لغة القصب..

اكد الفنان ليوناردو دافنشي في احدى دراساته ان أي فنان واقعي عليه النظر الى المشهد الذي يعترضه بتأمل ودراية، فزاوية النظر سواء كانت لشجرة ما او زقاق او شخص جالس او غيرها من الاشكال الطبيعية المنظورة.. ما هي الا صورة فوتوغرافية ترصدها وتلتقطها العين من الوضع الثابت لها لحظة ادراك المشهد الطبيعي المتمثل امامها.

ولا شك هنا ان مدركات الفنان التي يسقطها على سطح اللوحة المستوي تنتقل من هذه الزاوية ـ زاوية الالتقاط الافتراضية للعين – الى زاوية اخرى لتمثل وجهة نظره الفردية التي تحدده باطار وتسقطه في هذا المنظور، الذي يعتبر المعيار الاهم لتمثيل الشكل والفضاء عند الفنان الواقعي والانطباعي على حد سواء اثناء محاكاتهما لا شكال الطبيعة والبيئة التي يعيشون فيها.. عدا التكعيبيون الذين خالفوا ذلك حيث استطاعوا جمع اكثر من زاوية نظر على سطح اللوحة الواحدة اضافة الى محاولتهم تحوير الاشكال المستقاة من البيئة المعاشة وحسب اهواءهم.

ان تحويرات البيئة وفق هوى بعض الفنانين جاءت كإضافة فنية لمنجزاتهم الابداعية.. كما انها مناجاة لطبيعة ما او لبيئة عالقة في ذهن الفنان منذ طفولته وهذا ما يخلص اليه الفن التشكيلي العراقي فهو زاخر بموضوعة البيئية المحلية التي تجد حضوتها في ذلك من خلال توزيعها بين الفن الواقعي والانطباعي والتعبيري والتجريدي، بيد ان الفنان العراقي قديما وحديثا لم يكف عن مزاولة البحث في حركة الثابت في البيئة وتحريكه بأسلوبه الذي يختلف فيه عن الآخر من الفنانين.

اذ ان البيئة العراقية التي يمثلها الفنان في لوحاته مليئة بالحياة وهي وان كانت نقلا لما هو متمثل في الطبيعة العراقية برمالها الذهبية وجبالها الحمراء وانهارها ونخيلها واهوارها... الا ان الفنان يضيف اليها الموروث الشعبي بالتقاطات ذكية تتمثل بالأجواء الريفية وليالي الازقة القديمة ومشاحيف الاهوار وقصبها والوانها الضاجة بالواقعية.

لقد تمكن الفنان العراقي من اعادة صياغة الاشكال الواقعية بأساليب وتقنيات جديدة.. وكما هو معروف فقد وصفت بالواقعية اغلب التيارات الفنية التي تناولت الاشكال الواقعية او تاثرت بها

وأضافت عليها وشكلتها بصيغ واشكال جديدة مكتشفة، ولكن هذه الواقعية لم تقتصر على تمثيل الواقع كما هو.. بل اخذت منه بعض جوانبه او مظهراً من مظاهره وجعلته يكتسب مدلولا جديدا في اللوحة.. وفي هذه الحالة يصبح من الضروري ايجاد صيغ جديدة للفن واشكاله المستقاة من الواقع.. وهو ما نجده في كثير من التكوينات الابداعية العراقية.

اللوحة اعلاه من التكوينات الابداعية للفنان التشكيلي العراقي طلال عبد الله، وقد جسد فيها مشهدا نهاريا من اهوار مدينة الناصرية جنوب العراق..  وهي محاولة أخرى لتدوين مساحات واسعة من حياة المجتمع العراقي، عن طريق رسم ملامح البيئة المحلية للمدن والأشياء والوجوه والشخصيات العراقية والتي لجأ إليها كغيره من التشكيليين العراقيين ليطلعنا على ورؤيته الفنية وتجربته ومهارته في انتقاء المعنى الحسي وأثراء أعماله الفنية المفعمة بالأبعاد الإنسانية والجمالية .

أتصفت تجربة الفنان طلال عبد الله الابداعية بتأثره وتعلقه ببيئته العراقية الجميلة من جنوب الوطن حيث مولده ونشأته في مدينة الناصرية حتى شماله.. واضاف الى ذلك الابداع ابداعاً بعد تأثره بالفنانين العراقيين الذين تتلمذ على أيديهم في مراحل دراسته للفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة . 

الموضوع الماثلة عناصره في اللوحة يسحب المشاهد نحو بيئة الاهوار الرائعة في جنوب العراق، من خلال تلك السمات التي تميز بها البناء الشكلي للمشحوف وبيوت القصب العائمة فوق الماء، مع المحافظة على خصوصية اجواء اللوحة الجنوبية  كدلالة على هوية العلامة التي تتمثلها هذه الاشكال، فضلا عن صياغتها التي ارتكزت على امكانية تقنية واسلوبية في نفس الوقت كي تبدا هذه الاشكال بألوانها الجميلة واجوائها بالولوج في نفس المتلقي من حيث لا يدري وتدفعه الى ان يشم نسيم اهوارنا الحبيبة ويتذوق جمالها الاخاذ.

تحيلنا اجواء اللوحة واقرانها من اعمال الفنان طلال الإبداعية الى دخول عالم الاحساس والحنين الكامن في ذاته.. فيجعلنا نقف امام عالمه الفني الخاص رغم القراءة الواقعية الغالبة على اعماله، فيدفعنا للتحرر من قيود الواقع الاليم الذي عاشه العراق في فترة ما، من خلال خلق مكان فني من صنعه من الناحية التقنية سواء في بنائية الاشكال ودقة تنفيذها او بنائية الوانها، فاللون هو العنصر المكمل الذي تشكلت وفقه تركيبة الصياغة الاسلوبية في تجربة طلال عبد الله الفنية بصورة عامة، وهذا لا يشمل لوحاته فحسب بل يمتد الى نشاطه الابداعي في تكويناته الفنية الاخرى في مجال النحت والسيراميك.. فهي بمجملها خليط من الذات والموضوع ومزج بين الواقع والمجرد في محاولة تعبيرية ناجحة تعكس احساسه ببيئته العراقية.

 هذه التركيبة الفنية التي جاء بها الفنان من خلال اعماله لا شك انها تضيف الى النسق الفني العام الذي يحكم تشكيل الصياغة الجمالية في حركة الفن في العراق ولا شك ايضاً انها جاءت تأكيدا للتجربة الجمالية العراقية القائمة على مبدا التراث والحداثة.. فهي محاولة لإبداع صياغات بصرية لها القدرة على التفرد الاسلوبي من خلال خلق المناخات التي تعكس البيئة الاجتماعية من وجهة نظر فنية وفق رؤية الفنان.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات