أضواء على وصايا الإمام موسى الكاظم

تعد وصايا الامام موسى بن جعفر "عليه السلام" من المفاهيم الإسلاميَّة الّتي تتَّصل بحياة الانسان في موقفه أمام التحدّيات التي تواجهه كفرد او كمجتمع، في الوقت نفسه ان العلاقة بأهل البيت "عليهم السلام" ليست علاقة نبضة قلب يخفق بحبِّهم، ولا علاقة دمعة تسكب على مأساتهم، بل ان علاقتنا بهم تعد قضيَّة الخط ، ولذلك تحمّلوا الصّعوبات وعاشوا التّضحيات من أجل أن يبقى ذلك الخط مستقيماً في حياتهم، وتلك هي قضيَّتهم. 

ولذا من الضروري تسليط الضوء على كوكبة من الوصايا الذهبيّة لأصحابه وأولاده قبل وفاته واثرها في تنمية الثقافة المجتمعية وكان من ابرز تلك الوصايا هي : -

مشكلة الأكثريَّة الصَّامتة

عالج الامام هذه المشكلة في كثير من وصاياه لأحد أصحابه قائلاً: "أبلغْ خيراً، وقلْ خيراً، ولا تكن إمَّعة"، قيل: وما الإمَّعة؟ قال: "لا تقل أنا مع النّاس، وأنا كواحدٍ من النّاس، إنَّ رسول الله قال: يا أيّها النّاس، إنّما هما نجدان؛ نجد خير ونجدُ شرّ، فلا يكن نجدُ الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير" [1] .

يبدو بشكل واضح من هذه الوصية ان الامام الكاظم "عليه السلام" يخاطب النّاس الّذين يواجهون الحياة في كلِّ صراعاتها وفي كلّ إشكالاتها بالطّريقة السّلبيّة، بحيث لا يسعون إلى اتّخاذ المواقف وفقاً لما يصل إليه تفكيرهم، بل إنّهم اتكاليّون، يريدون للآخرين أن يفكِّروا عنهم، ليتحركوا على ضوء ما وصلوا إليه في تفكيرهم، فهم لا يريدون أن يعيشوا مسؤوليّة الفكر، وإنما يقولون للآخرين: فكِّروا لنا، ولا يقولون: فكِّروا معنا.

هؤلاء الَّذين إذا سئلوا عن الموقف في الدّنيا اتجاه أيّ مشكلة، قالوا لا موقف لنا, وإذا عاشوا ساحة الصِّراع هربوا منها، لأنهم يريدون أن يعيشوا باسترخاء فقط، يبدو ان هؤلاء هم مشكلة كلِّ الشّعوب الباحثة عن حرّيتها، والباحثة عن مواقعها، هؤلاء الّذين قد يطلق عليهم اسم "الأكثريّة الصّامتة"، الّتي يتحوَّل صمتها إلى حالة شيطانيّة ينطبق عليهم القول: "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس"  .

الثّقة الزّائفة

كذلك عرج الامام على مشكلة اجتماعية اخرى الا وهي الثقة الزائفة حيث اكد في احدى وصاياه لـ"هشام بن الحكم" قائلا: "يا هشام، لو كان في يدك جوزة، وقال النّاس: لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنَّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنّها جوزة، ما ضرَّك وأنت تعلم أنها لؤلؤة" [2].

يمكن القول ان الامام الكاظم "عليه السلام" اكد على ان كلام النّاس لا يمكن ان يرفع ثقتك بنفسك، أو يسقطك عند نفسك، أي اعرف نفسك و حجم فكرك وطاقتك، وبالإضافة الى ذلك اعرف أهدافك وما هي امتداداتها، وخلفيّاتك وما هو عمقها، فإذا جمعت ذلك كلّه، ورأيت أنّك لا تملك انطلاقةً، ولا حجماً كبيراً في الخبرة، ولا سموّاً في الأهداف، وجاء النّاس فكبّروك وضخّموا شخصيّتك ومدحوك، وأنت تعرف نفسك، فاحذر أن يرفعوك إلى فوق، بينما تعرف أنّ موقعك هو في الأسفل، لأنهم إذا حملوك إلى فوق وتركوك، فسوف يكون سقوطك فظيعاً مريعاً، وتلك وصايا وحكمم الامام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" صاحب الحكمة الّذي يُنتَفَعُ بحكمته، ولو كنّا مع الامام الكاظم في حكمته، لكنّا الأمّة الحكيمة. لذلك، قالها الإمام محمد الباقر :"لا يغرَّنك النَّاس من نفسك، فإنَّ الأمر يصل إليك دونهم"[3] .     

وعليه ان اساس الثقة هي أنَّه لو كان في يدك لؤلؤة، وعرفت ذلك من خلال فكرك وعقلك وخبرتك، وجاءك الناس يريدون أن يسقطوك أو أن يهزموك نفسيّاً، فكن القويّ ولا تضعف، فهي عبارة عن كلمات تتطاير في الهواء عندما تملك عنصر الثقة في نفسك، ولا لتعيش الغرور، بل لتعيش واقعك. وعلى ضوء هذا، فعليك عندما تؤمن بأنّك على حقّ، أن ترفض كلَّ الكلمات التي تحاول أن تصفك بالباطل. وهذا ما اكده الصحابي الجليل عمَّار بن ياسر عندما اصبح هناك تراجع في جيش الامام عليّ "عليه الاسلام  في بعض مراحل الحرب، قالا: "والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حقّ وأنهم على باطل"[4] . نستنتج من ذلك اولا عليك أن تعرف الحقّ وأن تبقى معه عندما تعرفه، فلا تهتز ثقتك بنفسك من الآخرين، ولا تفقد ثقتك بنفسك من خلال الآخرين .

وعليه اذا اردنا ان نتعرف على الامام موسى بن جعفر "عليه السلام"   يكون ذلك خلال موقفه من السلطة الحاكمة عندما قال كلمة الحقّ، وأكَّد ثقته بموقعه، حتى خاف منه "هارون الرّشيد"، ومن الطبيعي أنّ التّحدّي قد ينتج الكثير من المآسي، ولكن يبقى الحقّ وذلك من خلال ما اكده لبعض  أصحابه قائلاً: "...اتّقِ الله وقل الحقّ وإن كان فيه هلاكك، فإنَّ فيه نجاتك، اتّقِ الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فإنَّ فيه هلاكك" [5]،  يبدو ان الامام الكاظم اراد ان يؤكد لنا ان قضية النَّجاة والهلاك لا تقاس في ذاتك، ولكنَّها تقاس بالنّتائج الكبرى التي تتحرَّك في مدى رسالتك وأهدافك.

وعليه كانوا أئمّة من أهل البيت "عليهم السلام" انطلقوا مع المأساة وهم يبتسمون، لأنهم كانوا يعيشون الفرح اليوميّ بإيمانهم وإسلامهم. لذلك كانوا أكبر من المأساة، وقد جسّد ذلك الإمام الحسين "عليه السلام" عندما كان يتلقَّى دم ولده الرضيع وهو يقول: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله" [6] أي عندما يكون الإنسان مع ربّه في معنى الحبّ الإلهيّ، فإنَّه لا يعيش الإحساس بالألم، لأنّه في سبيل الله.

جعفر رمضان

[1] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، تحقيق: علي اكبر الغفاري،(قم: مؤسسة النشر الاسلامي،1404ه)، ص 413.

[2]  سيّد سابق، فقه السنّة،( مصر: دار الحديث، 2004)، ج 2، ص 611.

[3] الكليني، اصول الكافي، تحقيق محمد الاخوندي، (طهران: دار الكتب الاسلامية، 1363ش)، ج 2، ص 454.

[4] نور الله التستري، الصوارم المهرقة في نقد الصواعق المحرقة، تحقيق: جلال الدين الحسيني،(طهران: دار مشعر، د.ت) ص 96.

[5]  محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية)، ج 75، ص 319.

[6] المصدر نفسه، ج 45، ص 47.

المرفقات