من يقرأ تاريخ الانبياء "عليهم السلام" لا يدخل اليأس إلى قلبه

كانت قصة النبي نوح "عليه السلام" مثالاً قرآنياً، فقد مكث في قومه ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾[1] حيث استنفد النبي نوح كلّ ما يملك من أساليب الإقناع، من دون أن ييأس، اذ امتدت دعوته عبر مئات السنين تتنوّع وتتشكّل وتتلوّن بكل ألالوان والصور. حتى  جاءت النهاية بعد أن ذاب أمام التجارب التي لا تدخل في نطاق العدّ والحصر، فوقف النبي نوح ليدعو الله "عزوجل" وكأنَّه يقدّم حسابه لله، ويعرض تقريره في ما عمل وفي ما قدَّم من تجارب الى الله تعالى، كما اشار القرآن الكريم الى ذلك ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَار* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾[2] .

اضف الى ذلك ، ان جهود الانبياء في حلقات متّصلة، لا تنتهي عند نبيّ من انبياء الله،  إلا ليبدأها نبيّ آخر بدعوة العباد إلى التوحيد والايمان والعبودية لله "عزوجل"  بكل الوسائل والأساليب؛ حتى يظهر أمر الله وينتشر، وأصبح دين الله قوّة تحكم الحياة[3] ونِظامه الذي ارتَضاه لعباده، وأَوحى إلى أنبيائه "عليهم السلام" بتبليغه للناس قال تعالى ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[4] .

بالإضافة الى ذلك، ان التجربة النبويّة على يد النبي الاعظم محمد "صلى الله عليه واله" كانت نهاية، ومتمثلة بالإسلام الذي ارتضاه الله لخَلقِه، فهو رسالة الأنبياء والمُرسَلين، وهو نهج الأولياء والصالِحين "عليهم السلام"، ولذلك كانت حياته سلسلة تجارب مريرة لم يقف فيها لحظة واحدة. وكانت سيرته وهو في مكّة مثلاً من أروع الأمثلة على الإصرار على الحقّ والصمود أمام عوامل الفشل والإخفاق، وكانت تجاربه تتلون وتتنوّع، حسب تنوّع الأشخاص والأوضاع، وقد انتهى به الإصرار على التجربة في أداء الرسالة والدعوة إلى الإيمان، أنَّه كان يدعو المشركين إلى أن يسمعوا القرآن فحسب، دون أن يكلّفهم مهمّة الإيمان في البداية.﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾[5]

وبناء على ذلك، نجحت التجربة، وانتصر الصمود، وانطلقت دعوة الله في أرجاء المعمورة حيّةً قويّةً، وانقذت الإنسان من ظلمات الجهل والتخلُّف والانهيار الأخلاقي والقِيَمي، التي سادَت العالم قبل الإسلام بعدة عُقود. بالإضافة الى انفِتاحِها على شُعوب الأرض جميعًا، لا تُفرِّق بين لَون و جنْس وحتى دِين، وكان فيها مِن الخَصائص المميَّزة ما أهَّلها لأن تحتلّ مكان الرِّيادة في العالم[6] .

وعليه ان الإيمان بالله "عزوجل" يعد من أقوى العوامل التي تساعد الإنسان على الاستمرار في التجربة حتى نهاية المطاف، لأنَّه يفتح له أبواب الأمل والتفاؤل في كلّ تجربة ، كنتيجة طبيعية للعقيدة الإلهية التي توحي للإنسان أنّ بعد العسر يسراً ، وأنَّ الله "عزوجل" قادر على أن يغيِّر الأمور من حال إلى حال، وأنّ على المؤمنين أن لا يقنطوا من رحمة الله ولا ييأسوا من روحه، فقال الله تعالى ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[7] .

وترتب على ذلك ان العقيدة تساهم بشكل كبير في فتح أبواب الأمل أمام العاملين، حتى تساعدهم من الناحية النفسية والفكرية على أن يعاودوا التجربة من جديد كلّما أخفقت، حتى يأتي النصر من عند الله "عزوجل" كما اكد في قوله ﴿ إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم﴾[8]

نستنتج من ذلك، ان تاريخ انبياء الله "عليهم السلام" مخزنًا هائلًا من المعلومات حول كيفية حركة الانبياء "عليهم السلام" تجاه مجتمعاتهم التي تعتبر من أصعب مجالات الدراسة والتأمل فيها وأخذ العبر .  وان الغرض الأساسي من دراسة التجارب هو موقف الباحث الذي يحاول أن يستفيد من خبرات الآخرين وتجاربهم، ولكن بحذر ودقّة، لئلا يقع في بعض الالتباسات التي قد تبعده عن هدفه .

جعفر رمضان

[1] سورة العنكبوت، الآية 14.

[2] سورة نوح، الآية 5-10

[3] محمد عمارة، هل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف؟،(القاهرة : دار الشروق، 1998)،ص7 -20.

[4] سورة الشورى ، الآية 13.

[5] سورة فصلت ، الآية 33

[6] راغب السرجاني، ماذا قدَّم المسلمون للعالم" اسهامات المسلمين في الحضارة الانسانية،(القاهرة: مؤسسه اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة،2009) ، ص 50.

[7] سورة يوسف ،الآية 87

[8] سورة محمد ، ص7.

المرفقات