واقعة الجمل عام 36 هجريّة... دروس وعبر

قد اختارت عائشة الإقامة في مكّة المكرمة، ورجعت إليها بعد أن بلغها مقتل عثمان ومبايعة الناس لعلي بن ابي طالب "عليه السلام"، قالت لعبيد الله بن كلاب الذي اخبرها بذلك:" والله ليت هذه انطبقت على هذه ان تم الأمر لصحابك، ويحك أنظر ما تقول"[1]، فنزلت على باب المسجد وانضمّ إليها الحاقدون من بني أميّة منهم مروان بن الحكم وعبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكّة، وجعلت تدعو الناس للخروج والثورة، وكلما اجتمع عليها ملأ من الناس تقول:" أن عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه!"[2].

وتؤكد الروايات التاريخية ان عبد الله بن عامر رجّح لها الخروج إلى البصرة، وزعم أن له فيها أنصاراً يستجيبون لطلبه ويتداعون لنصرته، فاستجابت لطلبه بعد أن اتصلت بالزبير وطلحة بعد أن استردّ الأمام علي" عليه السلام" عهد وولايتي البصرة والكوفة منهما، فنكثا عهديهما للإمام علي[3].

وبين بعض من المؤرخون أنها قد استدعت الزبير وطلحة إلى مكّة المكرمة لكي ينطلقوا منها جميعاً إلى البصرة، فجاءا إلى الامام عليّ بن ابي طالب "عليه السلام" وطلبا منه أن يأذن لهما بالذهاب إلى مكّة لأداء العمرة، فقال لهما: "والله ما أردتما العمرة بل أردتما الغدر"[4]، وظلا يلحّان عليه حتى أذن لهما، فخرجا والتحقا بعائشة في مكّة المكرّمة، حيث كان المناوئون لأمير المؤمنين علي "عليه السلام" قد تجمّعوا بها، ولما أتموا عدّتهم وتكامل عددهم، اتجهوا نحو البصرة بناءً لرغبة عبد الله بن عامر[5].

وأضاف المؤرخون إلى ذلك أنّه لما اجتمعت كلمتهم على المسير، حاولا إقناع عبد الله بن عمر بالمسير معهما وعرضا عليه الأمر، وقالا: "يا أبا عبد الرّحمن، إنّ أمّنا عائشة قد خفت لهذا الأمر، رجاء الإصلاح بين الناس،  فاشخص معنا، فإن لك بها أسوة، ، فإن بايعنا الناس، فأنت أحقّ بها، فقال لهما: أيها الشيخان، أتريدان أن تخرجاني من بيتي، ثم تلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟ إن الناس إنما يخدعون بالدينار والدرهم. وإني قد تركت هذا الأمر عيانا في عافية أنالها. فانصرفا عنه"[6]

وعند وصول عائشة ومن معها إلى البصرة، أرسل عثمان بن حنيف والي البصرة، أبا الأسود الدؤلي وعمران بن حصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم وما الذي أقدمهم، فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فنالاها ووعظاها وذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير.[7] حيث كان أبو الأسود الدؤلي المتكلّم الأول مع الزبير، فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلت عثمان من هم وأين هم؟ وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم! وأما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين؟ وأنت يا أبا عبد الله! لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله "صلى الله عليه وآله "وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبي بكر، فأين ذلك الفعل من هذا القول؟[8] 

وثم أتيا عائشة مرة أخرى فقالا لها جارية بن قدامة السعدي:يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ لَقَتْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَهْوَنُ مِنْ خُرُوجِكِ مِنْ بَيْتِكِ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ الْمَلْعُونِ ، عُرْضَةً لِلسِّلاحِ ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَكِ مِنَ اللَّهِ سِتْرٌ وَحُرْمَةٌ ، فَهَتَكْتِ سِتْرَكِ وَأَبَحْتِ حُرْمَتَكِ ، إِنَّهُ مَنْ رَأَى قِتَالَكِ ، فَإِنَّهُ يَرَى قَتْلَكِ ، إِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا طَائِعَةً فَارْجِعِي إِلَى مَنْزِلِكِ ، وَإِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا مُسْتَكْرَهَةً فَاسْتَعِينِي بِالنَّاسِ"[9] ، يبدو ان جهودهم باءت بالفشل، حيث مضى القوم على موقفهم، حتى دخلوا البصرة، فانضمّ إليهم جماعة كبيره، بين طامع وحاقد، وبين من التبس عليهم الأمر وغرّهم موقف عائشة زوجة النبيّ الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" .

وبعد أن أحيط الامام علي "عليه السلام" بمواقف عائشة والزبير وطلحة، وإعلانهم العصيان المسلَّح، أيقن أنهم مصمّمون على المضيّ في طريقهم، حيث زحف بمن معه من المسلمين إلى مدينة البصرة... ولكنّ الامام علي بن ابي طالب ظلّ يحافظ على السِّلم، والالتزام بالهدوء والصّبر، الا ان السيدة عائشة كانت تحرّض الناس عليه وهي على جمل، يحفّ بها أنصارها وتقول: " غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه أفلا نغضب لعثمان من السيف؟ ألا إنّ خليفتكم قتل مظلوماً، أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه فيها، فأعتب وتاب إلى الله، وما يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى الله ويعتب الناس، ولكن أعداءه سطوا عليه فقتلوه، واستحلّوا حُرماً ثلاثاً: حرمة الدّم، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام"[10].

هناك حقيقة تاريخية الا وهي، أنَّ الفريقين في تلك المعركة قد اقتتلا قتالاً ضارياً لم يشهد تاريخ البصرة قتالاً أشدّ ضراوةً منه، حيث لا يرى فيها الناس إلا أيدي تتناثر، وأرجلاً تقطع، وأجساداً تتهاوى هنا وهناك، ولما رأى الامام عليّ "عليه السلام" هذا الموقف ، علم أن المعركة لن تنتهي مادام الجمل واقفاً على قوائمه، فصاح بأصحابه: "اعقروا الجمل، فإن في بقائه فناء العرب"[11]، فحمل الناس معه، وتناوب بنو ضبّة على خطام الجمل حتى قتل منهم جماعة، فأمرهم بأن يعقروا الجمل، فلمّا عقروه، هوى إلى الأرض، فتفرّق من كان حوله، وبقيت صاحبة الهودج وحدها في ميدان المعركة.

وعلى اثر ذلك، جاء محمد بن أبي بكر فأدخل يده في هودجها، قالت من انت ؟ قال لها :أقرب الناس منك قرابة، وأبغضهم إليك، انا محمد اخوك، يقول لك أمير المؤمنين: هل أصابك شيء؟ ....  ثم جاءها أمير المؤمنين "عليه السلام"، فوقف على هودجها، وضربه بقضيب، وقال: يا حميراء، ألم يأمرك رسول الله أن تقرّي في بيتك، والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم وأبرزوك، وأمر أخاها فأنزلها في دار صفيّة بنت الحرث بن أبي طلحة العبدي[12].

 

جعفر رمضان

 

[1] ابي جعفر بن محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري ، تحقيق: صدقي جميل العطار، (بيروت: دار الفكر )،ج4، ص459

[2] علي بن محمد بن محمد ابن الأثير ،الكامل في التاريخ ، تحقيق: أبو الفداء عبد الله القاضي ،(بيروت: دار الكتب العلمية ،1987)،ج3، ص206.

[3] ابن ابي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة ، تحقيق، محمد عبد الكريم الشمري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2003) ،ج9، ص233

[4] المصدر نفسه.

[5] ابن قتيبة الدينوري، الامامة والسياسية، تحقيق علي الشيري، (قم : مؤسسة اهل البيت لأحياء التراث،1413)، ج1، ص57

[6] المصدر نفسه، ص57-58.

[7] علي الأحمدي الميانجي، مواقف الشيعة،(قم: مؤسسة النشر الاسلامي،1431)، ج1، ص63.

[8] ابن ابي الحديد المدائني ، المصدر السابق، ج 9 ص 313.

[9]  ابي جعفر بن محمد بن جرير الطبري، المصدر السابق، ج3، ص231

[10] طه حسين، الفتنة الكبرى "علي وبنوه"،(القاهرة: مؤسسة الهنداوي ،2012) ،ج2،  ص2

[11] محمد المرداش العقالي، الا في الفتنة سقطوا، (مصر: دار سما للنشر والتوزيع)، ص133. 

[12] للمزيد من التفاصيل ينظر.ابي الحسن علي ين الحسين بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق مفيد محمد قميحة،(بيروت :دار المكتب العلمية)،ج2، ص406.

المرفقات