تأمُل في دعاء اليوم الثالث من شهر رمضان المبارك

(اَللّهُمَّ ارْزُقني فيهِ الذِّهنَ وَالتَّنْبيهِ ، وَ باعِدْني فيهِ مِنَ السَّفاهَةِ وَالتَّمْويهِ ، وَ اجْعَل لي نَصيباً مِن كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُ فيهِ ، بِجودِكَ يا اَجوَدَ الأجْوَدينَ)

قال تعالى (ولقد كرمنا بني آدم)، بماذا كرموا؟ ولماذا كرموا؟ لماذا الإنسان امتاز عن غيره من المخلوقات؟ لماذا خلق وخلقت لأجله باقي المخلوقات؟ هل لمجرد أنه كائن حي؟

يذكر علماء المعقول مستويات العلم التي يشترك بها الإنسان مع بعض المخلوقات، فالأول هو العلمي الحسي، أي بواسطة الحواس الخمسة، فهذا المستوى هو أساس العلم، ولعل بعض المخلوقات غير الإنسان لديها قوة في بعض حواسها تفوق قوة حاسة الإنسان.

أما الثاني هو العلم الخيالي وهو المستوى الذي يلي العلم الحسي، فيقوم الإنسان كغيره من بعض المخلوقات بتأليف الصور التي قد شاهدها والأصوات التي سمعها، ينسب بعضها إلى بعض، ويقيس بعضها مع بعض، هكذا حتى يقوم بتشكيل معلومات قد لا يكون لها واقع في الخارج.

والثالث هو العلم الوهمي، فيبدأ بقوة الوهم من ادراك المفاهيم الجزئية، كحب الأبوين، والخوف من الخطر، والفرح.

أما المستوى الذي افترق فيه الانسان عن غيره من المخلوقات التي تمتلك المستويات السابقة أو بعضها، هو قوة العقل والإدراك الكلي، فبه يدير المستويات الثلاث السابقة، ويبدأ يبحث ويستنتج ويحكم ما شاءت له قدراته العقلية والفكرية.

نعم بهذا كُرم الإنسان، وتميز عن غيره من المخلوقات، وأوجدت من أجله الكثير من المخلوقات، إذن (وكرمنا بني آدم) بالعقل.

لكن كثير من الناس قد أهملت هذه الكرامة، وعطلت عقولها، وآخرون قد وظفوا عقولهم بشكل سلبي.

ويذكر لنا الإمام علي عليه السلام رواية جميلة جداً، والمتمعن بها يدرك أبعادها المعرفية، قال عليه السلام : (هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: إني قد اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج).

 

الاستعمال الصحيح للعقل

الذي يهمنا في جانب العقل كمؤمنين هو استخدامه في المجال الصحيح وبالطريقة الصحيحة، فالطريقة الأولية لعقل الإنسان في التفكير هي أنه يواجه بعقله  المشكلة، ثم معرفة نوعها، ثم الانتقال بها إلى المعلومات المخزونة عنده، ثم التنقل بين المعلومات المخزونة عنده لإيجاد ما يناسب لحلها، ثم الانتقال بالمعلومة التي استحصلها الى المشكلة التي يوجهها، قد لا تتجاوز عملية التنقل هذه الثواني، بل قد لا ينتبه أكثرنا إليها.

فالانتقال المهم في حركة العقل هو في المعلومات المخزونة وعمليات البحث والاستنتاج، فدعائنا (اللهم ارزقني فيه الذهن والتنبيه) فالذهن هو الفطنة والذكاء والفهم، وبعبارة أخرى أن أستخدم عقلي استخداماً صحيحاً، وأما (التنبيه) فمعناه الإنذار والإعلام، فيحتمل في معنى التنبيه أمران، الأول تنبيه الخالق للعبد، الثاني تنبيه العبد لغيره، وكلاهما صحيح.

 

(وَ باعِدْني فيهِ مِنَ السَّفاهَةِ وَالتَّمْويهِ)

السفاهة

هي رداءة الأخلاق وقلة الأدب والطيش والجهل، ولا يوجد ذو عقل يستحسن السفاهة، لأنها تشينه، وقد ذمتها الكثير من الآيات والروايات الشريفة، منها قوله تعالى (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء-5]، ومنها ما جاء في غرر الحكم عن الإمام علي عليه السلام: "سلاح الجهل السفه" ، "السفه يجلب الشر" ، "كفى بالسفه عارا".

فالجاهل تخافه الناس لسفاهته، لأن السفيه لا يستحي من فعل أي شيء، فالكذب والتهمة والافتراء والسباب والكلام الفاحش لا يمتنع عنها السفيه إذا واجهه أحد.

ومما يؤسف عليه في يومنا هذا مع التطور التكنلوجي والعلمي الحاصل، إلا إنا نرى الكثير قد تجردوا عن المبادئ والقيم والأخلاق بل حتى الآداب العرفية، والأغرب من ذلك أصبحت تؤلف كتب سفيهة، وتعد برامج تلفزيونية سفيهة، حتى باتت الساحة الإعلامية في يومنا مليئة بالسفاهة، حتى صارت المنافسة عليها.

 

التمويه

هو التزييف وإلباس الحق بالباطل، قال تعالى (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) والتمويه خطير جداً، وهو كثير وموجود في جميع مجالات الحياة قد إستعمله ضعاف النفوس وأعداء الإنسانية، ولكنه يكون أشد خطراً وفتكاً بالإنسان إن أدخل في الدين، كما ستوضحهه رواية الإمام العسكري عليه السلام : (... وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم، ومنهم قوم نصاب لا يقدرون على القدح فينا فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن برآء منها فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد عليه اللعنة على الحسين بن علي عليهما السلام وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال...)[البحار ج2ص88] ، فيصف الإمام عليه السلام خطر التمويه بأنه أشد من خطر جيش يزيد على الإمام الحسين عليه السلام، والشواهد التاريخية على ذلك عديدة بل بالمآت على مر الأزمنة وإلى يومنا هذا، حتى شكلت منظمات مختصة بالتمويه والتضليل.

 

(وَ اجْعَل لي نَصيباً مِن كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُ فيهِ ، بِجودِكَ يا اَجوَدَ الأجْوَدينَ)

فالخلاصة:

 أن الإنسان قد تميز عن غيره من المخلوقات بالعقل، وقد كرمه الله به. أن هذه الجوهرة وهي العقل، يجب على الإنسان أن يستعملها في المجال الصحيح وبالطريقة الصحيحة. أن السفاهة والتمويه من أخطر الأمور على شخصية الإنسان وعقله والمجتمع، وأشد خطراً إذا أُدخلت في مجال دين.

 

إبراهيم السنجري

مؤسسة الإمام الحسين عليه السلام للإعلام الرقمي

المرفقات