تعتمد فاعلية العمل الفني التشكيلي على العملية التواصلية التي تتفاعل فيها عوامل عديدة ومختلفة، تشكلها وتكسبها هيئة داخل السياق العام للتكوين الفني، ويكون ذلك بدءاً من الفكرة مروراً بمراحل انجاز التكوين وانتهاء بالمتلقي، وهي بذلك تحول الـلا مرئي من الأفكار والانفعالات التي يحملها الفنان الى مدركات تحتل أشكالاً ورموزاً تبعاً لطبيعة البنية الحضارية والفكرية للمجتمع الذي ينتمي اليه الفنان ومن ثم تنعكس على الأفراد.. مُشكِلة نسيجاً من العلاقات الاتصالية المنتظمة والمتداخلة بين الفنان المرسل للأفكار و المتلقي...
مما لاشك فيه ان العلاقات الاتصالية المنتظمة في مختلف المراحل التاريخية لإنتاج الاعمال الفنية تنطوي على إقرار ضمني بالدخول في مستوى جديد من الافكار لدى الفنان.. يحمل في طياته تأثيراً من نوع خاص بالمستوى نفسه على المتلقي، وذلك تبعاً لطبيعة وشكل الرسالة التي يحملها العمل الفني.. بهدف تبادل الأفكار والآراء أو المعلومات عن طريق الإشارات ودلالاتها وحركة الألوان وعناصر التكوين الأخرى التي تنتظم بشكل مدروس داخل اللوحة، فالعملية التواصلية التي تكون موجودة في اللوحة الفنية او أي تكوين فني اخر هي رسالة موجهة إلى العقل الإنساني.. وتكون خاضعة إلى نسق يحكمها، فالفن التشكيلي يتكون من مجموعة أنساق شكلية تتميز بكونها علامية يرتبط بعضها البعض بعلاقات ظاهرة وكامنة، وهذه الانساق يتحقق من خلالها الخطاب الابلاغي الذي لا يكون الا بتوافر اللوحة والمشاهد وهذا شرط في أية عملية فنية تواصلية.
لقد ميز بعض منظري الفن بين مستويين اساسيين يقوم عليهما الابلاغ الفني المتمثل باللوحة كرسالة والمجتمع كمتلق لها، وهذان المستويان كفيلان بعملية التحليل أو التوظيف السردي الدرامي لبنية وعناصر الابلاغ الذي تنطق به الاعمال الفنية أياً كان نوعه، وهذان المستويان هما المستوى الظاهري أو الصريح والمستوى الباطني.. اما المستوى الظاهري فيكون في مبدأ الالتزام الذي تأخذه الأشكال والوحدات القصصية، ففي لوحة العشاء الأخير للفنان دافنشي على سبيل المثال.. تظهر سردية التمثيل من خلال الايماءات والرموز للحواريين حول السيد المسيح على مائدة العشاء بدلالة النسق الشكلي لحركاتهم دون تكلف، مع حرص الفنان في التعبير عن نفسية كل شخص في اللوحة.. بدلالة اشارة الأيدي والوجوه لكل الحواريين ،حيث اراد الفنان فيها خلق تواصلية بين العمل الفني والمتلقي من خلال الحرص في تمثيل التفاصيل كالظلال والألوان، وفي هذا تأكيد على التوظيف السردي من خلال المستوى الظاهري(البنية السطحية للوحة) لوحدات العمل الفني.
واما فيما يخص المستوى الباطني، فهو يعد المستوى البنيوي المشترك الذي تنتظم فيه العناصر وفق أشكال مستقلة عن مظاهرها الخطابية.. فعندما تكشف الرسالة عن معنى باطن وتوحي بشيء ما خلف السمات الشكلية فهي بذلك تنحو منحى المستوى الباطني أو الداخلي البعيد عن المظهر الخارجي، حيث يعمد الفنان هنا على توظيف الشكل والأحداث في موضوعاته لإيصال معنى فكري من خلال نظم العلاقات الشكلية بدلالة عنصر اللون الذي يُفعل في وظيفة الابلاغ، وهذا المعنى الفكري قد يظهر من خلال تجسيد العوالم النفسية الذاتية كالألم او الحزن بظواهره المختلفة، وادخاله عالم الادراك الشكلي المؤلف من الألوان والأشكال أو بنوع من التمثيل الدرامي الصامت الذي يبثه خطاب اللوحة التشكيلية.
إن التواصل في العمل الفني ما هو الا نقل فعال للمعنى والابلاغ بشيء ما.. وينبغي أن يجمع طرفي التواصل مجال خطابي واحد، ويجب أن تكون هناك فكرة هي التي تشكل موضوعهما المشترك، فالعلامات الواردة في العمل التشكيلي كرسالة تعد عوامل مساعدة على فهمه واستيعابه ومن ثم تداوله.. وهذه الرسالة التي يحملها العمل الفني تتمتع بعلاقة وثيقة بين المعنى والتواصل، فتكون الرسالة أو(النص) أداة لنقل الابلاغ للمتلقي، وتقوم العملية التواصلية عادة على خلق التوازن بين كلاً من بنية الرسالة المتلقاة والرسالة المبثوثة ، إذ إن جميع عناصر العمل الفني تمتلك قيمة تواصلية في ايصال الرسالة للمتلقي.. وتتمثل عادة في المجال التشكيلي بالخطوط والألوان والمساحات والتكوين العام للوحة.. فهي تكون بحد ذاتها مادة تعني شيئاً ما و تبغي ايصاله وابلاغه للمتلقي، فالعمل الفني فضلاً عن أنه ذو وظيفة جمالية فأنه يمتلك وظيفة أخرى وهي التواصلية والتي تظهر واضحة في الفنون المختلفة كالأدب والرسم والنحت ولا تظهر في بعضها الآخر .
آلية الابلاغ الفني..
يعمل المرسل ( الفنان ) على تشفير موضوع رسالته في لغة علامية بصرية وبدراية تامة.. بهدف تحقيق فعل تواصلي مع المتلقي، الذي يتسلم بدوره الرسالة معتمداً على الأدراك والإحاطة بالعلامات الموجودة داخل اللوحة لكونها ظواهر مادية مدركة بالحواس، ويتحقق هدف الابلاغ في هذه الحالة على درجات بالنسبة للمتلقي تبعاً لخلفيته الثقافية والفنية ومدى مقدرته على التخيل و استنطاق المعنى المغيب داخل السياق الدلالي الذي يشير اليه النص المخبئ في اللوحة إذ انها أطلقت لإيصال رسالة ما للمشاهد.
وقد تميز الابلاغ الفني في تيارات الفن الحديثة بكونه دينامياً ومرناً، بدلالة اعتماده على العلاقات بين العناصر الشكلية، فلو ميزنا الأعمال التكعيبية مثلاً لوجدنا ان هدفها الاساس هو تحويل العلاقات بين المشير والمشار اليه والإشارة، حيث يدفع الاسلوب الفني للمدرسة التكعيبية وبعض المدارس الفنية الحديثة الى تأجيل التعرف على الموضوع المحول والمخفي عن المتلقي إلى حدود طمس معالمه، إذ يصعب تمييز الملامح الأساسية للشخصيات المرسومة فيها.. وبعد أن جرت العادة على اعتبار الشكل نوعاً من الأنظمة الزخرفية التي تقدم قيمة جمالية، أصبحت تلك الاشكال واللوحات وعاءً يصب فيه الابلاغ وقادراً على استقبال تصورات بصرية عدة، أي أنه ذو وظيفة ويمكن الإحساس بالمظهر الشكلي من خلال بنية التركيب للوحدات المؤلفة منها، وقد تبنى بعض رسامي الحداثة مبدأ الاستعارة والكناية لوحدات العمل الفني، فقوانين التراكيب الشكلية تمتاز بالمرونة بما يجعلها قادرة على الابلاغ عن الفعل، فيعدون العمل الفني مجموعة إشارات تسعى للكشف عن معلومات بصرية في عمل فني واحد.
أن الابلاغ لا يمكن معرفته دون أن يرد ضمن نسق معين، إذ لا بد من أدراك العمل الفني ذاته وليس سعياً وراء شيء خارج عنه، ويمكن فهم التغيير في التأويل والخطاب التشكيلي والخروج عن المألوف في الاتجاه الواقعي الذي يحاكي المرئيات إلى الرومانسية التي تفعل الشكل بدلالة ذات الفنان وشعوره الخاص، مروراً بالرمزية التي تحيل الشكل إلى دلالة فكرية بعد أن تغطي على ايقونته وتغطيه مثل الإشارة إلى شيء ما تبعاً لمحتواه وهذا لا يحدث الا ضمن سياق محدد كما الحال في بعض الفنون الزخرفية الاسلامية وانساقها الفنية التي تدور حول محور المرجعيات الفكرية التي انبثق منها الفن الاسلامي في التوحيد ومركزية الله جل وعلا.. وحسب هذا الرأي تقع الواقعية في أدنى مراتب الاستعارة كونها تحمل معاني كثيرة منقولة مباشرة، و أن الفن الرمزي يحمل معاني كثيرة تختلف باختلاف أماكنها وزمنها وتحمل أكثر من معنى لدى المتلقي.. هنا تجدر الاشارة إلى أن معظم فنون الحضارات القديمة كانت تنحو منحى الفن الرمزي في الصياغات الشكلية لمختلف الموضوعات، وهذا يدل على أن الفنان المرسل الباث كان يعيش في مرحلة متقدمة فنياً وثقافياً لكونه يستخدم الرموز والدلالات وبانساق متنوعة تتناغم وافكار المتلقي.
* اللوحة للفنان التشكيلي العراقي طلال عبد الله بعنوان (وادي النجف).
اعداد: سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق