تأمُل في دعاء اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ قَوِّني فيهِ عَلى اِقامَةِ اَمرِكَ، وَاَذِقني فيهِ حَلاوَةِ ذِكْرِكَ، وَاَوْزِعْني فيهِ لِأداءِ شُكْرِكَ بِكَرَمِكَ، وَاحْفَظْني فيهِ بِحِفظِكَ و َسَتْرِكَ يا اَبصَرَ النّاظِرين(

 

إقامة أمر الله

(الإقامة) كثيراً ما وردت في القرآن الكريم ويكون متعلقها الصلاة والزكاة، لكن في آية واحدة جاءت بمتعلق أوسع وهو الدين (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى-١٣]، وواضح أن لفظ الإقامة ليس كلفظ الطاعة بمعنى الامتثال فقط؛ بل يكون أوسع وأشمل، وقد ذكرت بعض كتب اللغة أن معناها اتيان الشيء بالصورة الكاملة، ولكن الذي يظهر من خلال استعمالها مع غير الصلاة أن المعنى أوسع من ذلك، فالظاهر أن المعنى هو الامتثال بالصورة الكاملة المطلوبة والاستمرار والمحافظة عليها وعلى وجودها الخارجي، فيكون معنى أقيموا الدين هو الاتيان به كاملاً والمحافظة على ظهوره ووجوده كمنظومة دينية، ومما يعزز هذا المعنى هو وروده في أغلب زيارات المعصومين عليهم السلام،  (اَشْهَدُ اَنَّكَ قَدْ اَقَمْتَ الصَّلاةَ) فهل المعنى هنا أو تأدية الصلاة؟ فهذا مما  ينكره لا مسلم جاهل فكيف بغيره! فحتماً المراد هنا هو أن المعصوم عليه السلام قد جاء بالصلاة على وجه التمام وحافظ على ظهورها ووجودها بين المسلمين؛ لأن من تقمصوا الخلافة الدينية آنذاك كان همهم هو هدم أهم المظاهر الإسلامية، كما صرح بذلك زعيم بني أمية (...وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول الله! فأي عمل لي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله إلا دفنا دفنا)[جواهر التاريخ ج2 ص263] فكان هم تلك القيادات التي تعدت على سلطة التشريع الإسلامي هو دثر مظاهر الدين الإسلامي.

وأما معنى (الأمر) هنا ففيه احتمالان، الأول ما يكون جمعه أمور، فتقول لزيد كيف أمور الرعية؟ أي تسأل عن أحوالهم، والثاني جمعه أوامر، أي طلب فعل الشيء من العالي إلى الداني، فتقول لزيد أن الحاكم يأمرك بفعل كذا.

لكن في هذا الدعاء وإن كان كلاهما صحيح، لكن المعنى الأول أشمل وأدق، لأنه يكون شاملاً للأوامر وغيرها من الأمور المطلوب تحقيقها وإيجادها وظهورها.

وينبغي بالمؤمن أن لا يستهين بإقامة أمور الله عز وجل التي كلها تصب في مصلحة العباد، وعليه أيضاً أن يشدّ عزمه على ذلك لأنها تحتاج إلى قوة وارتكاز، وأيضاً يلزم المعرفة والإحاطة بالأمر قبل القيام بإقامته حتى لا تكون النتائج عكسية أو سلبية، فبعضها يحتاج إلى تخطيط وعمل متواصل وأيام طويلة، وبعضها الآخر يحتاج إلى جماعة تقوم معه بالأمر، كما كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام في انقلاب الأمة من بعده وكيف سيقوم الإمام بإقامة الخلافة الربانية الحقة (يا عليّ! إنّك ستلقى بعدي من قريش شدّة من تظاهرهم عليك وظلمهم لك، فإن وجدت أعواناً عليهم فجاهدهم، وقاتل من خالفك  بمن وافقك، فإن لم تجد أعواناً. فأصبر وكفّ يدك، ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أُسوة حسنة؛ أنّه قال لأخيه موسى: (( إِنَّ القَومَ استَضعَفُونِي وَكَادُوا يَقتُلُونَنِي ))[كتاب سُليم ص 134](الأعراف :150)  وفي موضع آخر قال عليه السلام : (لو وجدت أعواناً أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار من أهل السابقة لناهضت هذا الرجل)[كتاب سُليم 302]، هكذا ينبغي على المؤمن أن يكون على دراية وإحاطة ودراسة لتحركاته في نصرة الدين الإسلامي.

 

حلاوة ذكر الله

(وَاَذِقني فيهِ حَلاوَةِ ذِكْرِكَ)، كثيراً ما يستعمل الخالق معَنا تشبيه المعقول بالمحسوس، لقصور أذهاننا عن بلوغ بعض المفاهيم العقلية، ففي عالمنا المحسوس عندما نقوم بأكل فاكهة قد جردت من طعمها الخاص، نحس بفقدان مذاقها بل لا نعتبر أنفسنا لم نأكل فاكهة أصلاً؛ لمجرد فقدان الطعم، وكثير من الاحيان عندما يقوم البعض بأكل شيء قد فقد طعمه، يقول كأني آكل خشباً، فهذا في عالم المحسوسات، أما في عالم المعقولات فأيضاً كذلك، فأحياناً تستمع لقارئ قرآن وتقول أن تلاوته تجعل مني البدن مقشعراً، لأنه يقرأ بإحساس مع الآيات الكريمة، وهكذا عندما تذكر الله عز وجل بصدق وتوجه ومعرفة تحس بطعم ولذة في ذكرك تجعل روحك تعرج إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادة والذنوب، وحينها تشعر أنك حقاً قد ذكرت الله وأنك تكلمه حقيقة، وتحس بقرب اللطف الآلهي، وكأن لا شيء في هذا العالم سواك أنت والخالق، وعندما يتجرد الذكر من تلك الحلاوة فسيكون مجرد لقلقة لسان لا أثر له على عقله وقلبه وروحه، فيحس المؤمن بالنقص وأنه فاقد لشيء عظيم، وأنه كالتائه، قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[طه-124] والضنك هو الضيق.

 

 

شكر الله

(وَاَوْزِعْني فيهِ لِأداءِ شُكْرِكَ بِكَرَمِكَ)، (أوزعني) كما في المعجم الرائد، يقال : أُوزِعَ فلانٌ بالشيءِ وَزُعاً : أَي أُغِرِيَ به وأُولِعَ فاعتاده وأَكثر منه، وللشكر فضل وفوائد عظيمة، فبالشكر تدوم النعم، قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[ابراهيم-7]، وحتى لو لم يرد نص شرعي على فضل الشكر وثوابه، فحري بالإنسان أن يشكر صاحب النعمة الكبرى عليه، بل نرى أكثر من ذلك في أن العقلاء يذمون من لا يشكر من أُسدي إليه نعمة كبيرة من شخص عادي، كما إذا قام الطبيب بإنجاح عملية جراحية خطيرة، فيذمون المريض أو ذويه إن لم يقوموا بشكر الطبيب بالوجه المطلوب، فكيف بمن أوجدنا ووهبنا الحياة وسخر لنا كل هذه النعم، وفي الواقع نحن عاجزون عن حقيقة شكر الله عز وجل، لأن حتى هذا الشكر الذي نؤديه هو بفضل الله ونعمه، وإلى ذلك يشير مقطع هذا الدعاء فيه قوله (شكرك بكرمك) أي يا آلهي أجعلني معتاداً ومكثراً من شكرك، ولكن شكري هذا لا يكون لولا كرمك علي.

 

فالخلاصة:

ينبغي على المؤمن أن يعمل جاهداً في إظهار أمر الله عز وجل، وأقامته على الوجه المطلوب وفق دراية وإحاطة ودراسة من جميع الجوانب والأبعاد. أن الشخص الذي يريد أن يحصل على فوائد ذكر الله عز وجل عليه أن يستشعر حلاوة ذكر الله بصفاء قلبه وصدقه وحسن معرفته. أن المؤمن الحقيقي هو الذي يشكر الله كثيراً مع علمه بأنه عاجز عن الشكر الحقيقي لله عز وجل.

 

(وَاحْفَظْني فيهِ بِحِفظِكَ و َسَتْرِكَ يا اَبصَرَ النّاظِرين)

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

المرفقات