ابن الهبارية .. بلغة تطوي المدى

 

قيل أن عبد الله بن عباس لم يشترك مع الإمام الحسين (ع) في ثورته ولم يرافقه إلى كربلاء بسبب فقدانه بصره فقد ذكرت المصادر أن ابن عباس كان قد ابتلي بالعمى، وليس على الأعمى حرج، فلا يعد تخلفه والحالة هذه تخاذلاً .. (1)

وإذا كان أحفاده من الخلفاء العباسيين قد ناصبوا العداء لأهل البيت فقد كان من أحفاده أيضاً من التزم هدى آل البيت وسلك سراطهم المستقيم وكان يتمنى لو كان حاضراً يوم عاشوراء ليذب عن سيد الشهداء بكل ما يستطيع وكل ما يملك ..

وهيئ له أن يزور كربلاء ويرى الأرض التي احتضنت جسد السبط الشهيد مع أهل بيته وأصحابه من الشهداء فانحدرت دموعه بحرارة واعتصر قلبه الألم ووقف على القبر الشريف فنطق لسانه بما أملاه عليه قلبه:

أحسينُ والمبعـوث جدّكَ بالهدى    ***   قسماً يكون الحـقُّ عنه مسائلي

لو كنتُ شـــاهدَ كـربلا لبذلتُ في   ***   تنفيسِ كربِك جــهدَ بذلِ الباذلِ

وسقيتُ حدَّ السيـــفِ مـن أعدائكم   ***   عَللا وحدّ السمــــهريِّ البازلِ

لكنني أُخّرتُ عنـــــــــكَ لشقوتي   ***   فبلابلي بيــــــــن الغريِّ وبابلِ

هبني حرمتُ النصرَ من أعدائكم   ***   فأقلّ من حزنٍ ودمعٍ سائلِ (2)

أقسمَ بالنبي الأقدس على ما أكنه في نفسه من صدق غايته ..

إنها نية خالصة مفعمة بالصدق .. ولصدقه فقد أعطاه الله ما يتمنّاه وكما قال رسول الله (ص): من أحب أحداً حُشر معه. فما إن أنهى أبياته ونام قليلا حتى رأى رسول الله في المنام وهو يقول له: جزاك الله عني خيراً، إبشر فإن الله تعالى قد كتبك ممن جاهد بين يدي الحسين. (3) إنه ابن الهبارية الشاعر العباسي عصراً ونسباً وكانت هذه الحادثة قد وقعت بعد حوالي أربعة قرون على معركة الطف.

ولد محمد بن محمد بن صالح بن حمزة بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن العباس المعروف بـ (ابن الهبارية) في بغداد عام (414هـ/1115م) ويكنى بـ (أبي يعلى) ولقبه نظام الدين وقد سمِّي بـ (ابن الهبارية) نسبة إلى جده لأمه الذي كان اسمه (هبَّار)

لمع اسم ابن الهبارية في سماء الأدب في زمن عج بالشعراء والأدباء, وعاش في مدن تصدرت الحركات العلمية وزخرت بالمدارس الأدبية فكان من طليعة شعراء عصره وأفذاذ أدباء زمانه, خاض مضماري الشعر والنثر فبرع فيهما ونحت اسمه في ذاكرة الأجيال.

ورغم ما تعرض له تراثه من التضييع والدثار فقد ترك ابن الهبارية ديواناً ضخماً بأربعة مجلدات ضمّ في رثاء الحسين ومدح آل الرسول أشعاراً كثيرة. (4) لكن لم نجد له في هذا الغرض سوى هذه القطعة ذات الخمسة أبيات والتي تشير إلى تجني التاريخ والمؤرخين على هذا الشاعر وعلى شعره الخاص بالنبي وآله والذي ضيعته الأهواء والعصبيات.

أما نتاجه الأدبي من نثر وشعر في الأغراض الأخرى فدل على ما وصل إلينا عن شاعريته الكبيرة وأدبه المميز, فمن مؤلفاته:

1 ــ ديوان (نتائج الفطنة في كليلة ودمنة) وهو نظم كتاب ابن المقفع كليلة ودمنة شعراً.

2 ــ (الصادح والباغم): وهو ديوان أيضا على نمط نتائج الفطنة وقد احتوى على أراجيز في ألفي بيت من الحكمة كتبها في عشر سنين وقد تُرجم هذا الكتاب وطبع في باريس عام 1886, وفي الهند, ومصر, وبيروت وقد كُتبت عنه كثير من الدراسات والبحوث تناولت خصائصه ومميزاته.

3 ــ نظم رسالة حي بن يقظان لابن طفيل

4 ــ فلك المعاني : لم تشر المصادر إلى موضوعه

ترجمت له كثير من المصادر بمضمون واحد وهو: ومحاسن شعره كثيرة وله كتاب نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة، وديوان شعره كبير يدخل في أربع مجلدات، ومن غرائب نظمه كتاب الصادح والباغم نظمه على أسلوب كليلة ودمنة، وهو أراجيز وعدد بيوته ألفا بيت، نظمها في عشر سنين، ولقد أجاد فيه كل الإجادة، وسير الكتاب على يد ولده الى الامير أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي صاحب الحلة وختمه بهذه الابيات.

هذا كتابٌ حسنُ   ***   تحار فيه الفطنُ

أنفقتُ فيـــه مدّه   ***   عشر سنين عدّه

كما ترجم له السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة وذكر مجموعة من شعره إضافة إلى الأبيات الخمسة في رثاء الإمام الحسين ومن مختار شعره الذي اختاره الأمين في مواضيع الحكمة والموعظة قوله:

لا يزهدنّك منظـــري في مَخبَري   ***   فالبحرُ مِلحُ مياههِ عقيانهُ

ليس القُدودُ ، ولا البرود ، فضيلة   ***   ما المرء إلا قلبُه ولسانُهُ

وفي هذه الأبيات يستشف القارئ نفسية ابن الهبارية الكريمة وخلقه العالي:

إنما المال منتهى أمل الــخامِلِ ، والرُدُّ مطلب الأشراف

لا أُحِبّ الفِجَّ الثقيــــــــــلَ ولو جادَ ببذلِ المِئينَ والآلافِ

وأُحبُّ الفتى يهشُّ الى الضيُّــف بأخلاقه العِذاب اللّطاف

أريحياً طَلِقَ المحَيّا حييّاً مــــــاءُ أخلاقِهِ من الكبرِ صافِ

ولو اني لو أحظَ منه بغير الــشمّ شيئاً ، لكان فوق الكافي

محمد طاهر الصفار

..............................................................

1 ــ البداية والنهاية / ابن كثير ج 8 ص 335

2 ــ أدب الطف / السيد جواد شبر ج 3 ص 21

3 ــ تذكرة الخواص من الأمة في ذكر خصائص الأئمة / سبط بن  الجوزي

4 ــ الأنساب / السمعاني , خريدة القصر / العماد الأصفهاني , دائرة المعارف الاسلامية

5 ــ ابن خلكان 

المرفقات

: محمد طاهر الصفار