نسائم شهر رمضان المبارك بين التوبة والاستغفار

أنّ من اهداف تشريع الصوم في الدين الاسلامي، هو تحصيل التقوى، أي ينطلق الإنسان حتى يكون التقي لله "عزوجل" في كل أعماله، يشعر بمراقبه الله  تعالى له في الصغير من عمله والكبير، وأن تكون لديه الحساسية في أي عمل يقوم به، ليعرف مواقع رضا الله تعالى فيه وسخطه. وهذا ما اكده الله تعالى في كتابه الكريم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1]

وعلى ضوء هذا، يمكن القول أن الصوم في شهر رمضان المبارك على عدة أقسام منها على سبيل المثال، الصوم الروحي، هو ان يتحسس الإنسان فيه المعاني الروحية في نفسه عندما يصوم، وهذا ما أكّد عليه النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" في خطبته التي استقبل بها شهر رمضان المبارك " وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ، جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ"، أي ان الانسان ليس لديه فرصة يوم القيامة ليشبع أو يرتوي قبل أن ينتهي الحساب. فإذا كان الحساب طويلاً فإن جوعه وعطشه يكون طويلاً،  ولذلك أن الإنسان إذا عاش في داخله الوقوف امام الله تعالى في ساحة الحساب، عاش الإحساس بخطورة المصير اما ان بين جنة ونار.

 اذن ماذا يريد الله سبحانه وتعالى من الانسان في شهر رمضان المبارك، يبدو ان النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" اجاب على هكذا تساؤل في خطبته قائلا " تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَارْفَعُوا إِلَيْهِ أَيْدِيَكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ صَلاتِكُمْ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحْمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُمْ إِذَا نَاجَوْهُ" يبدو من ذلك على الانسان الصائم أن يستحضر في صومه التوبة إلى الله "عزوجل"، وان يتذكر ما ارتكبه من المعاصي في الماضي، وأن نتكلم مع الله عن طبيعة معصيتنا، التي لم تكن تمرداً عليه وذلك عن طريق الدعاء ، وهذا ما اشار اليه الامام زين العابدين "عليه السلام" قائلا :" إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ ومن أيدي الخصماء غدا من يخلصني؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني؟"[2]، ولذلك أراد الله لنا أن ندعوه قبل الصلاة وفي أثنائها، في ركوعك وسجودك وقنوتك، وهذا ما اكد عليه القرآن الكريم بقوله :﴿ ذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[3] .

ثم يؤكد النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" " إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ، فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ، وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ، فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَنْ لا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "  يبدو من الرواية بشكل واضح ان الإنسان الذي لا يصلي ولا يسجد، ولا يستغفر، نجد كيف يخسر الكثير من رحمة الله ولطفه. ولذلك  ان النبي الاكرم يريد منّا أن نتحسّس في الصوم معاني التوبة والاستغفار، كذلك يأمرنا أن نصوم الصوم الاجتماعي، أي نتحمل مسؤولية الفئات الفقيرة والمحرومة، وهذا ما اكده في خطبته الغراء قائلا :" وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُمْ وَمَسَاكِينِكُمْ، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ أَبْصَارَكُمْ " يمكن القول ان الصدقة تطيل العمر، وتطرد المرض وتخفف البلاء، وان الله "عزوجل" اراد أن يخفف في هذا الشهر المبارك عن العباد، وبذلك جعل الله للفقراء حصة في اموال الأغنياء، و أن لا تبخس تلك الحقوق عن الفقراء والمساكين.

اما الجانب الاجتماعي الذي عالجه النبي الاكرم محمد صلى الله عليه واله" الا وهو صلة الرحم قائلا "صلى الله عليه واله": "صلوا أرحامكم"، أي ان النبي الاكرم يعلمنا كيف نحافظ  على صلة الرَّحم التي تعد من أعظم وسائل التقرب لله "عزوجل" وهذا ما اشار اليه القرآن الكريم ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾[4]

وكذلك من الامور الاجتماعية التي عالجها النبي الاكرم في خطبته الا وهي توقير الكبار ورحمة الصغار "ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم"، نستنتج من النص ان النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" يريد من الشباب أي للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، بكل وسائل الاحترام والرعاية، كما على الجيل القديم أن يرحم الجيل الصغير في قيمة تجربته، وفي الكثير من نقاط ضعفه هنا وهناك.

هناك حقيقة لا بد من ذكرها، والتي عالجها النبي الاكرم في خطبته الا وهي، تحسين الخلق قائلا :" ايُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ ".  يبدو من ذلك بأن هناك اشارة واضحة الى الصوم الأخلاقي، فالإنسان عليه أن يصوم اخلاقياً، وان يجعل أخلاقه في خط التقوى، وهذا ما اشارت اليه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء "عليها السلام" أنها قالت: "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"[5]. فالصوم هو أن تصوم حواسّك عن كل الخطوط السيئة في الأخلاق، وان يعيش الإنسان إنسانيته في القيم الأخلاقية والروحية المتصلة بحياته أو بحياة الآخرين.

جعفر رمضان

 

[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية)، ج ٩٥  ،ص ٨٨

[3] سورة البقرة ،الآية 186.

[4] سورة محمد ، الآية 22-23.

[5] محمد باقر المجلسي ، المصدر السابق، ج ٩٣ ،ص٢٩٥

 

المرفقات