آخر الفرسان

 

كان آخر من بقيَ من صحابة رسول الله (ص)، وقد بلغ من العمر عتيّاً فعاش مراحل انطلاق الإسلام ودعوة الرسول ورأى أولئك الصحابة الأجلاء وهم يقيمون الدعوة على أسس الخير والصلاح، ولا يزال يستذكر ذلك الوجه الذي لم ير أجمل وأبهى منه فيغمض عينيه وهو يتأمل ذلك البهاء فتردد شفتاه: ما بقي أحد رأى رسول الله (ص) غيري، فيقول بعض من حوله: ورأيتَه ؟ فيقول: نعم. فيطلب السائل منه أن يصِفه ؟ فيقول: كان أبيضاً مليحاً مُقَصّداً.

وهو الآن وقد شهد الكثير من الأحداث وعاصر عدة دول قامت وأفلت يستذكر علياً (ع) فيطول حزنه على فراقه، فيتأمل مواقفه معه في الجمل وصفين والنهروان وقد شارك أصحابه المناضلين الصفوة من حواريِّ علي فيبكي بكاءً مرّاً..، لم يكن بكاؤه عليهم، بل على نفسه حسرة أنهم مضوا شهداء بين يدي سيدهم وبقي هو.

آخر السبعين

كان يبكي لأنه فارق هؤلاء الخيرة من المؤمنين الذين لازموا الحق حتى آخر رمق وقضوا نحبهم وبقي ينتظر وهو على الهدى الذي هم عليه فكان يقول : (لم يبق من السبعين غيري) ويقصد بـ (السبعين) الصحابة الذين كانوا مع علي يوم صفين وتطول نجواه وتتصاعد زفراته فتخرج نفثته شعراً:

لكِ الخيرُ لو أبصــــــرتَني يوم مأزقٍ   ***   وقد لمعتْ فـيه السيوفُ القواطعُ

وعند الندى ناهيكَ بي من أخي الندى   ***   وعند حجــــاجِ القومِ قوليَ قاطعُ

وما شــــابَ رأسي من سـنينٍ تتابعت   ***   عليّ ولكـــــــــن شيَّبتني الوقائعُ

وما قصُرت بي همَّــــتي دون بُغيتي   ***   ولا دنّســــتني منذ كنتُ المطامعُ

يستحضر في ذاكرته تلك الأيام وأبطالها فيطالعه وجه الأشتر وعمار وخزيمة وحجر وعمرو بن الحمق وغيرهم من أسود الحرب الذين كان ينافسهم في صولاتهم وجولاتهم وبطولاتهم، فيتحسّر على نفسه ويغبطهم على ما مضوا عليه فيقوم ليصقل سيفه ويشحذ رمحه بانتظار إشارة الجهاد مع الإمام القائم (عجل الله فرجه)، ولم يزل يحمل عدة حربه للجهاد والشهادة في سبيل الله حتى آخر حياته.

رواياته عن النبي في الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

لقد صحب النبي (ص) وسمع منه حديثه: (علي قائد البررة .... وأبو سبطيَّ ومن صلب الحسين تخرج الأئمة التسعة ومنهم مهدي هذه الأمة)، فوعى هذا الحديث ورواه (1)  

كما سمع من سلمان الفارسي حديثه (ص) لفاطمة (ع): (إن الله اختارني من أهل بيتي واختار علياً والحسن والحسين واختارك .... ومن ذريتكما المهدي يملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جوراً) (2)

كما روى حديثه (ص): (ومن صلب الحسين يخرج الأئمة التسعة مطهّرون معصومون ومنا مهدي هذه الأمة).

وتيقن حديثه (ص) أن الأئمة بعد رسول الله هم إثنا عشر إماماً: (الأئمة من عترتي بعدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين).

لم يكن كغيره ممن سمع هذه الأحاديث وغيرها في علي (ع) فمرت عليه مرور الكرام بل كان يسمعها ويعيها فاستيقنتها نفسه المؤمنة واعتقدها قلبه النابض بحب أهل البيت (ع)، فلازم علياً وأولاده طوال حياته مضحياً بنفسه وولده في سبيل هذا المبدأ، وها هو بعد هذا التاريخ الطويل من الجهاد وقد فقد أولاده وأحبته وقد جاوز عمره المائة سنة كُتب عليه أن يعيش ليرى بني أمية تنزو على كرسي الخلافة نزو القرود وليحولوا الدين إلى مؤسسة تخدم مصالحهم وأغراضهم السياسية ..!

كُتب عليه أن يرى أن من يفتي في الإسلام أعداؤه من أمثال كعب الأحبار وأبو هريرة وغيرهما بما يشاء معاوية !

كُتب عليه أن يرى استشهاد أصحابه في الجهاد واحداً واحداً في الحروب الثلاثة ثم مطاردة الباقين منهم وقتلهم على يد معاوية !

كُتب عليه أن يسمع بتلك الفاجعة في كربلاء فينهض مع المختار للأخذ بالثأر من المجرمين.

وها هو الآن بعد كل هذه الأحداث المعارك والتاريخ الحافل بالمواقف والبطولات لا زال ينتظر الشهادة.

مع عمر بن عبد العزيز

لقد خاض غمار كل هذه الأحداث وكان له فيها يد طولى فلا تزيده النكبات التي مرت عليه في عهد معاوية ويزيد وعبد الملك والوليد وسليمان إلّا مُضياً على الهدى الذي هو عليه فيدخل على عمر بن عبد العزيز وقد منعه الأخير عطاءه فقال له: لم منعتني عطائي ؟ فقال له: بلغني أنك صقلت سيفك وشحذت سنانك ونصلت سهمك وعلقت قوسك تنتظر الإمام القائم حتى يخرج فإذا خرج وفاك عطاءك

فقال له: إن الله سائلك عن هذا. فاستحيا عمر من هذا وأعطاه، وطالما كان ينشد في شعره ظهور دولة الإمام فيقول:

فلا تحسبوا أن الرخاءَ لأهلهِ   ***   يدومُ ولا أن البليَّـــــــــةَ ترتبُ

فإن لأهلِ الحقِ لا بـــد دولةً   ***   على الناسِ إيّاها أرجّي وأرقبُ

في مواجهة معاوية

ويتوعد بهذه الدولة المنتظرة دولة بني أمية حينما يدخل على معاوية بعد أن ألحّ الأخير في طلبه وحضوره فيقول له معاوية: ما بلغ من حبكَ علياً ؟ قال: حب أم موسى لموسى قال: فما بلغ من بكائك عليه ؟ قال: بكاء العجوز المِقلاة والشيخ الرقوب وإلى الله أشكو تقصيري ثم أنشد:

فلا تجزعوا إن أعقبَ الدهرُ دولةً   ***   وأمستْ منــــــــــياكم قريبا بعيدُها

فإن لأهلِ الحقِ لا بد دولــــــــــةً   ***   على الناس يرجى وعدُها ووعيدُها

وهكذا كان مستعداً للشهادة التي طالما تمنّاها منذ يوم صفين لمّا كان شاباً، وكان فيها يحمل راية قومه كنانة وهو مزهوٌ بها في دفاعه عن الحق فيخفق قلبه معها للشهادة بين يدي سيده أمير المؤمنين فقال: (يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا إن أشرف القتل الشهادة وأحظى الأمر الصبر، وقد والله صبرنا حتى أصبنا، فقتيلنا شهيد وحيّنا ثائر، فاطلب بمن بقي ثأر من مضى، فإنا وإن كان قد ذهب صفونا وبقي كدرنا فإن لنا ديناً لا يميل به الهوى ويقيناً لا تزحمه الشبهة).

أحد العشرة

كان كالجبل الأشم لا تثنيه الريح ولا تثيره الزوابع، فكان أمير المؤمنين يعرف منه هذا الولاء الراسخ واليقين الخالص الذي لا تشوبه شائبة، وكان يقدر له هذا الثبات والولاء، وتدلنا رواية الكليني على أنه كان من ثقاته (ع) حيث روي أنه (ع) دعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع فقال: أدخل إليّ عشرة من ثقاتي فقال: سمّهم لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أدخل الأصبغ بن نباتة وأبا الطفيل عامر بن واثلة الكناني .... الخ).

وقد أجمع علماء الشيعة على أنه كان من خيار أصحاب أمير المؤمنين (ع) و(ثقاته) و(من مخلصي أنصاره) و(من حملة علمه) و(قد شهد حروبه كلها)، فجاءت ترجمته والثناء عليه وعدّه من كبار رجال الشيعة وأعيانهم فجاء ذكره في (المناقب) لابن شهراشوب (3)، و(وسائل الشيعة) للحر العاملي (4)، و(أخبار شعراء الشيعة) للمرزباني (5)، و(أعيان الشيعة) للسيد الأمين (6)، و(الطليعة من شعراء الشيعة) للشيخ السماوي (7) .... وغيرها من المصادر

كما كان من أصحاب الإمامين الحسن والحسين والإمام زين العابدين (عليهم السلام) فقد روي عن علي (ع) في محاججته لأبي بكر في أخذ البيعة له في أربعة مواطن هي في يوم الدار، وبيعة الرضوان، وتحت الشجرة، وفي بيت أم سلمة فقال: (أن النبي قال: قم يا سلمان، قم يا مقداد، قم يا عامر، قم يا بريدة فبايعوا لأخي علي وسلموا عليه بإمرة المؤمنين فقاموا بأجمعهم بلا مراجعة فبايعوا لي وسلموا عليَّ بإمرة المؤمنين).

كما أجمع علماء السنة ومؤرخيهم على تشيّعه المحض وولائه لعلي (ع)، فقال ابن عبد البر: (كان فاضلاً عاقلاً حاضر الجواب فصيحاً وكان متشيّعاً في علي يفضّله) (8)

وقال ابن حجر العسقلاني: (كان ثقة وكان متشيّعاً). (9)

وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): (كان من أنصار علي). (10)

وقال ابن الأثير: (كان من أصحاب علي (عليه السلام) المحبين له وشهد معه مشاهده كلها وكان ثقة مأموناً يقدّم علياً) (11)

وقال ابن قتيبة الدينوري: (كان من أخصّ الناس بعلي) (12)

وقال أبو الفرج الأصفهاني: (وكان مع أمير المؤمنين وكان من وجوه شيعته وله منه محل خاص يستغنى بشهرته عن ذكره) (13)...

روايته فضائل أمير المؤمنين

وقد روى أبو الطفيل العديد من الأحاديث الشريفة بحق أهل البيت مثل حديث الثقلين، والغدير، ومثل أهل بيتي كسفينة نوح، وسد الأبواب إلا باب علي، وحديث الطير عن أنس وغيرها في فضائل أمير المؤمنين، ويدلنا حديث أمير المؤمنين الذي خصّه به على مكانته لديه حيث قال (ع) له: (يا أبا الطفيل والله لو دخلت على عامة شيعتي فحدثتهم ببعض ما أعلم من الحق في الكتاب الذي نزل به جبرئيل (عليه السلام) على محمد (ص) وببعض ما سمعت من رسول الله لتفرقوا عني حتى أبقى في عصابة حق قليلة أنت وأشباهك من شيعتي ... إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرفه ولا يقر به إلا ثلاثة ملك مقرّب، أو نبيٌّ مرسل، أو عبد نجيب امتحن الله قلبه للإيمان، يا أبا الطفيل إن رسول الله قُبض فارتد الناس ضلّالاً وجُهّالاً إلّا من عصمه الله بنا أهل البيت). (14)

وقد كان أبو الطفيل المؤمن النجيب الذي امتحن الله قلبه للإيمان فعرف أمر أهل البيت وأقر به وعمل طوال حياته على السير على هذا النهج القويم.

سيد كنانة

انه أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس بن جدي بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان حامل راية كنانة وقائدها وسيدها في صفين بين يدي أمير المؤمنين (ع)

لقب بـ (فارس صفين وشاعرها)، كما لُقب بـ (حبيب علي) عليه السلام، و(سيد كنانة)، وحامل لوائها والصوت الهادر الذي طالما دوّى في ساحات (الجمل) و(صفين) و(النهروان) صادحاً بنصرة الحق وبقيت أصداء أبياته على مدى تعاقب الأجيال والأزمان:

حامت كنـــــــــانة في حربها   ***   وحامت تميمٌ وحـامت أسدْ

وحامت هـــــوازنُ يوم اللقاءِ   ***   فما خامَ منا ومنــــــهمْ أحدْ

طحنّا الفوارسَ وسط العجاج   ***   وسقنا الزعانفَ سَوْقَ النقدْ

وقلنا عليٌ لنــــــــــــــــا والدٌ   ***   ونحن له طـــــــاعةً كالولدْ

ولم يخفت هذا الصوت على مدى عمره المديد في إعلان الحق والجهر به حتى الرمق الاخير، مدافعاً عن مبادئه الحقّة مستميتاً في الذبّ عنها، وكلما تقادم عمره زاد إصراراً عليها فكان يقول مضمّناً حديث النبي (ص): (علي خير البشر فمن أبى فقد كفر):

أشهد بالله وآلائـــــــــــــــه   ***   وآل ياسيـــــن وآل الزمرْ

إن علي بـــــــن أبي طالب   ***   بعد رسولِ اللهِ خيرِ البشرْ

لو يسمعوا قول نبي الهدى   ***   من حادَ عن حبِّ عليٍّ كفرْ

ولادته

ذكرت بعض المصادر أنه كان بدرياً بأسانيد متعددة وأغرقت بعض المصادر في سنة ولادته في روايات دلت على تخبط أصحابها وغلبة الهوى والأمزجة على أقوالهم, وعلى جميع الأقوال فإنه يعد من الصحابة الأجلاء وقد روى عن النبي (ص) معاينةً لا نقلا. أما ولاؤه وتشيّعه فقد أكده القاصي والداني ومن المؤرخين إضافة إلى مواقفه وأشعاره التي صدح بها في حياته والتي أكدت شاعريته الكبيرة وأضافت اسماً كبيراً إلى رصيد الأدب الشيعي الثر.

الفارس الشاعر

كثيرةٌ هي الروايات التي نوّهت بهذه الشاعرية الكبيرة، نقتبس منها ما رواه بعض المؤرخين، فهذا أبو الفرج الاصفهاني يقول: (إنه قال بشر بن مروان حين كان والياً على العراق للشاعر الكناني أنس بن زنيم: أنشدني أفضل شعر قالته، كنانة فأنشده قصيدة لأبي الطفيل، فقال له بشر: صدقت هذا أشعر شعرائكم). (15)

وهذه الشهادة لا تحتاج إلى نقاش لأنها صدرت من شاعر يحسب لتقييمه ما يجب أن يكون عليه الشاعر، ودخل أبو الطفيل على معاوية فقال لجلسائه: (هذا حبيب علي وفارس أهل صفين وشاعرهم)، وكذلك سماه ابن قتيبة الدينوري في (الامامة والسياسة) في ترجمته (16)، وعده ابن أبي خيثمة من (شعراء الصحابة)، وترجم له المرزباني في (أخبار شعراء الشيعة)، فذكره أول واحد من سبعة وعشرين شاعراً من شعراء الشيعة الكبار، كما ترجم له أيضاً السماوي في (الطليعة من شعراء الشيعة), وكذلك الصنعاني في (نسمة السحر في ذكر من تشيّع وشعر)، وقال: (كان فارساً كريماً شجاعاً شاعراً). كما ترجم له أيضاً الأصفهاني في (الأغاني) بشكل وافٍ ونقل عنه أخباراً كثيرة، وعدّه الزركلي في (الأعلام) شاعر كنانة وأحد فرسانها، وكذلك عبد الحسين طه في (أدب الشيعة).

وهناك مصادر أخرى كثيرة ترجمت لأبي الطفيل ونقلت بعض أشعاره تركناها خشية الإطالة ولكنها تتفق مع ما ذكرنا في ترجمته مع اختلاف طفيف غير أن النجاشي (17)، والطهراني (18) قالا: (إن عبد العزيز بن يحيى الجلودي المؤرخ الاديب ألّف كتاباً سمّاه (أخبار أبي الطفيل) كما ذكر السيد الأمين في (أعيان الشيعة) إن لأبي الطفيل ديوان شعر طبعه بعض المستشرقين الألمان، وقال الشيخ عبد الهادي الاميني: إن ديوانه طبع في لندن.

وقد جمع شعر (أبي الطفيل) الطيب العشاش ونشره في حوليات الجامعة التونسية سنة (1973) العدد العاشر واستدرك عليه ما فاته الأستاذ ضياء الدين الحيدري ونشره في مجلة (البلاغ) الكاظمية سنة (1975) العدد (27 ـ 31)، أما أغراض شعره فقد حمل أغلبه الطابع الديني - السياسي.

التشيع .. سيفاً وفكراً وشعراً

لنعد إلى أبي الطفيل الذي حمل التشيع سيفاً وفكراً وشعراً طيلة حياته وجسّده في سره وجهره، وشارك علياً في جميع حروبه وكان له فيها صولات وجولات وأراجيز مع قومه في نصرة أمير المؤمنين (ع) وطالما سمعه العسكر في صفين وهو يردد:

قد صابرتْ في حربِـها كنانَه   ***   والله يجــزيــها بها جـنانَه

من أفرغَ الصبــرَ عليه زانَه   ***   أو غلبَ الجبنُ عليـه شانَه

أو كفرَ الله فقد أهـــــــــــانَه   ***   غداً يعضّ من عصى بنانَه

مع المختار واستشهاد ابنه

لم تذكر التواريخ عنه شيئا عندما أعلن الإمام الحسين (ع) ثورته فمن المؤكد أنه سيكون له دورا في نصرة سيد الشهداء ومن المرجح أنه كان مع المعتقلين الشيعة الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة وقد بلغ عددهم أربعة آلاف وخمسمائة معتقل ولكنه يظهر مرة أخرى بعد مقتل الحسين. وكما حمل ابو الطفيل راية الجهاد مع أمير المؤمنين (ع) في حروبه الثلاث، فقد حمل راية الثأر من قتلة الامام الحسين (ع) ووقف إلى جانب المختار في ثورته مع ابنه الطفيل الذي قتل مع المختار فرثاه أبوه بقصيدته البائية المفجعة يقول فيها:

خلّى طفيــــلٌ عليّ الـــهمَّ وانشعبا   ***   فهدّ ذلك ركنــــــــــي هدّةً عجبا

وابني سمية لا أنســــــــاهما أبــداً   ***   فيمن نسيتُ وكلٌ كان لي وصَبَا

مهما نسيتُ فلا أنسـاه إذ حـــدقت   ***   به الأسنةُ مقتــــــــــولاً ومُنسلبا

وهي قصيدة ملتهبة أججها فقدان ولده الطفيل فيبكيه بكاءً مراً فيقول:

وما طفيل بوقّــافٍ إذا افترســـت   ***   زرقُ الأسنـــــــة هيّابٍ إذا ركبا

فاملك عزاءكَ إن رزء بُليــتَ به   ***   فلن يرد بكـــــــاءُ المرءِ ما ذهبا

وليس يشـــــفي حزيناً من تذكّره   ***   إلا البــــــكاءَ إذا ما ناحَ وانتحبا

كما يبكي نفسه بعد أن شاب رأسه ورقّ جسمه و هزل عوده ولم يعد يقوى على تحصيل قوت يومه وقد استشهد ابنه فيقول:

فاذهب فلا يبـعدنك الله من رجلٍ   ***   فقد تركـــتَ رقـيقاً عظمه وصبا

تركتني حين لا مـــالٌ أعيشُ به   ***   وحين جنّ زمــانُ النـاس أو كلبا

وأخطأتني المنــــايا لا تطالعني   ***   حتى كبرتُ ولم يتـركنَ لي نشبا

ولكن عزاء أبي الطفيل، أن الطفيل كان المجاهد الباسل القتيل الذي استبسل في أخذ الثأر من قتلة الحسين (ع) ولم يكن من أصحاب الموقف المتخاذل من الذين فروا وأدبروا وتركوا نساءهم للسبي:

حتى وردتَ حياضَ الموتِ فانكشفتْ   ***   عنكَ الكتــــــائبُ لا تخفي لها عقبا

وغادروكَ صريعاً رهـــــــنَ معركةٍ   ***   ترى النسورَ على القتلى بها عصبا

تعاهدوا ثم لم يـــــــــوفوا بما عهدوا   ***   وأسلموا للعـــــــــدو السبيَ والسلبا

يا سوءةَ القومِ إذ تُسبـــــــى نساؤهم   ***   وهم كثيــــرٌ يرونَ الخزيَ والحربا

هذه القصيدة الرائعة حقاً تُعد من عيون الشعر العربي وتستحق الدراسة والوقوف عند أحداثها وتأمل مفرداتها، ولولا أن صاحبها كان على غير رأيه لكان لها شأناً آخر.

مدحه لأمير المؤمنين

أما باقي شعره فكله في مدح أمير المؤمنين وولده (ع) ومنه قصيدته في شجاعته (ع) التي لم ير لها التاريخ مثيلاً فوصفها أبو الطفيل بقوله:

صهرُ النبــــيِّ بذاكَ اللهُ أكرمَه   ***   إذ اصطفاهُ وذاكَ الصهرُ مدّخَرُ

فقامَ بالأمرِ والتقـوى أبو حسنٍ   ***   بخ بخ هنـالكَ فضلٌ ماله خطرُ

لا يسلمُ القرنُ منــــه إن ألمَّ بهِ   ***   ولا يهــــابُ وإن أعداؤهُ كثروا

من رامَ صولتَــــه وافى منيِّتَه   ***   لا يدفعُ الثكلَ عن أعدائهِ الحذرُ

في مجلس معاوية

كان من الطبيعي أن مثل هذا الصحابي الجليل والشيعي البطل والشاعر الموالي المخلص يكون عرضة لأذى وشتم آل امية ومن والاهم ولكن لسان أبي الطفيل كسيفه في حده في الرد عليهم:

أيشتمني عمرو ومروان ضــلةً   ***   بحكم ابــــــــــن هندٍ والشقي سعيدُ

وحول ابن هند شانئون كأنـــهم   ***   إذا ما استفاضوا في الحديث قرودُ

يعضّون من غيظٍ عليَّ أكـــفهم   ***   وردّك ما لا تستطيــــــــــــع شديدُ

وفيها يعدد مثالبهم ومخازيهم وجبنهم وفرارهم يوم صفين:

ألم يبتدركم يوم صفيــــــن فتيةٌ   ***   شوامــــــــــــخةٌ شمّ المناخر صيدُ

سعيدٌ وقيسٌ والمعـــــمّر وابنه   ***   وأشتر فيهم معـــــــــــــــــلمٌ ويزيدُ

وكنتم كشاةٍ غاب عنها رعاتُها   ***   تخاف عــــــــــــليها أذؤبٌ وأسودُ

إنقاذ ابن الحنفية والتضحية

شارك أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني في الجيش الذي أرسله المختار لكسر سجن (عارم) وإنقاذ محمد بن الحنفية من أسر ابن الزبير فانتقم مصعب بن الزبير منه بنفي زوجته مع ابنه الصغير يحيى، وهذا ليس بعجيب عن آل الزبير فممارساتهم الإجرامية لا تختلف بشيء عن ممارسات بني أمية وسياستهم الجائرة بإيذاء نساء وأطفال المعارضين لهم وهم لا يد لهم ولا حول ولا قوة، فيتألم أبو الطفيل على مصير زوجته وابنه الصغير الذين لا ذنب لهما وهما يقاسيان مرارة النفي ووعورة الطريق والشمس اللافحة ويتمنى لو أن ابنه يحيى كان كبيراً يستطيع حمل السلاح فيقاتل ابن الزبير فيقول:

إن يكُ سيّــــــرَها مصــعبٌ   ***   فإني إلى مصعـــــــبٍ مذنبُ

سعرتُ عليهم مع الساعريــــــــــــــــنَ ناراً إذا خمــــــــدتْ تثقبُ

فلو أن يحيى لـــــــــــه قوةٌ   ***   فيغـــــزو مع القومِ أو يركبُ

ولكن يحيى كــــــفرخِ القطـــــــــــاةِ في الوكرِ مستضعفٌ أزغبُ

وتتوالى الأحداث الدامية في حياته المليئة بالجهاد والنضال في مجابهة الظلم الأموي ومقارعة استبدادهم فيشارك أبو الطفيل هو وابنه في ثورة مطرف بن المغيرة على الحجاج وخلعه، وروى أبو مخنف الأزدي عن مطرف بن عامر: إن أباه كان أول متكلم يومئذ وكان شاعراً خطيباً.

تهمة التشيّع لدى المؤرخين

هذه السيرة المليئة بالبطولات والتضحيات الجسام والحب لآل البيت (ع) دفع ضريبتها الشاعر في حياته وبعد مماته بسبب ولائه المحض لأمير المؤمنين وولده، أبو الطفيل الذي حمل هذا الولاء والحب لأهل البيت (ع) والذي فرضه الله على المؤمنين في القرآن الكريم فقال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)، والذي أتحف التاريخ بهذا السجل الحافل من الجهاد والتضحية في سبيل الله، لم يك جزاؤه من قبل المؤرخين الإهمال والتجاهل وطمس الحقائق في حياته وأدوارها فقط, بل تعدّاه إلى عدم الأخذ برواياته وإنكارها وكراهيتها!!

فهذا ابن حجر يروي عن المدايني قوله: قلت لجرير أكان المغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل ؟ قال: نعم !! وحين سُئل محمد بن يعقوب الأخرم: لم ترك (البخاري) حديث أبي الطفيل قال: لأنه كان يفرط في التشيع !!

الكيسانية والتناقض الفظيع

وكعادة مؤرخي الأهواء والسلطة في إلصاق التهم وكيلها بالمجان لمعارضي الحكام فلم ينج أبو الطفيل من هذه التهم، فقد ألصقوا به تهمة الكيسانية وهي التي ألصقت بكل من وقف مع المختار بن أبي عبيد الثقفي في ثورته وكان أبو الطفيل في طليعة فرسان هذه الثورة للأخذ بثأر الحسين وروي أنه كان حامل رايته في هذه الثورة وقبل أن ننقل أسماء العلماء الذين فنّدوا هذه التهمة وأوضحوا بطلانها لا بد أن نشير إلى التناقض الفظيع الذي وقع فيه من ألصق به هذه التهمة.

فقد نقموا عليه وقوفه إلى جانب المختار في ثورته ضد آل الزبير وهذا كافٍ لأن تلصق به هذه التهمة الباطلة إضافة إلى كون أبي الطفيل وقف ضد الأمويين والمروانيين مما عزز هذه التهمة لدى المؤرخين الذين لا يأبهون سوى برضى السلطة، وهذه التهمة مما تعد وصمة لدى المؤرخين ومع قولهم أن جميع الصحابة عدول وأبو الطفيل من الصحابة فقد وقعوا في تناقض كبير مما جعلهم يتخبطون في أقوالهم فهم ينكرون على الشيعة قولهم أن الصحابة ليسوا كلهم عدول. وهم قالوا بذلك ولكن شتان ما بين القولين، فالشيعة قياسهم القرآن وأهل البيت، والصحابة العدول هم من تمسك بهما منهم بعد الرسول أما هم فقياسهم السلطة ومن والاها.

وهل وجد المؤرخون في أبي الطفيل ما نقموا عليه سوى موالاته لمن أوجب الله عليه وعليهم طاعته ومحبته واتباعه فأطاع أبو الطفيل وعصوا هم, إنهم لا يستطيعون أن يعزوا سبب كراهيتهم رواية حديثه لتشيعه وحبه لأهل البيت مجاهرة فوصموه بالكيسانية والإفراط في التشيع، وكان أبرز من اتهمه بذلك من المؤرخين من عرفوا ببغضهم لأهل البيت والشيعة ولهم تاريخ حافل بالموضوعات والأراجيف كابن القيم الجوزية وابن حزم الأندلسي وابن العماد الحنبلي وغيرهم.

نفي الكيسانية

وقد نفى كيسانية أبي الطفيل الكثير من العلماء الأعلام وأوضحوا بطلانها بالحقائق والدلائل العلمية والمنطقية كأبي داود (19) والمامقاني في (20)، والعلامة الحلي (21) والشيخ عباس القمي (22) وغيرهم.

كما إن أبا الطفيل لم يكن مفرطاً ولا غالياً في التشيع كما أطلقوا عليه بل كرهوا منه رواياته التي رواها من الأحاديث الشريفة عن رسول الله (ص) التي دلت على أن الائمة بعده (ص) من ولد الحسين (ع) وآخرهم المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) كما روينا بعضها في هذا الموضوع، وسيقف هؤلاء أمام الله يوم لا ينفعهم مال السلطة وجاهها أمام جبار السماوات والأرض وينالوا جزاءهم جراء ما اقترفت أيديهم من الكذب والافتراء والبهتان.

توفي أبو الطفيل بعد حياة مليئة بالجهاد سنة (110هـ) ودفن في مكة المكرمة.

محمد طاهر الصفار

...................................................................

1 ــ كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر/ علي بن محمد بن علي الخزاز الرازي (ص97).

2 ــ أمالي الطوسي ص 607

3 ــ ج 4 ص40

4 ــ ج 30 ص 397

5 ــ ص 26

6 ــ ج 7 ص 408

7 ــ ج 1 ص 461

8 ــ الإستيعاب في معرفة الأصحاب ج 4 ص 117

9 ــ تهذيب التهذيب ج 5 ص 71

10 ــ البداية والنهاية ج 9 ص 215

11 ــ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 97

12 ــ الإمامة والسياسة ج 1 ص 214 

13 ــ الأغاني ج 15 ص 147

14 ــ كتاب سليم بن قيس ص 261

15 ــ الأغاني ج 15 ص  148

16 ــ ج 1 ص 214

17 ــ  الرجال ص 244

18 ــ الذريعة ج 1 ص 317

19 ــ  الرجال ص 285

20 ــ تنقيح المقال

21 ــ منتخب البصائر

22 ــ سفينة البحار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار