(اَللّهُمَّ اجعَلني فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ، وَاجعَلني فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ، وَاجعَلني فيهِ مِن اَوْليائِكَ المُقَرَّبينَ، بِرَأفَتِكَ يا اَرحَمَ الرّاحمينَ(
الاستغفار
تارة ينظر له كمنزلة من منازل القرب الالهي، وتارة أخرى كذكر له آثار في الواقع الخارجي لحياة الإنسان حتى وإن لم يصدر منه ذنب، وأخرى كذكر له ضوابط في محو الذنوب وبعض آثارها.
الاستغفار قرب آلهي
أما الاستغفار كمنزلة قرب آلهي فقد دلت عليه الكثير من الآيات الكريمة، نذكر بعضاً منه، قال تعالى (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[ الحديد -21]، و (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[ آل عمران -133]، فالاستغفار هنا منزلة يتسابق ويتسارع إليها المؤمنون كما يتسابقون ويتسارعون إلى الجنة؛ لأن المؤمن ليس همه نتائج أعماله في الوصول إلى الجنة فقط، بل أن المؤمن الحقيقي غايته الأولى هو نيل القرب الآلهي ونيل المغفرة والرضوان، لذا قدموا المغفرة على الجنة.
ومنها قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)[آل عمران – ١7]، هذه كلها منازل قرب آلهي وقد ذكر منها الاستغفار، ومنها: (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء – 96]، فهنا جعلت المغفرة في قبال الدرجات والرحمة، وقوله تعالى : (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)[يس – 27]، وهنا قد جعل بالمغفرة وصول إلى رتبة المكرمين، وقوله تعالى (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)[ ص – 35]، وفي هذه الآية الكريمة قد جعل ملك الدنيا في قبال الاستغفار الذي هو قرب الحياة الأخرى.
الاستغفار حصن المؤمن وسنده
البعض يتصور أن الاستغفار هو فقط عند صدور الذنب من العبد، وهذا ليس بصحيح لأن الاستغفار بحد ذاته ذكرٌ له أثر على حياة الإنسان بل حتى على مجتمعه، قال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[ الأنفال – 33]، وهنا ليس كلامنا حول الشق الأول من الآية الكريمة ففيه كلام طويل، أما عن الشق الثاني فقد جعل الاستغفار في قبال وجود النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في تشكيل المانع من نزول العذاب.
وغيرها من الأعمال والأذكار التي يقوم بها الإنسان يكون لها أثر في حياته، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام (من قال كل يوم أربع مائة مرة مدة شهرين متتابعين رزق كنزا من علم أو كنزا من مال و هو :
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم بديع السماوات و الأرض من جميع جرمي و ظلمي و إسرافي على نفسي و أتوب ليه)[بحار الأنوار ج84 ص 20] فهذا الذكر ليس مشروطاً بحصول الذنب من العبد والاستغفار منه، بل هو ذكر من أتى به حصل على النتيجة المذكورة.
وغيرها من موارد أذكار وأوراد الاستغفار التي مُلأت بها كتب الأدعية والحديث التي ينبغي للمؤمن الاطلاع عليها والاتيان بها او ببعضها.
استغفار التوبة
الاستغفار هنا سيكون له ضوابط وشروط لتحقق آثاره ونتائجه، (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[ المائدة -74]، ويختصر لنا الإمام علي عليه السلام تلك الشروط والضوابط بقوله لقائل، قال بحضرته استغفر الله: (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقع على ستة معان:
أوّلها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عزّ وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السُحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أنْ تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول استغفر الله.)[نهج البلاغة – الحكم – 414] ، قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)[ النساء -110].
فبعد معرفة أبعاد الاستغفار وأثره في القرب الآلهي والحياة الشخصية والاجتماعية للإنسان وكذلك أثره في محو ذنوبه، ينبغي على المؤمن أن يسعى حثيثاً ليحصل على تلك الألطاف والفيوضات الربانية وخصوصاً في شهر الخير والرحمة والمغفرة.
ولكن الذي يظهر من المقطع الثاني من الدعاء التركيز على جانب مقام المستغفرين لأنه سيذكر مقامين آخرين هما مقام الصالحين ومقام القانتين، ولكن في الحقيقة والواقع أن مقام المستغفرين لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال القسمين الآخرين للاستغفار، فاستغفار التوبة هو تخلية العبد من الذنوب والمعاصي التي تحجب العبد وتمنعه من القرب الآلهي، وكذلك بعد التخلية لا بد للعبد من التحلي بالأعمال الصالحة الموصلة والمقربة إلى الله تعالى، فلا بد من تحقق المجموع بما هو مجموع للوصول إلى ذلك المقام.
(وَاجعَلني فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ)
مقام الصالحين القانتين
هذا المقام هو يعد من أعلى المقامات التي توصل العبد من القرب الآلهي، فقد جاءت في صفات الأنبياء والأولياء؛ بل أكثر من ذلك، فقد كان الأنبياء يطلبون ذلك المقام في أدعيتهم، كقول النبي سليمان : ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾[النمل – 19]، وكذلك قول نبي الله إبراهيم : ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾[الشعراء – 38]، وأيضاً قول الصديق يوسف : ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾[يوسف – 101]، فجميعهم عليهم السلام كانوا يطلبون الوصول إلى مقام الصالحين رغم أنهم أنبياء الله معصومون من الزلل والخطأ.
والذي يظهر من نصوص أهل البيت عليهم السلام أن مقام الصالحين هو مقام أهل البيت عليهم السلام، وبما أنهم أكمل وأفضل المخلوقات يطلب الأنبياء الوصول إلى ذلك المقام الذي وصل إليه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام.
فقد ورد من طرق العامة عن القندوزي في ينابيعه (أبو نعيم الحافظ والثعلبي: أخرجا بسنديهما عن أسماء بنت عميس قالت:
لما نزل قوله تعالى: (وإن تظاهر عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)[التحريم – 4]. قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي:
ألا أبشرك إنك قرنت بجبرئيل، ثم قرأ هذه الآية. فقال: فأنت والمؤمنون من أهل بيتك الصالحون) [ينابيع المودة ج1 ص278].
وأيضاً ذكر السيد المرعشي نقلاً عن العامة في زواج السيدة الزهراء من الإمام علي عليه السلام (...وقد أصبت لك خير أهلي، والذي نفسي بيده لقد زوجتك سيداً في الدنيا وفي الآخرة لمن المصلحين...) [شرح احقاق الحق ج25 ص393].
فيدل ما مضى على أن أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب مقام الصالحين، وأن الأنبياء والأولياء يطلبون الوصول إلى ذلك المقام الرفيع، وكذلك المؤمنون يطلبون الحصول على ذلك المقام اقتداءً بأئمتهم صلوات الله عليهم أجمعين.
(وَاجعَلني فيهِ مِن اَوْليائِكَ المُقَرَّبينَ)
ومما يؤكد ويؤيد كلامنا في السابق في أن المستغفرين والصالحين والقانتين هي مقامات للقرب الآلهي هو هذا المقطع من الدعاء، وكأن الدعاء جاء على شكل سلسلة، فبالاستغفار وصفة المستغفرين تصل إلى مقام الصالحين القانتين وبهذا المقام تصل وتحقق القرب الآلهي بأن تكون ولياً من أوليائه المقربين.
(بِرَأفَتِكَ يا اَرحَمَ الرّاحمينَ)
فالخلاصة:
أن الاستغفار منزلة عظيمة تقرب العبد من سيده ولكن بشرط أن يكون قد تخلى بالاستغفار عن ذنوبه، وتحلى بالاستغفار بالفضائل والاعمال الصالحة. أن المستغفرين والصالحين والقانتين مقامات للقرب الآلهي. أن مقام الصالحين هو من المقامات الرفيعة لأهل البيت عليهم السلام التي يطلبها ويسعى للوصول الأنبياء والأولياء والمؤمنون. أن تلك المقامات سلسلة مترابطة للوصول إلى القرب الآلهي.
إبراهيم السنجري
مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي
اترك تعليق