شبهات على النهضة الحسينية (3) حرمة الخروج على الحاكم الجائر

 

هناك مَن اعترض على النهضة الحسينية بأنّها تتنافى والروايات الدالة على حرمة الخروج على الجائر، وهي روايات روتها صحاح المسلمين، وهذه الإشكالية يطرحها بعض أهل السنّة بعد اعترافهم بعدم شرعية الحاكم الجائر، وإنّما يحرِّمون ذلك درءاً لمفسدة إراقة الدماء وإثارة الفتنة، وعلى كل حال، فينبغي أوّلاً الإشارة إلى هذه النصوص، ثمّ مناقشتها ضمن استعراض الأقوال في المسألة، وهذه النصوص على قسمين:

القسم الأوّل: الروايات المانعة مطلقاً

وهي الروايات المطلقة في المنع عن الخروج على الجائر، سواء أكان الإمام عادلاً أم جائراً، ومن جملتها:

أ ـ صحيح البخاري[61]

1ـ عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: «مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإنّه مَن فارق الجماعة شبراً فمات إلّا مات ميتة جاهلية».

2ـ عن عبادة بن الصامت، قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فبايعنا... على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وإثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلّا أن تروا كفراً بواحاً».

ب ـ صحيح مسلم[62]

1ـ وعن عبد الله بن عمر بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال:«مَن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليُطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».

2ـ وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: «مَن خَرَجَ من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات؛ مات ميتة جاهلية. ومَن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتِلَ؛ فقتلة جاهلية، ومَن خَرَجَ على أُمّتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده؛ فليس منّي ولست منه».

3ـ عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوله: «مَن خَلَعَ يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

القسم الثاني: الروايات المقيَّدة بحرمة الخروج على ولاة الجور خاصّة

ومنها ما ورد في صحيح مسلم[63]:

1ـ عن أُمّ سلمة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون، فمَن عرف برئ، ومَن أنكر سلم، ولكن مَن رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا».

2ـ وعن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم، ويُصلّون عليكم وتُصلّون عليهم. وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة».

3ـ وسأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: «يا نبيَّ الله، أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثمّ سأله، فأعرض عنه، ثمّ سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنّما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم». قال:وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا شبابة، حدّثنا شعبة عن سماك بهذا الإسناد مثله، وقال: فجذبه الأشعث بن قيس. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اسمعوا وأطيعوا، فإنّما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم».

4ـ وعن حذيفة بن اليمان قال: «كان النّاس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن الخير وكنت أسأله عن الشرّ؛ مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنّا كنّا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرّ؟ قال: نعم. فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ. قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قوم يستنّون بغير سُنّتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنّم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله صِفهُم لنا. قال: نعم، قوم من جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم».

5ـ وعن حذيفة بن اليمان أيضاً قال: «يا رسول الله، إنّا كنّا بشرّ، فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟ قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشرّ خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع».

وعليه؛ فإنّه مع وجود هذه النصوص النبويّة بقسميها المطلق والمقيَّد تواجه ثورة الحسين عليه السلام  في نظر هؤلاء مثل هذه الإشكالية. وسنردّ على هذه الإشكالية بعد استعراض الأقوال عندهم في هذه المسألة.

الأقوال في المسألة[64]

انقسم الموقف لدى علماء المذاهب الأُخرى تجاه مسألة الخروج على الجائر

إلى قولين:

القول الأوّل: حرمة الخروج

 وقد التزم أصحاب هذا القول من الناحية الفقهية بالروايات الناهية عن الخروج، وهؤلاء هم مشهور فقهاء العامّة، بل نُسِبَ هذا القول إلى الإجماع، قال القاضي الباقلاني في باب ذكر ما يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته: «إن قال قائل: ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟ قيل له: يوجب ذلك أُمور، منها: كفرٌ بعد الإيمان، ومنها: تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك، ومنها عند كثير من النّاس ـ: فسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النّفوس المحرّمة، وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود. وقال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع بهذه الأُمور، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله. واحتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متظاهرة عن النّبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وعن أصحابه، في وجوب طاعة الأئمّة وإن جاروا واستأثروا بالأموال، وأنّه قال (صلّى الله عليه وسلّم): اسمعوا وأطيعوا ولو لعبدٍ أجدع، ولو لعبدٍ حبشي، وصلّوا وراء كلّ برٍ وفاجر. وروي أنّه قال: أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك...»[65].

وقال النووي: «وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنّة أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق»[66].

ردّ الشبهة

أوّلاً: إنّ الروايات التي استندوا إليها مبتلاة بوجود المعارض المكافئ لها سنداً ودلالة، وهو عبارة عن النصوص الدالة على جواز الخروج على الجائر، من قبيل: ما رواه البخاري عن نافع، عن عبد الله (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «السمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[67].

وروى أبو داود، عن خالد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قوله: «إنّ النّاس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوْشَكَ أن يعمّهم الله بعقاب»[68]، وغيرها من المرويات. فكان اللازم في البدء معالجة التعارض الواقع بين هاتين الطائفتين من النصوص، حتّى ننتهي إلى الجمع بينهما أو ترجيح طائفة على أُخرى أو التساقط؛ وعليه فليس من الصحيح اجتزاء بعض النصوص وترجيح إحدى الطائفتين قبل حلّ التعارض كما يقتضيه المنهج العلمي.

ثانياً: إنّ هذه الروايات معارضة أيضاً بجملة من الآيات؛ وعليه يكون الترجيح للروايات المجوِّزة للخروج لو لم يمكن الجمع بين الطائفتين ورجعنا إلى المرجِّحات الخارجية، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)[69]، والركون هو: «الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به. قال قتادة: معناه لا تودّوهم ولا تطيعوهم»[70]. وقال الجصّاص: «الركون إلى الشيء: هو السكون بالأُنس والمحبّة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم»[71]، فإذا كان الركون منهياً عنه فالطاعة والامتثال لهم من باب أوْلى، وما ذكره الجصّاص هو مقتضى الأولوية، وكذلك يعارض تلك الروايات عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[72].

ثالثاً: معارضة هذه النصوص لمقاصد الدين، ولروح الشريعة الغرّاء الداعية إلى إقامة العدل والقسط، وإلى تحكيم الدين والشرع في حياة النّاس؛ كما في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[73]، فكيف يُعقل للدين الذي جاء من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة الظلم والتعسّف والفساد أن يُنظِّر ويؤسّس للظلم والفساد بإقراره حكومة الحاكم الجائر؟! أليس هذا نقضاً للغرض الذي لا يفعله الحكيم؟! أليس هذا تقنيناً وتشريعاً للظلم؟! أليس معنى هذا أنّ الدين يمحق نفسه بنفسه عن طريق إعطاء الشرعية لمن يمحقه وهو الظالم؟! إنّ هذا الدين الذي لم يقبل ولا في واحد من تشريعاته الكثيرة الظلم لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الاجتماعي، كيف يوافق على هذه المساحة الواسعة من الظلم في المجتمع الإسلامي؟!

قد يقال: أليس اجتماع الأُمّة ووحدتها من مقاصد الشرع والدين، فكيف يجوز الخروج إذا استلزم الفتنة؟

الجواب: قد اشترطنا في الآمر أن يهيّئ الظروف التي منها اجتماع الأُمّة على خلع الجائر، وإلّا فلا بدّ من العمل على تهيئة ذلك، وقد عمل الإمام الحسين عليه السلام  على تهيئة الأرضية للخروج كما تقدّم بيانه.

رابعاً: إنّ في القبول بولاية الجائر والمنع من الخروج نقضاً لكل ما ذكروه في تعريف الخلافة بأنّها نيابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  لحراسة الدين، فأيّة حراسة من قبل الجائر للدين وهو يهدم الدين وينقض عُراه ويبطش بأهله؟!

القول الثاني: جواز الخروج على الجائر

ذهب إلى هذا القول جملة من فقهاء الجمهور. قال ابن حزم الأندلسي: «والواجب إن وقع شيء من الجور، وإن قلَّ، أن يُكلَّم الإمام في ذلك ويُمنَع منه، فإن امتنع وراجع الحقّ وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حدّ الزنا والقذف والخمر، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحلّ خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وَجَبَ خلعه، وإقامة غيره ممّن يقوم بالحق»[74]. وقال في موضع آخر موضّحاً حدود الطاعة: «فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسُنّة رسول الله، فإن زاغ عن شيء منهما مُنِعَ من ذلك، وأُقيم عليه الحدّ والحق، فإن لم يُؤمَن أذاه إلّا بخلعه خُلِعَ وولّي غيره»[75].

وقال البغدادي: «ومتى زاغ عن ذلك كانت الأُمّة عياراً عليه في العدول به من خطأه إلى صوابه، أو في العدول عنه إلى غيره»[76].

وقال الماوردي: «الذي يتغيّر به حاله [أي: حال الإمام] فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جَرْحٌ في عدالته، والثاني نقصٌ في بدنه»[77]. وقال أيضاً: «وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأُمّة فقد أدّى حقّ الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقّان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغيَّر حاله»[78].

وقال الرازي في تفسير آية الطاعة لأُولي الأمر: «إنّ الأُمّة مُجمِعَة على أنّ الأُمراء والسلاطين إنّما يجب طاعتهم فيما عُلِم بالدليل أنّه حق وصواب»[79]. وقال أيضاً: «إنّهم [الظالمين] غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى، وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمّة في الدين؛ فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق»[80].

وقال الزمخشري: «إنّ أُمراء الجور، الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم»[81].

وقال الطبري: «لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمّة والولاة، فيما كان [لله] طاعة وللمسلمين مصلحة»[82].

وقال البيضاوي: «أمر النّاس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل؛ تنبيهاً على أنّ وجوب طاعتهم ما داموا على الحقّ»[83].

وقال الشهرستاني: «إن ظَهَرَ بعد ذلك [أي: من الإمام] جهلٌ أو جورٌ أو ضلالٌ أو كفرٌ، انخلع منها، أو خلعناه»[84].

وقال الغزالي: «إنّ السلطان الظالم عليه أن يكفّ عن ولايته، وهو إمّا معزول أو واجب العزل... وهو على التحقيق ليس بسلطان»[85].

وقال الإيجي: «وللأُمّة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه». وقد شرح هذه العبارة الجرجاني بقوله: «مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أُمور الدّين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها»[86].

وقد استُدِلَّ على هذا الرأي بما يلي:

1 ــ  الكتاب العزيز

مثل قوله تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[87]، وقوله عزّ وجل: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[88]، وقوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)[89]، وقد مرّ معنى الركون سابقاً.

وأيضاً ما جاء في وصف حال المعذَّبين في الآخرة بسبب طاعتهم الحكّام

في المعصية: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)[90]، وقوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[91]، وقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[92]. وقد نقل القرطبي تفسيراً عن ابن عباس لهذه الآية الكريمة: «أمر الله المؤمنين أن لا يَقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب»[93].

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[94]، وقد فسَّر العلماء قوله تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) بقولهم: «التقييد بالمعروف مع أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  لا يأمر إلّا به؛ للتنبيه على أنّه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق»[95].

 2 ــ  السُّنّة النبويّة

وهي طائفتان من الروايات:

الطائفة الأُولى: الروايات الناهية بعمومها عن طاعة المخلوق سواء أكان حاكماً

 أم غيره في معصية الخالق، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «السمع والطاعة حقّ، ما لَم يُؤمَر بالمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[96]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّما الطاعة في المعروف»[97]، وقوله أيضاً: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[98].

الطائفة الثانية: الروايات الخاصّة الناهية عن طاعة الحاكم الجائر، وهي القسم الثاني من الروايات السابق ذكرها، مثلما رواه أبو داود عن خالد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قوله: «إنّ النّاس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه؛ أوْشَكَ أن يعمّهم الله بعقاب». وما رواه أيضاً من حديث ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم  قال: «والله، لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهَونَ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يدي الظالم، ولتأطرُنه على الحقّ أطْراً، ولتقصرُنه على الحقّ قصراً»[99].

وقد روي عن أبي بكر قوله: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم»[100].

وذهب عمر إلى أبعد من ذلك؛ حيث أجاز قتل الحاكم الظالم في خطبته التي ورد فيها: «لوددت أنّي وإيّاكم في سفينة في لجّة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولّوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوَّج عزلوه؟ قال: لا، القتل أنكل لمن بعده»[101].

فإن قلت: هذه الروايات معارضة بالروايات الناهية عن الخروج على الجائر، وعليه لا بدّ من علاج التعارض.

قلت: نعم، يقع التعارض في مقامين:

المقام الأوّل: الروايات الناهية عن شقّ عصا الأُمّة ومفارقة الجماعة المروية عند الفريقين، وهنا لا بدّ من تقييد إطلاقها طبقاً لقواعد الجمع العرفي بالروايات الدالة على جواز الخروج، المؤيَّدة بعمومات الآيات السابقة الناهية عن الركون للظلم، وعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا داعي لحمل الروايات الناهية عن شقّ عصا الأُمّة ومفارقة الجماعة على التقية، كما ذكره السيّد الأُستاذ (دام ظلّه)[102].

المقام الثاني: الروايات الناصّة على حرمة الخروج على الجائر، والتعارض بينها وبين ما دلّ على جواز الخروج محكّم ومستقر، ولا يمكن الجمع العرفي، فتصل النوبة إلى المرجِّحات، وهي تُرجّح الثانية؛ لوجود المرجِّح من الكتاب، وحكم العقل، ومقاصد الشرع، والمخالفة لفتوى الجمهور.

3 ــ الاحتجاج بخروج الحسين عليه السلام

احتجَّ البعض على جواز الخروج؛ بخروج الحسين عليه السلام ، والظاهر أنّ ذلك بناءً منهم على حجيّة عمل الصحابي. قال ابن مفلح الحنبلي: «جَوَّز ابن عقيل وابن الجوزي الخروج على الإمام غير العادل؛ بدليل خروج الحسين على يزيد لإقامة الحق»[103].

 

 

الكاتب: د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الحادي عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________________________

[61] اُنظر: البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج 8، ص7 8.

[62] اُنظر: النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم: ج6، ص20، 22.

[63] المصدر السابق: ص19-24.

[64] اُنظر: ـ لهذه الأقوال التي نقلناها بتصرّف ـ مقالاً للكاتب تحت عنوان: (الصحوة الإسلامية المعاصرة وإشكالية الخروج على الحاكم الجائر)، مجلّة الاجتهاد والتجديد: العدد 24.

[65] الباقلاني، محمد، تمهيد الأوائل: ص478.

[66] النووي، يحيى بن شرف، صحيح مسلم بشرح النووي: ج12، ص229.

[67] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج4، ص7، ج8، ص106.

[68] أبو داود، سليمان، السنن: ص322.

[69] هود: آية 113.

[70] القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج9، ص108.

[71] الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: ج 3، ص215.

[72] آل عمران: آية 105.

[73] الحديد: آية 25.

[74] ابن حزم، علي، الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج4، ص175ـ 176.

[75] المصدر السابق: ص102.

[76] البغدادي، عبد القاهر، أُصول الدين: ص278.

[77] الماوردي، علي بن محمد، الأحكام السلطانية: ص17.

[78] المصدر السابق.

[79] الرازي، محمد، التفسير الكبير: ج10، ص145.

[80] المصدر السابق: ج 4، ص47. والآية المشار إليها هي قوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة: آية124.

[81] الزمخشري، جار الله، الكشاف: ج1، ص 405.

[82] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج5، ص207.

[83] البيضاوي، عبد الله بن عمر، تفسير البيضاوي: ج2، ص206.

[84] الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، نهاية الإقدام: ص296.

[85] الغزالي، محمد، إحياء علوم الدين: ج 2، ص111.

[86] الجرجاني، علي بن محمد، شرح المواقف: ج 8، ص353.

[87] الشعراء: آية 151 ـ 152.

[88] الكهف: آية 28.

[89] هود: آية 113.

[90] الأحزاب: آية67 ـ  68.

[91] البقرة: آية166ـ 167.

[92] الأنفال: آية25.

[93] القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج7، ص391.

[94] الممتحنة: آية 12.

[95] أبو السعود، محمد، إرشاد العقل السليم: ج8، ص240.

[96] البخاري، محمد بن مسلم، صحيح البخاري: ج4، ص126.

[97] المصدر السابق: ج 9، ص113. النووي، يحيى بن شرف، صحيح مسلم بشرح النووي: ج10، ص227.

[98] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن: ج3، ص122. الهيثمي، علي، مجمع الزوائد: ج5، ص226. السيوطي، جلال الدين، الجامع الصغير: ج2، ص203.

[99] أبو داود، سليمان، السنن: ص322.

[100] ابن هشام، محمد بن إسحاق، السيرة النبويّة: ج4، ص341.

[101] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج3، ص20.

[102] الحائري، كاظم، الكفاح المسلّح: ص102.

[103] الحنبلي، ابن مفلح، الفروع: ج3، ص548.

 

المرفقات