها العصماء في الشام وما تبع ذلك من صحوة لضمائر الناس في الشام والمدينة المنورة والعراق . فمن ذلك مناظرتها يزيد عندما طلب رجل أحمر من يزيد أن يهب له فاطمة بنت الحسين عليه السلام التي لاذت بعمتها ، نقل الشيخ المفيد والطبرسي قولها (( : فأرعدتُ وظننتُ أنَّ ذلك جائزٌ لهم، فأخذت بثياب عمَّتي زينب وكانت تعلم أنَّ ذلك لا يكونُ، فقالت عمتي للشامي: كذبتَ والله ولَؤُمتَ، والله ما ذاك لكَ ولا لهُ، فغضبَ يزيدُ وقال: كذبتِ إنَّ ذلك لى ولو شئت أنْ أفعلَ لَفعلتُ؟ قالت: كلا واللهِ ما جعلَ اللهُ لك ذلك إلا أنْ تخرجَ من ملَّتنا وتدينَ بغيرِهَا؟ ))(23) وهنا أزاحتْ العقيلةُ ما وقرَ في العقول أنهم من الخوارج (( فاستطار يزيد غضبا وقال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، قالت: بدين الله ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما قال: كذبت يا عدوة الله، قالت له: أنت أمير تشتم ظالما وتقهر بسلطانك ! ))(24) وكان هذا الرجل أول المنقلبين على يزيد حين علم بأن السبايا هم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .وكل ذلك من تأثير ما فعلته السيدة زينب عليها السلام .

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني : الثاني :  تحمُّل  المسؤولية عند طوعة اليوم المرأة العراقية المجاهدة ، قراءة لأهم مواقف النماذج المختارة  .

إنَّ إيجاد منهج تربوي متكامل، ورسم خطة محكمة لنمو الإنسان، وتنظيم حياته النفسية والانفعالية، والوجدانية والسلوكية وإبراز مواهبه واستنفاد طاقاته على أكمل وجه مهم جدا ، لكنه لا يغني عن وجود واقع تربوي يمثله إنسان مربٍّ يحقق بسلوكه وأسلوبه التربوي الأسس والأساليب والأهداف التي يقام عليها المنهج التربوي. (25)

ولما كان الإسلام دين العلم والحضارة والرقي وجدنا الله تعالى وهو خالق الخلق العارف بما  يصلح نفوسهم يؤكد على تربية المجتمع على الأسوة الحسنة وربط العلم بالفعل والتطبيق ؛ ليكون ذلك أدل على إيمان المؤمن بالله واليوم الآخر قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(26).

 إن التأسِّي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني التأسِّي بأهل بيته الطيبين الطاهرين فهم منه وهو منهم ، ولما كانت نساء أهل البيت خيرة النساء دينا وعلما وأدبا وخلقا ؛ فاثنتان من خيرة نساء العالمين هما من نسوة أهل البيت قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : (( أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ))(27)) ؛ لذا كان اتخاذهن أسوة سبيلا للنجاة  والفوز في الدارين .ولقد اتضحت مصاديق ذلك في عراق اليوم في تصديه للهجمة الشرسة التي أرادت به وبأهله سوءاً ،وبرز امتثال الأسوة الحسنة بشكل جلي عند المرأة العراقية المؤمنة الأصيلة الأبيَّة النبيلة حيث شجَّعت النساء رجالهن على الدفاع عن الوطن والمقدسات ، سواء أكانوا أزواجا أم أولادا أم إخوانا ؛ امتثالا لأمر المرجعية الرشيدة والتزاما بها . كما حصل في المناطق التي تعرَّضت لتعدي العصابات الإرهابية داعش . فكانت صورة العقيلة زينب ماثلة في أعينهن في الصبر والإيثار والإباء والثبات وعدم الخوف من الأعداء وتشجيع الرجال على الجهاد الحقيقي ومشاركتهن في ذلك الجهاد من حثٍّ الرجال عليه وتبرع بالمال ما استطعن إلى ذلك سبيلا ، وتجهيز المقاتلين الأبطال بما يستطعن من مال وطعام ، وصور ذلك ليست خافية في المجتمع العراقي يسردُهَا المقاتلون الأبطال ، فكُنَّ بذلك  ممتثلات لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

(( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ وَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْغَازِي شَيْءٌ وَيَزِيدُ قَالَ أَنْبَأَنَا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ مِنْ غَيْرِ أَنْ لَا يُنْتَقَصُ )) (28) .ولهن أجر عظيم في كفالة عوائل الشهداء من أرامل ويتامى وسدِّ مسدِّ الآباء ورسم صورهم البطولية في أذهان أبنائهم وغرس حب الأوطان فيهم .

 

ـ المشاركة الحقيقية في المعركة من خلال التدرب على حمل السلاح ومعرفة استعماله في حال التعدِّي على المدن التي يسكنَّ فيها والدفاع عن أنفسهن إذا استدعى الأمر ذلك ، كما حصل في ناحية آمرلي التي صمدت نتيجة صمود أهلها نساء ورجالا وأطفالا ، فقد حاولت العصابات الإرهابية «داعش» مراراً وتكراراً اختراق هذه الناحية ؛ لكونها المنطقة الوحيدة في محافظة صلاح الدين، ضمن الجهة الشرقية التي لم تسقط ، بل قاومت ووقفت أمام هجماتهم العديدة، على الرغم من استخدامهم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة. فقد  تحمَّلوا القصف اليومي الشديد بقذائف الهاون، التي يصل عددها في اليوم الواحد إلى أكثر من (250) قذيفة، فضلا عن صواريخ «الكاتيوشا».ولقد صمد أهلها مقتفين في ذلك أثر أبطال الطف على الرغم من الضغوط الشديدة من الناحية النفسية، فأبوا الاستسلام والتخلّي عن أرضهم، وأصروا على الدفاع عن شرفهم، ملبين نداء المرجعية الدينية بالجهاد الكفائي. لقد كان الجميع، رجالاً ونساءً و أطفالاً في خندق واحد للمقاومة، كل من موقعه فهم على قلب رجل واحد متآزرون متكاتفون(29) .

فلئن كان صمود الرجال في المناطق الأخرى التي تعرَّضت للاعتداء واضحا ، فلقد لفتت شجاعة النساء والأطفال الانتباه في هذه الناحية كما أذهل الناس ثباتهم ومرابطتهم واستعمال القليل من العدة مع الكثير من الإيمان والثقة بنصر الله ، وقد شاهدنا النساء وهن يحملن الأسلحة مصمِّمات على مواجهة مجرمي داعش الإرهابيين ، مستذكرات عقيلة الطالبيين الصابرة الأبية الصامدة ومتمثلات بطولاتها ، تقول إحدى بطلات آمرلي المقاتلة أم محمد : (( لقد "تصدَّيت لقيادة نسوة المدينة، بعد أن درَّبني زوجي العقيد مصطفى الطائي، على كيفية استخدام الأسلحة والرماية بالمسدس والرشاش، ونزْع صواعق الرمَّانات اليدوية، حيث درَّبت نساء المدينة على ذلك، وتعاهدنا على أن تحتفظ كل امرأة منا برمَّانة، فيما لو تمكَّن المسلحون منا وانتصروا علينا ، ونموت شهيدات دفاعاً عن عفَّتنا وشرفنا، على أن نكون نساء نكاح وسبايا لداعش، وأغراب الدول الذين استباحوا أرض العراق" وتدعو الطائي، المرجعيات الدينية إلى جواز جهاد النساء كما أفتت للرجال بذلك، ليرى العالم أجمع ما ستسطره نساء آمرلي من بطولات في الدفاع عن أرضهن وشرفهن (30) .

وتقول بطلة أخرى من بطلات آمرلي : (( لقد  تحمَّلنا وصبرنا في هذه الأرض الطيبة بأهلها، وهذا ال تحمُّل  درسٌ وإشعاع من السيدة زينب العقيلة، عليها السلام، وجميع نساء آمرلي يقتدين بزينب الحوراء في صمودها وصبرها.. والحقيقة هدفنا هو تحقيق الأمان في هذا البلد الحبيب ))(31) .

ـ دفاع النساء عن أبناء العراق والتصرف بروح وطنية من دون التفات للطائفية أو المذهبية كما حصل مع السيدة (أم قصي الملقَّبة بطوعة العصر )  وهي امرأة بطلة من منطقة العَلَم في محافظة صلاح الدين قامت بحماية خمسة وعشرين طالبا شابا هربوا من فكَّي مجزرة  سبايكر في تكريت وكاد القتل أن يتخطَّفهم  فطلبوا الحماية والنجدة فوجدوا أمَّاً لهم خاطرت بنفسها وأولادها وبناتها وكل مَنْ يمتُّ لها بصِلَة من أجل أن تحميهم وهم من جنوب العراق ولا يجمعهم بها سوى الوطن الغالي والدين الحق ومسؤولية حماية من لا ناصر له إلا الله وأصحاب المبادئ السامية ، وهي تعلم أنها أمام عدو دخيل مجرم يدعى ( داعش ) لا يراعِي في الله إلاًّ ولا ذمة ، ليس له دين يردعه عن الشر ولن يتورع عن قتلها ومن معها في الحال واحتفظت بهم في بيتها خمسة عشر يوما وعندما أخرجتهم من المنطقة ومروا في سيطرات داعش وضعتهم بين أولادها وأعطتهم هوياتهم بعد أن لقَّنتهم أسماءهم طوال الطريق (32). فكانت بحق تعادل آلافا من الرجال الذين سمعوا بسبايكر ولم يحرِّكوا ساكنا ، صمتوا خوفا من أن تزول الكراسي ولم يخافوا من موقف رهيب بين يدي الله تعالى حين تنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يصنعون .

 لقد آمنت هذه  بالله تعالى وبوحدة الوطن و بالقضايا الإنسانية ؛ لتثبت لمن يتشدق بتكرُّس الطائفية في العراق أنَّ الشعب العراقي شعب متمازج موحَّدٌ متحابٌّ على الرغم من كل ما تبذله الدول المغرضة من محاولات لزعزعته وضرب لُحْمَتِه ، فاستحقت هذه المرأة بجدارة محبتها في قلوب العراقيين ، وتكريم المرجعية الرشيدة ورئاسة الوزراء تثمينا لجهودها .

الثالث : ثمار  تحمُّل  المسؤولية بين الأمس واليوم وأثرها في إنجاح المعارك وانتصار الأبطال .

إن من الثمار الجنية لتحمُّل  المسؤولية بين الأمس واليوم ما يأتي :

ـ إنجاح المعارك ووصول صورتها الحقيقية إلى أذهان الناس ، فلولا السيدة زينب وجهادها في سبيل إعلاء كلمة الحق لما عرف الناس نهضة الإمام الحسين عليه السلام والأسباب الحقيقية لها ، فهي لم تبك الإمام الحسين أخا قد اقترف يزيد بحقة جريمة القتل والتنكيل ، وإنما بكته إماما وسيدا وداعيا إلى الإصلاح وقد ظهر ذلك في خطبتيها في الكوفة والشام ففي الكوفة قالت لشرار أهلها مقرعة إياهم على فعلتهم : ((وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم، واسى كلمكم  ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ومدرة حججكم  ومنار محجتكم، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعسا تعسا! ونكسا نكسا! لقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة)(33) ، فقد عددت صفات الإمام الحسين (ع) الفريدة التي سيفتقدونها ، مما ينعكس على حياتهم بالخيبة والخسران  في الدنيا والآخرة وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، و سيسقطون في تعس ونحس وسيحيق بهم غضب الله الجبار .

وهي التي خاطبت يزيد قائلة : ((  وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف يستبطئ في بُغضنا أهلَ البيت مَن نظرَ إلينا بالشَّنَف والشَّنآن، والإحَن والأضغان ؟! ثمّ تقول غيرَ متأثّم.. ولا مُستعظِم: وأهَلُّوا واستَهلُّـوا فرَحَـاً ثمّ قالوا: يا يزيدُ لا تُشَـلّْ!

مُنتَحياً على ثنايا أبي عبدالله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماءَ ذريّة محمّد صلّى الله عليه وآله، ونجومِ الأرض مِن آل عبدالمطلب! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فَلَتَرِدَنّ وَشيكاً مَورِدَهم، ولَتَوَدّنّ أنّك شُلِلتَ وبُكِمتَ ولم يكن قلتَ ما قلتَ وفَعَلتَ ما فعلت. ))(34) ، فقد وقفت أمام الملأ الذين جمعهم يزيد ليتشفى بينهم بالحسين وأهل البيت عليهم السلام وكشفت النقاب عن الصورة القاتمة لإجرام يزيد ونهجه الذي سار فيه على خطى أجداده وحقده على الإسلام وبغضه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذريته الكرام وهم أهل البيت عليهم السلام فيزيد محارب لرسول الله وآله فهو يمثل الباطل وسيلقى هذا الظالم وبال فعله وكانت عاقبة أمره خسرا.

 بمقابل الحق الذي مثَّله الحسين بكل ثقة وجدارة ودافع عنه فهو سليل البيت النبوي الطاهر الذي قدَّم حياته وحياة أهله قربانا ؛ ليستقيم الدين ويسير على النهج القويم .

 ـ الحفاظ على نسل الإمام الحسين عليه السلام من الضياع من خلال المحافظة على حياة الإمام علي بن الحسين عليه السلام لأكثر من مرة وتنجيته من موت محقق على يد الأعداء ، فهو الذي يحمل سلسلة الأئمة المعصومين من ذرية الإمام الحسين عليه السلام .

لقد نفذت السيدة زينب وصية الإمام الحسين بالمحافظة على ابن أخيها الإمام زين العابدين ؛ لذا نراها افتدته بنفسها في مواقف متعددة بعد استشهاد أبيه الإمام الحسين منها ما كان من ابن زياد في مجلسه حين أمر بإحضار آل الحسين وأذن للناس إذنا عاما وعندما رأى الإمام السجاد مع سبايا أهل البيت عليهم السلام سأل : ((من هذا ؟ فقيل: علي بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال علي: قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس، فقال: بل الله قتله، فقال علي: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )(35) )).(36) فقد دمغه بالدليل القرآني الذي لا سبيل لردِّه لدحض ما قاله الطاغية : إنَّ الله تعالى قتل الحسين (ع) . وقد أثر استدلال الإمام وحجاجه بابن زياد فاستشاط غضبا قائلا : ((و لك جرأة على جوابي ؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه ))(37) ؛ مما أدى إلى تعلق عمَّته السيدة زينب (ع) به قائلة : (( يا ابن زياد، إنك لم تبق منا أحداً، فان كنت عزمت على قتله فاقتلني معه ))(38) فأدى ذلك الموقف إلى تخليص الإمام السجاد عليه السلام  من حكم هذا الدَّعي .ولقد أخذت مكانها اللائق في التصرف الصادر عن أهل البيت عليهم السلام في الأحداث التي أدخلوا فيها  ابتداءً من إخراجهم من الكوفة حتى وصولهم الشام فاتضح للناس أن الإمام السجاد عليه السلام كان شديد المرض ؛ مما جعل عمته تنوب منابه ولولا ذلك لقتله الأعداء لقوة حجته ورجاحة عقله وهذا ما أوصله سالما ومكَّنه من بيان حق أهل البيت عندما سمح له بمخاطبة الناس في الشام وإقناعهم بالقضية الحسينية وبيان حقيقتها ؛ مما غير من موقف يزيد وتراجعه عن التبجح بكره أهل البيت وإقامة العزاء للإمام الحسين عليه السلام وتحميل مسؤولية مقتل الإمام لعبيد الله بن زياد والتبرء من فعلته ، والقيام بتجهيز ركب أهل البيت على أحسن ما يكون وإرجاعهم مكرمين إلى مدينة جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيادة الإمام السجاد عليه السلام .

 ـ تغيير القناعات وتصحيح التضليل الإعلامي الذي يحاول الأعداء رسم صور مغايرة للواقع موافقة للسياسة المعروفة المآرب والدوافع ، فلولا السيدة وخطبتها في الشام ومحاججتها يزيد لصدَّق الناس أنَّ الإمام الحسين خارجي  يستحق ما جرى له ولأهل بيته ، أو أنهم من سبي الروم . وقد قامت السيدة بما يدل على  تحمُّل ها المسؤولية وأدَّت المهمة الموكلة إليها في الثورة الحسينية على أكمل وجه ومن أهم ما أظهرته :

ـ إنها نبَّهت الناس إلى أن السبايا الموجودين في مجلس يزيد هم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وليسوا كما وصفهم الأمويون بالخوارج . فقد نسبت نفسها إلى رسول الله عند بداية خطبتها في الشام قائلة : ((الحمد لله رب العالمين، والصلاة على جدي سيد المرسلين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ )(39) ))(40)، فقد ذكرت أنها حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن الحسين آية من آيات الله تعالى استهزأ بها يزيد عندما أخذ ينكث ثناياه بمخصرته أمام السيدة زينب عليها السلام وسيعم عليه غضب الله الجبار جزاء فعلته الشنيعة .

ـ بيَّنت في الخطبة الشريفة أن الإمام الحسين عليه السلام هو ابن رسول الله وابن فاطمة الزهراء بقولها نادبة أخاها بعد ما قام به يزيد  نادت بصوت حزين يقرح القلوب: (( يا حسيناه! يا حبيب رسول الله! يا بن مكة ومنى! يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء! يا بن محمد المصطفى.))(41) .

وأن يزيد يحمل الروح الجاهلية ولم يكن مؤمنا بالله تعالى مستنتجة ذلك من الأبيات التي قرأها يزيد تشفيا بالإمام الحسين ذاكرا أجداده الذين حاربوا الله ورسوله وقتلوا في بدر وأن ما حصل للإمام الحسين عليه السلام هو أخذ بثأرهم مبينة أمورا منها تحققت بشكل قاطع في زمانها وفي الأزمان اللاحقة :

ـ إن يزيد بكل جبروته وقسوته لم يكن راجح العقل أو صاحب حكمة ؛ بل جاهل طائش ؛ لأنه قرأ الأحداث قراءة سطحية ولابد من وقفة تصحيحية ((أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وضيقت علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في أسار، نساق إليك سوقا في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا، وأن ذلك لعظم خطرك، وجلالة قدرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك فرحا ، وتنقض مذرويك مرحا ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور لديك متسقة ، وحين صفا لك ملكنا، وخلص لك سلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا ))(42) فأيُّ وصف تفصيلي ساخر وصفت به العقيلة من نصَّب نفسه خليفة للمسلمين وهو لا يمتلك من مقوماتها شيئا وأيدت كلامها بالحجة القرآنية قائلة : (( أنسيت قول الله عز وجل: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )(43) ))(44) .

ـ أنبأت السيدة يزيد أنه الخاسر الأكبر في الدنيا والآخرة نتيجة فعلته فما اعتقده غنيمة سيكون قريبا خسارة فادحة (( ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعول.))(45) .

ـ أنبأته السيدة أيضا أنَّ ملكه إلى زوال ونهجه في ضلال وجمعه مبدد مُقَال((وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعن الله الظالم العادي.))(46)

ـ بيَّنت للناس احتقارها له غير أنها مجبرة على لقائه ((ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، أني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى ))(47).

ـ أبانت عن رضاها بقضاء الله العادل من خلال حمدها ودعائها له سبحانه أن يفعل بهم ما يبين حقهم بحكمته البالغة ورحمته الواسعة : ((فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل .))(48) وهذا يدل على شدة إيمانها بالله تعالى وقبولها بقضائه وقدره وتحقق وعده سبحانه ، فلابد من الصبر والاستعانة بالله تعالى فهو الرحيم الودود ناصر المؤمنين على أعدائهم ، مهما غلت التضحيات ليستقيم الدين ويسير على صراطه القويم .وفي الوقت الحالي لولا تضحيات العراقيات بأولادهن وأزواجهن ومستقبل عوائلهن والحديث عن الحشد الشعبي وتضحياته من أجل الوطن بما هو حق لَحُرِّفت الحقائق ولكرَّست في الأذهان صورة من يريد تشويه جهاد الحشد ووصفه له بأنه مليشيات طائفية تفرِّق بين أبناء الوطن وطوائفه

ـ إحقاق الحق وإبراز صورة الإيمان الحقيقي فبالأمس أوضحت السيدة زينب عليها السلام أن الإمام الحسين عليه السلام هو من يريد أن يعيد للدين هيبته فهو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وخير من يمثل نهجه من خلال تمثل الأخلاق السامية في شخصه الحكيم وتصرفاته السديدة ، فقد خاب من حاربه وعاداه ؛ لأنه عادى الله ورسوله فلقد خاطبت أهل الكوفة مؤنبة لهم بقولها : ((أتدرون ويلكم أي كبد لمحمد صلى الله عليه وآله فرثتم؟! وأي عهد نكثتم؟! وأي كريمة له أبرزتم؟! وأي حرمة له هتكتم؟! وأي دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئا إدَّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدَّا! لقد جئتم بها شوهاء صلعاء، عنقاء، سوداء، فقماء خرقاء  كطِلاع الأرض، أو مِلءِ السماء ))(49)

    فقد ذكَّرتهم السيدة زينب (ع) أنهم فرثوا كبد رسول الله بقتلهم الإمام الحسين

ورجال آل بيته الأطهار (ع) ، وبإبرازهم النساء المخدرات الكريمات . وبعظيم فعلتهم الشنيعة التي تكاد السماوات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخرُّ الجبالُ هدا! بإشارة إلى كونهم أبناءه الكرام الذين لابد من مراعاتهم إكراما لرسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم .

واليوم أثبتت المرأة العراقية الصورة الناصعة لمذهب أهل البيت عليهم السلام من خلال تفقدها وأخواتها العراقيات للعوائل النازحة وتقديم المعونات لهم والترحيب بهم حبا بهم وامتثالا لأوامر المرجعية الرشيدة التي أوصت باحتضان أبناء الشعب العراقي من نازحي الموصل والأنبار في بغداد وكربلاء وبقية المناطق الشيعية ومعاملتهم بأحسن ما يكون ، وعدم تفرقتهم بين المسلمين في التعامل فهم يعاملون إخوتهم من أبناء العامة كما يعاملون أبناء مذهبهم ، وقد وجه ديوان الوقف الشيعي في العراق بفتح جميع المساجد والحسينيات لإيواء النازحين القادمين من محافظة الانبار غرب البلاد ، وتمثل ذلك في بيان رئيس الديوان في بيان نشره موقع الوقف الشيعي على الإنترنت : إنَّ الديوان (( وجه بفتح جميع المساجد والحسينيات لإيواء النازحين من الأنبار في كل مناطق البلاد  ))(50) وقد دعا الديوان الحكومة العراقية  بوزاراتها كافة وأجهزتها ومؤسساتها الخيرية والدينية بأشكالها وأطيافها كافة إلى وقفة وطنية مشرِّفة تستوعب تلك الجموع  بالمأوى والغذاء وجميع مستلزمات العيش الكريم ريثما تنجلي الغمة ويعود أهلنا إلى بيوتهم آمنين أعزاء مطمئنين .(51) ، واليوم ظهرت انتصاراتنا على جماعات داعش الإرهابية من خلال الوقوف صفا واحدا بوجه الإرهاب وبيان زيف ادعاءات المعتدين وتبجحهم بالدين وهو منهم براء ، وبيان كذبهم وبشاعتهم وإجرامهم اللا محدود وتشويههم لمبادئه السمحة من خلال فضح نواياهم الدنيوية ورغبتهم الملحَّة في تخريب أرض العراق وتمزيق وحدة أهله . وما ذاك إلاَّ بصبر العراقيات ، وشدِّهن أزر الرجال  وإملائهن الفراغ الذي تركه ذهابهم وتربية الأولاد على حب الوطن والتضحية من أجله . وما تضحيات النساء العراقيات بأعز أولادهن وتصديهن للأعداء وحمايتهن أبناء الوطن ومعاملتهم كالأبناء إلاَّ أدلة بيِّنة على انتصار شعب العراق على مجمل أعدائهم وتحدي المنطق الذي يحاول الأعداء تكريسه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة ونتائج البحث

إن رحلة مليئة بالصبر والثبات والابتعاد عن حب الذات في عوالم حواء المليء بما يحير العقول ويثبت أنها تستحق أن تكون مثلا للذين آمنوا كما ورد في محكم كتاب الله العزيز هذه الرحلة لابد أن تفرز مجموعة من النتائج التي تصب في خدمة المجتمع ، وأهمها :

ـ لابد للمرأة الصالحة من اتخاذ الأسوة الحسنة ؛ لتكون مثالا يحتذى تستلهم من سيرته الدروس والعبر لتستعين بذلك على صروف الدهر فلا تهتز أو تنهار أمام النوائب بل تجعل التعامل معها طريقا يربط الدنيا بالآخرة وسبيلا يمحِّص إيمانها ويمنحها فرصة تطبيق ما آمنت به وتحويله منهج حياة . ولابد من انتقاء تلك الأسوة والتمسك بما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نتمسك بهم وهم أهل البيت عليهم السلام فلا نضل الطريق . بل نصل من خلالهم إلى بر الأمان .

ـ إنَّ المرأة إذا أُحسِنَ التعامل معها ومُنِحَت فرصة التعليم المثمر والتربية على المبادئ السامية ستكون خير لسان ناطق عن الحق كما حصل مع السيدة زينب العقيلة سابقا ومع نماذج مشرفة للمرأة العراقية الأبية حاليا .

ـ إنَّ المسؤوليات الجسيمة تضطلع بها المرأة كما يضطلع بها الرجل ، فكل من موقعه قادر على أداء المهمة الموكلة إليه وهذا ما رأيناه واضحا لدى في استقراء نماذج البحث التي تجلى فيها تحمل المسؤولية بأوضح صوره .

ـ إن المجتمعات تحتاج الإنسان الرسالي الذي يكون في أعلى درجات تحمُّل المسؤولية عند إثبات وجودها واتضاح موقفها ، سواء في ذلك النساء والرجال فكثير من النسوة عبر التاريخ حفرن أمجاد المرأة في ذاكرة الدهر ومنهن السيدة زينب عليها السلام ، وسيسطر التاريخ بطولات المرأة العراقية التي تصدَّت لداعش وقارعته مع أخيها الرجل بحروف من نور فلولا صمودها ووقفتها الثابتة وتنفيذها وصايا المرجعية الرشيدة لما انتصر العراق على الزمر الإرهابية ولقنها الدروس والعبر .

ـ إن الحوادث الجسيمة تصنع العظماء وتوضِّح معادن الناس ، وتبرز الإرادات القوية ، فيحتاج المجتمع المتصدي للنوائب لجهود الجميع ليستطيع الخروج من الأزمات وهو قادر على تخطِّيها بالشكل المشرِّف ، فنهضة الإمام الحسين احتاجت دم الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره و لسان السيدة زينب الفصيح البليغ وشدته و حكمة الإمام السجاد وقوة حجته . كما احتاج العراق الآن في معركته العادلة ضد الإرهاب إلى بسالة الأبطال وجهادهم ، ومواقف النساء وثباتهن ، فتحمُّل المسؤولية لا يتجلى بحمل السلاح وحسب بل يعضده بالحفاظ على استقرار المجتمع  من خلال ملء الفراغ الذي يتركه الرجال وتربية الأولاد والمحافظة عليهم ، وتحصين المجتمع من كل ما يمكن أن يخترق أمنه وسلامته ويزعزع استقراره.

ـ إنَّ الانتصار في المعارك لا يكون بظاهره الميداني بل يتجلَّى أحيانا بما تسفر عنه الأحدث وتنتجه القراءة المتأنية لها وبما ينجم عن إثر تلك المعارك من ثورات يظهر فيها الانتصار الحقيقي ، كما أن المعارك لا تكون بالأسلحة الميدانية فقط ، بل هناك سلاح الإعلام الذي يكون أحيانا أقوى تعبيرا وأشد تأثيرا وهذا ما كان مع السيدة زينب عليها السلام ، وما حصل مع المرأة العراقية الصامدة .

ــ إنَّ المجتمع العراقي مجتمع صامد متماسك متمازج ، فهو ثابت كنخله الباسق عصيٌّ على الرياح وهذا ما تجلَّى في صنيع طوعة اليوم السيدة أم قصي التي أثبتت بإيوائها للطلبة الناجين من مجزرة سبايكر ، ومعاملتها لهم كأبنائها أنَّ الأم العراقية أم لكل الأبناء العراقيين مهما اختلف منابتهم وتعددت مذاهبهم فأعطت بذلك دروسا لكل نساء العالم في الإيثار والتضحية وحب الوطن .

 

هوامش البحث

تاج اللغة  وصحاح العربية مادة ( أسا ) . لسان العرب ، ابن منظور مادة ( أسا ) .  سورة الأحزاب : 21  وينظر في الحث على الأسوة الحسنة سورة الممتحنة 4 ، والممتحنة : 6 . أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع عبد الرحمن النحلاوي ، ط 25 ، 2007 ، دار الفكر المعاصر  : 83 . كيف تربي أبناءك كي يكونوا قادة في المستقبل ، شيماء علي عبد ربه ، موقع صيد الفوائد ، شبكة الإنترنت .  موسوعة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين  ، السيد علي عاشور ، دار نظير عبود ، بيروت ، لبنان  ، ط1 ، 1429  ،  2009 :  8  . زينب الكبرى عليها السلام من المهد اللحد ، دار الغدير للطباعة والنشر قم المقدسة إيران ، ط2 ، 1424 هـ ، 2003 م  : 24 . سورة الجن 26 ـ 27 . كامل الزيارات : 445 . م . ن ، الصفحة نفسها . المرأة العظيمة قراءة في حياة السيدة زينب بنت علي عليها السلام : 170 . ينظر : موسوعة عاشوراء ، جواد مُحَدِّثِي ، ترجمة خليل زامل العصامي،  دار الرسول الأكرم ، دار المحجة البيضاء ، بيروت ، لبنان ، ط1 1418هـ ــ 1997م ، 224 . الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد : 2/94 .   ينظر مقاتل الطالبيين : 95 . ينظر زينب الكبرى من المهد إلى اللحد : 202  ينظر الملهوف على قتلى الطفوف : 189 . وزينب الكبرى من المهد إلى اللحد : 258 . الملهوف على قتلى الطفوف : 201 . سورة الأحزاب:  33 . الاحتجاج : 2/ 30 ، الصلف : الذي يدَّعِي ما ليس عنده . نقل الزبيدي: الصَّلَفُ مُجاوَزَةُ القَدْر في الظَّرْف والبراعة والادِّعاءُ فوق ذلك تكبّراً ،تاج العروس مادة (صلف) ، الشَّنِف : شديد البغض، قال ابن منظور: والشَّنَفُ شِدّة البِغْضةِ ، لسان العرب : مادة (شنف)الغمز: الطعن والعيب، الدمنة: مكان أبعار الماشية، قال ابن منظور : دَمَّنتِ الماشيةُ المكانَ بَعَرت فيه وبالت ،لسان العرب مادة : دمن ، الشَّنار: العيب والعار وقيل هو العيب الذي فيه عار والشَّنار أَقبح العيب والعار يقال عار وشنار، لسان العرب مادة (شنر) ، لن ترحضوها :أي لن تغسلوها لسان العرب : مادة (رحض) . الاحتجاج  : 2/ 37 . م . ن : الجزء والصفحة أنفسهما . الملهوف على قتلى الطفوف : 194 ، اخضلَّت : تقاطر دمعها الإرشاد 126 الاحتجاج  2/38 . المصدران السابقان ، الجزءان والصفحتان أنفسهما . ينظر أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع : 205 . سورة الأحزاب 21 . مسند الإمام أحمد بن حنبل : 4 / 409 . م. ن : 28 / 261 . ينظر مجلة الهدى مقالة : آمرلي شاهدة على الظلم وبوابة للفتح ، حسين محمد علي ،22/10/ 2014 . صحيفة المدى ، 24 / 8 / 2014، مقالة نساء أمرلي يفصِّلن الشهادة على الخضوع للإرهابيين برغم من كل ما يهددهن وأطفالهن من جوع وعطش للكاتب أج أج تي زد . ينظر مجلة الهدى مقالة : آمرلي شاهدة على الظلم وبوابة للفتح ، حسين محمد علي ،22/10/ 2014 . ينظر : صحيفة الغد برس 31 / 7 / 2015 مقال : (( أم قصي تروي للغد برس قصة حمايتها لخمسة وعشرين طالبا من سبايكر )). الاحتجاج :  2 / 35 . بحار الأنوار 45 / 135 . سورة الزمر : 42 . بحار الأنوار : 45 / 117. م.ن : الجزء والصفحة أنفسهما . الملهوف على قتلى الطفوف 202 . سورة الروم : 10 . الاحتجاج : 2/35 . م.ن : الجزء والصفحة أنفسهما .  الاحتجاج 2/ 35. سورة آل عمران 178. الاحتجاج 2/ 35. الملهوف على قتلى الطفوف :  217 . م.ن : الصفحة نفسها . م.ن : الصفحة نفسها . م.ن : 218 الاحتجاج 2/ 30. موقع قناة العالم الفضائية / مقال الوقف الشيعي يوجه بفتح المساجد والحسينيات لإيواء نازحي الأنبار ، الأحد : 19 /4 /2015 . ينظر : م.ن المقال نفسه .

 

المرفقات