موقف الإمام محمد الجواد "عليه السلام" من الفتوى بغير علم انموذجا

أنَّ أحد اهم الجوانب الكبيرة لحياة الائمة المعصومين "عليهم السلام" هو الجانب الثقافي، اذ كان لكلّ واحد من هؤلاء الأئمّة الاعظام نشاط ثقافي في عصره وزمانه، حيث كانوا يربّون الرجال في مدرستهم، وينشرون علومهم ومعارفهم في المجتمع الاسلامي من خلال اولئك، ولكن الظروف الاجتماعية والسياسية لم تكن متساوية عند الائمة المعصومين "عليهم السلام"، فقد كانت الظروف الاجتماعية في عهد الإمام الباقر والإمام الصّادق تختلف عن بقية الائمة المعصومين، ومن بين هؤلاء الائمة هو الإمام محمد الجواد "عليه السلام، وذلك بسبب الضّغوط السياسية ومراقبة نشاطاته من قبل جهاز الحكم، وبالتالي ادى الى قلة عدد رواة وتلاميذ مدرسته بشكل ملحوظ بالمقارنة مع عهد الإمام المحمد الباقر والامام جعفر الصادق .

وعليه، ان كتب التاريخ تشير الى ان مجموع رواة الإمام محمد الجواد "عليه السلام" يقارب المائة وعشرة رواة، وقد رووا عن الامام محمد الجواد 250 حديثاً فقط ، والسبب يعود الى انّه كان مراقباً بشدَّة من قبل النظام من جهة، ومن جهة اخرى استشهاده في وقت مبكر.

وتؤكد كتب السير والتراجم، ان الامام محمد الجواد "عليه السلام" قد عاش خمساً وعشرين سنة بإجماع العلماء، وفي الوقت ذاته، يجب الالتفات إلى أنّ من بين هذا العدد القليل من أصحاب الإمام، هناك شخصيات بارزة مثل: علي بن مهزيار، أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، زكريا بن آدم محمد بن إسماعيل بن بزيع، الحسين بن سعيد الأهوازي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، وكان كلّ واحد منهم علماً بذاته في المجالات العلمية والفقهية .

هذا، ومن ناحية أُخرى، إنَّ رواة أحاديث الإمام محمد الجواد لا ينحصرون في الشّيعة، بل قد نقل بعض المحدثين والعلماء السنّة للأحكام الإسلاميّة من ذلك الإمام، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الخطيب البغدادي، الّذي روى عن الإمام، كذلك روى عنه الحافظ عبد العزيز بن أخضر الجنابذي في كتاب "معالم العترة الطاهرة".

 

 هناك حقيقة تاريخية الا وهي، اجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحجّ، وقصدوا المدينة ليشاهدوا الامام محمد الجواد "عليه السلام"، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق "عليه السلام" لأنَّها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس، وقام منادٍ وقال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال فليسأله، فَسُئِل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمُّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان الامام محمد الجواد يكمل لجواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان، ومن الجواب بغير الواجب.

فَفُتِح عليهم بابٌ من صدر المجلس، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه، وجلس وأمسك الناس كلُّهم، فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحقّ، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه، وقالوا له: إنَّ عمَّك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال: "لا إله إلا الله، يا عمّ، إنَّه عظيمٌ عند الله أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تُفتِي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلمُ منك"[1].

نستنتج من ذلك ان هذه الكلمة التي انطقها الامام محمد الجواد "عليه السلام" تؤكد قاعدةً ثقافية في جلوس الإنسان في موقع المبادرات العلمية، فلا بدّ أن يكون ممن يملك علم ما يعلّمه للناس وثقافة ما يجيب الناس عنه، فلا يجلس مجالس العلماء ليفتي الناس بما لا يعلم من حقائق الإسلام وأحكامه، لأنّ ذلك سوف يقودهم إلى الضلال، لا سيّما أن هذا المجلس هو في نظر الناس ـ ولا سيما العلماء ـ مجلس أهل البيت الذين عوّدوا الناس على أن يجيبوهم بالحقيقة التي لا ريب فيها، بحيث يزول الشك عنهم بذلك، وتذهب الحيرة من أفكارهم، ما يجعل جلوس الجاهل سبباً في النظرة السلبيّة إلى أهل البيت "عليهم السلام" باعتباره منه، ويؤدي إلى فقدان الثقة بهم، في الوقت الذي يمكن للناس أن يرجعوا إلى العالم بالأحكام، وهو الإمام محمد الجواد، الذي يتميز عنه ـ عن عمّه ـ بالعلم الغزير والإمامة الهادية.

فإنه لا يجوز للإنسان أن يفتي الناس بغير علم وفي الساحة من هو أعلم منه ممن يملك العلم كله.

جعفر رمضان

 

[1] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية (، ج:5، ص:100.

المرفقات