اكتسبت مدينة سامراء المقدسة أهميتها منذ أن احتضنت نورين من أنوار الإمامة وسبطين من أسباط النبوة, فتقدّس ترابها بأريج الإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) وخالطت تربتها أطهر الأجساد وأزكاها, ومنذ ذلك اليوم أصبحت سامراء نقطة مضيئة في تاريخ المسلمين ومزاراً لهم يتوافدون عليها من مشارق الأرض ومغاربها, ليستلهموا المعاني السامية والمبادئ العظيمة التي جسدها الإمامان العسكريان (ع). ويستذكروا المآسي والآلام التي واجهاها من قبل السلطة العباسية بإحياء شعيرة الزيارة, فأصبحت سامراء مهوى القلوب وملتقى النفوس المؤمنة الموالية لأهل البيت والذين حرصوا على إبقاء جذوتها متقدة في النفوس من خلال التعبير عن مشاعرهم وحبهم للإمامين (ع).
سامراء في التاريخ
سامراء اسم موغل في القدم يشخص في عمق التاريخ فتشخص معه الحضارات التي تعاقبت على تلك المدينة، و(سامرّا) اسم آرامي وهو في أصله مقصور كسائر الأسماء الآرامية بالعراق مثل (كربلا) و(وحرورا) وغيرها، وقد مدّ العرب كثيراً من هذه الاسماء الآرامية المقصورة في استعمالهم إياها خصوصاً في الشعر إلحاقاً لها بالأسماء العربية أو توهّماً منهم إنها عربية تجمع بين المدّ والقصر مثل كثير من الاسماء التي انطوت عليها اللغة العربية ذات الأصول العربية.
أما معناها فلم يذكر المؤرخون معنى لكلمة (سامرّا) الآرامية وذلك لصعوبة تفسير الأسماء الموغلة في القدم ،غير أن هناك افتراضات عديدة ذكرها المؤرخون والمستشرقون كون أن اللغة الآرامية فرع من فروع اللغة السامية الأم، ومن هذه الافتراضات إنها ــ أي سامرّا ــ عند الآراميين كانت فرصة كبيرة لإرسال السفن في دجلة أو دار صناعة لها وأوّلوا لذلك من التشمير أي الإرسال فيقال: شمرت السفينة ــ أي أرسلتها ــ
وقال الأب أنستاس الكرملي: لا جرم أن الذي أسس سامراء وبناها هو الخليفة العباسي المعتصم بالله، أما اسم المدينة فليس من وضع المعتصم نفسه, بل هو قديم في التاريخ فقد ذكره المؤرخ الروماني أميانس مرقلينس الشهير الذي ولد سنة 320 ميلادي وتوفي سنة 390 بصورة سومرا, ونوّه به المؤرخ اليوناني زوسيمس من أبناء المائة الخامسة للميلاد صاحب التاريخ الروماني، بصورة (سوما) وقال: ويظن أهل النقد من أبناء هذا العصر إنه سقط من آخر الاسم حرفان والأصل (سومرا).
وورد اسمها في مصنفات السريان (شومرا) بالشين. وعرفها ابن العربي باسم (السامرة). وقال هرزفيلد عالم الآثار الألماني: إن اسم هذه البلدة قد جاء في الكتابات الآشورية بصورة (سرمارتا) وإنها كان لها في أيام الفرس شأن كبير في محاربتهم الرومان.
أما ما قيل عن معنى اسمها من (سر من رأى) أو (ساء من رأى) أو ما شابه ذلك, فيقول الأستاذ كاظم الدجيلي: إنها من مخترعات المخيلة ومن التآويل التي انتجتها قرائح بعضهم إجابة للعقل الذي يحب الوقوف على أسرار الكون والاكتفاء بما يرضيه ولو فكروا قليلاً لأقروا إن تأويلهم بعيد لقدم ورود الاسم ولعله من وضع البابليين أو الآشوريين أو الكلدانيين أو غيرهم من الأمم الخالية فكيف يطلب لها معنى في اللغة العربية ؟
وقد كثرت الأساطير في اسم سامراء ككل مدينة عريقة في القدم فقد ذكر لها ياقوت الحموي كثيراً من الأسماء غلبت على أكثرها الأساطير منها أنها ــ أي سامراء ــ قد بناها سام بن نوح عند خروجه من السفينة فسميت (سام راه) أي طريق سام، ومنها إنها كانت مدينة قديمة من مدن الفرس تُحمل إليها الأتاوة التي كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم، لأن (سا) اسم الأتاوة و(مرة) اسم العدد والمعنى إنه مكان قبض عدد جزية الرؤوس .....
ويعقّب الأستاذ جعفر الخليلي على هذه التآويل فيقول: إن كل تلك التأويلات ليس لها أساس من الصحة. ثم يفنّدها بدلائل قطعية ويتطرّق إلى الأسماء التي سمّاها ياقوت الحموي لهذه المدينة ونسبها إلى العربية فيقول: إن جميع لغات (سامرا) التي يقول فيها ياقوت: سُر من رأي, وسر من رى, وسر من راء, وساء من رأى, وسام راه الفارسي, وسرور من رأى, وسرّاء ...... ما هي إلا تلاعب بالألفاظ وتخريجات منه للتفاؤل تارة وللتشاؤم تارة أخرى، إلا أن تسمية المدينة بـ (سر من رأى) غلبت على جميع التسميات لان المعتصم شاء ذلك ثم ضعف بمرور الزمان.
سامراء عراقة الحضارة
ظهر من خلال التنقيبات الأثرية في أطلال سامراء إنها كانت آهلة بالسكان منذ أدوار ما قبل التاريخ, فقد كشف عالم الآثار الألماني هرزفيلد فيها عن مقبرة تعود إلى تلك الأدوار بين السن والصخر، وهي تبعد عن آثار العصر العباسي على نحو ميل واحد من جنوب دار الخليفة ــ أي دار العامة ــ القائمة بين الأواوين الثلاثة, وعثر على نوع من الفخار المصبوغ أطلق عليه اسم فخار سامراء وهو يمثل دوراً من أدوار ما قبل التاريخ وقد سمي (دور ثقافة سامرا).
ثم عثرت مديرية الآثار العراقية على موضعين آخرين في سامراء ترتقي عصورهما إلى ذلك الزمن، أحدهما شمالي المقبرة والآخر على ضفة دجلة ويسمى هذا الموضع تل الصوان و جاء هذا الاسم في الكتابات الآشورية باسم ( سرمارتا) وكان له شأن كبير في أيام الفرس في محاربتهم الرومان خاصة ولقربه من النهر المعروف بـ (القاطول) الكسروي أي القناة الكسروية.
كما عُثر على تماثيل في هذا الموقع في الحفريات يرجع تاريخها إلى الألف السادس قبل الميلاد، وقد دلّت هذه الحفريات في تل الصوان والتي تبعد عن مدينة سامراء الحالية حوالي عشرة كيلو متر على وجود حضارة منظمة مستقرة تعتمد الزراعة وإعمار الأرض في معيشتها, وقد وصف سامراء الكاتب الروماني (إيمانس مرقلانس) في رحلته التي رافق بها الأمبراطور (يوليانس) في حملته سنة 363 م على بلاد الفرس في عهد شاهبور الثاني المعروف بـ (ذي الاكتاف) وصفاً دقيقاً.
ففي تلك السنة وقعت معركة حامية على أرض سامراء بين الرومان والفرس وقد انتصر فيها الفرس وعادت جيوش الرومان مقهورة عبر دجلة وقد دل هذا الوصف على ما لهذه المدينة من أهمية في تلك الفترة وهو أقدم وصف لها.
أطلال سامراء
اشتهرت سامراء بكثرة أطلالها التاريخية العريقة وقد ألِفت إنشاء الأديرة على أرضها الخصبة لتسهيل عيش الرهبان والراهبات وكان لضفاف الأنهار الكثيرة والقنوات الكبيرة في تلك المدينة الحافز لإنشاء تلك الأديرة فلا حياة بغير ماء ونبات، وعلى الرغم من الحوادث الكثيرة التي ذكرها المؤرخون من طغيان مياه دجلة وإقبال المد وغرق كثير من الأراضي إلا أن تلك الأديرة كانت تُعمّر بين فترة وأخرى.
أما أقدم هذه الأديرة فهو الدير الذي صارت فيه دار الخليفة المعتصم المعروفة بدار العامة وصار هذا الدير بيت المال ولم يذكر المؤرخون أي اسم لهذا الدير, لكن الأستاذ جعفر الخليلي وضع له اسماً فقال: لم أجد في المراجع النصرانية ولا كتب الأديرة ولا غيره من الكتب التي أرخت الأديرة ذكراً لهذا الدير فسميته دير سامرا ....
وإلى جانب تلك الأديرة هناك آثار أخرى شاخصة حتى الآن، مثل الجامع الكبير الذي يتميز بوجود المئذنة الملوية التي تُعد من أبرز معالم سامراء الأثرية من عهد الخلافة العباسية.
سامراء في عهد الخلافة العباسية
عندما تولى المعتصم الخلافة عام 218 هـ ضاقت بغداد بجنده الأتراك الذين كان يكثر منهم الشر، فكانوا يضربون الناس في الأسواق ويسيئون إليهم فعزم على مغادرة بغداد وتنقّل في عدة مواضع حتى اختار سامراء، ويُعد عام (221 هـ) هو تاريخ بداية حياة سامراء عاصمة للخلافة العباسية، فأمر المعتصم ببناء القصور والدور واستقدم المهرة من الصناع والفنيين لتشييد قصوره وبناياته وجلب أصناف الأشجار المثمرة من جميع البلدان فغرست البساتين وارتفعت القصور وأقيمت الدواوين ومدّت الأسواق وشيّدت الثكنات العسكرية، ومن سامراء توجه المعتصم لمحاربة البيزنطينيين, وفي سنة 227 توفي المعتصم ودفن في سامراء في قصره المعروف بالجوسق، وعندما تولى ابنه الواثق الخلافة انشأ قصره المعروف بالهاروني الذي صار قبراً له بعد موته.
وجاء بعده أخوه المتوكل الذي كان مُولعاً في بناء القصور فبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك, فبنى قصر العروس, وقصر المختار, والوحيد, والجعفري, والغريب, والصبح, والمليح, وبستان الايتاخية, والتل, والجوسق, وبركوان, والقلايد, والغرد, والماجوزة, والبهو, واللؤلؤة.
وقد ذكر المؤرخون أرقاماً خيالية في بناء هذه القصور وبخاصة قصر الجعفري الذي حمل اسمه والذي يقول عنه ابن كثير: إن المتوكل أنفق على عمرانه أموالاً تجلّ عن الحصر !!
وفي الوقت الذي كان يبني هذه القصور وينفق عليها هذه الأموال الكثيرة أمر بهدم قبر سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وحرث موضع القبر في كربلاء وأجرى عليه الماء ولم تطل مدة مكوث المتوكل في قصره الجعفري أكثر من تسعة أشهر حتى قُتل فيه فتولى الخلافة بعده ابنه المنتصر الذي أمر بهدم قصور أبيه وصارت مواضعها موحشة كأنها لم تُعمّر.
ولما توفي المنتصر ودفن في أطلال قصر الجوسق في عام 252 هـ بُويع للمعتز في سامراء وظهرت في زمانه الفتن وجرت بينه وبين المستعين معارك شديدة انتهت بانتصار المعتز وهروب المستعين إلى واسط فبعث المعتز إليه من قتله وحمل رأسه إلى سامراء, وكثرت الاضطرابات سنة 253 في سامراء.
وفي عام 254 هجرية توفي الإمام علي بن محمد الهادي (ع) في سامراء ودفن في داره وكان المعتز قد بعث بأخيه ليصلي عليه, فلما كثر بكاء الناس وعويلهم أمر بردّ النعش إلى داره (ع) فدفن فيها, وفي عام 255 هجرية خُلع المعتز وقُتل في الحمّام فبويع للمهتدي, وفي عصره قامت ثورة الزنج التي أشغلت الخلافة العباسية حتى سنة 270 هجرية ودارت بين الزنج وجيوش العباسيين حروب طاحنة انتهت بانتصار الموفق ولي عهد المعتضد.
وفي زمن المهتدي قويت شوكة الأتراك الذين قضوا عليه بعد أحداث طويلة فتولى الخلافة ابنه المعتمد سنة 256 وفي خلافته توفي الإمام الحسن بن علي العسكري (ع) سنة 260 هجرية ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه الإمام الهادي (ع). وفي عام 279 هجرية ترك المعتمد سامراء واتخذ بغداد عاصمة للخلافة بعد أن بنى قصره المعشوق فمات في نفس السنة في بغداد وحُمِل إلى سامراء ودفن فيها.
وهكذا انتهت قصة سامراء عاصمة للخلافة العباسية والتي عاشت حوالي خمس وخمسين سنة ملك بها ثمانية خلفاء هم المعتصم, والواثق, والمتوكل, والمنتصر, والمستعين, والمعتز, والمهتدي, والمعتمد.
التشيع في سامراء
ظهر التشيّع جلياً في سامراء منذ أن أقام بها أقدس شخصين وطئت أقدامهما أرضها ألا وهما الإمامان علي الهادي والحسن العسكري (عليهما السلام)، حيث شاهد الناس ما لهما من السجايا الحميدة والمزايا الفريدة فهما وارثا العلم الإلهي وفرعا الشجرة المحمدية، وكان التشيع فيها راسخ القدم حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فحاربه وقتّل الشيعة فيها واقتفى أثره في هذه المحاربة بعد أمد بعيد السلطان سليم العثماني الذي جرت على نهجه السياسة العثمانية في محاربتها للشيعة وكان أشدهم مراد الرابع.
ولما جاء المرجع الكبير المجدد السيد محمد حسن الشيرازي إلى سامراء جُمّدت تلك الحرب واستعاد التشيّع فيها نشاطه العلمي والثقافي وهاجر إليها كثير من طلبة العلم من البلدان كافة، فقد أسّس المجدد الشيرازي فيها مدرسة عظمى للعلوم الدينية وقد وقعت حادثة التنباك المشهورة في عصره ومنها أصدر فتواه التي كان لها دويّ كبير في العالم، وعاشت سامراء في عهد المجدد الشيرازي عصرها الذهبي، وبعد وفاته (قُدِّسَ سرُّه الشريف) عام 1312 هـ تولى أمر التدريس ومهمة الافتاء تلميذه الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي حرص على إبقاء مؤسسة أستاذه متفاعلة ومتواصلة ومستمرة وفاءً منه لأستاذه وسلفه الصالح. وعندما احتلت القوات البريطانية سامراء عام 1917 غادرها الميرزا محمد تقي الشيرازي إلى الكاظمية ومنها إلى كربلاء. وقد جُدِّدت هذه المدرسة بعد مائة وثلاثين سنة من تأسيسها أي في عام (1338هـ) على يد المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف).
محمد طاهر الصفار
.....................................................................................
1 ــ المختصر في أخبار البشر / في حوادث سنة 245 هجرية
اترك تعليق