ابن الخِلفة... الشاعر الملهم

كان أبوه يتوقع له مستقبلا باهراً في فن البناء وهو يرى مهارته وموهبته في هذا الفن تشبُّ معه منذ صغره فكان يعدّه لأن يحلّ محله في حرفته التي اشتهر بها حتى طغت على اسمه فعرف بـ (الخِلفة) وهي كلمة عامية تطلق على من يدير شؤون العمل في البناء.

كان الابن يتلقّف من أبيه ما يعلّمه إيّاه ويقلّده في صناعته ببراعة وذكاء تُشعر الأب بارتياح نحو مستقبل ابنه الوحيد فاصطحبه معه من بغداد إلى الحلة وهو يحلم بالنجاح الباهر الذي سيحققه ابنه الموهوب في هذه المدينة.

لكن (الخِلفة) لم يدرِ إن ابنه ستسرقه أضواء الأدب والشعر من حرفته في الحلة وإنه لن يبني فيها دوراً وبيوتاً, بل سيصوغ فيها أبياتاً وقصائد، وإنه لن يضع لمساته في فن البناء, بل سينقش اسمه في سماء الأدب الخالدة, فقد كان ذهنه المتوقد وروحه المتوثبة أميل فطرياً، وتلقفه أسرع نفسياً للأدب حتى ذاع صيته ونافس كبار شعراء عصره، وهو مع ذلك لم يحضر دروساً على يد أستاذ ولم يتعلم من معلم سوى ما كان يسمعه من محاضرات ومساجلات كانت تدور في النوادي الأدبية في الحلة، ولم تقتصر موهبته على الشعر، فقد برع في فن (البند) حتى حاز به على مركز الصدارة في عصره.

هو الشيخ محمد بن إسماعيل البغدادي الشهير بـ (ابن الخلفة) الشاعر الكبير والناثر الملهم ولد ببغداد وتوطن الحلة اتصل بأعلام الأدب الكبار أمثال أحمد النحوي ومحمد رضا النحوي والشيخ شريف بن فلاح، فكان له معهم مساجلات في دار السيد سليمان الكبير و أولاده فعرف من بينهم كعضو له قيمته ومكانته البارزة رغم إنه لم يقرأ كتاباً ولم يطلع على قواعد إعرابية من نحو وصرف، بل كان يستمد كل ذلك من ذوق خاص به.

قال عنه الشيخ علي كاشف الغطاء في كتابه: كان أديباً شاعراً يعرب الكلام على السليقة ولم يحصل على العربية ليعرف المجاز من الحقيقة, وكان يتحرّف بالبناء على أنه ذو اعراب ويطارح الشعراء في غير كتاب, وله شعر في الأئمة الأطهار وفي مدح العلماء والأشراف وكانت له اليد الطولى في فن البند توفي في أول الطاعون الكبير عام (1247هـ) في الحلة ونقل جثمانه إلى النجف الاشرف فدفن فيها.(1)

عرف ابن الخلفة بنَفَسه الطويل من غير أن يخل بجودة القصيدة، وقد أربت قصائده على المائة بيت. ومن شعره قصيدته النونية في مدح أمير المؤمنين (ع) والتي يقول في مطلعها:

أمرنّة سجعت على الأغصــــــانِ   ***   فترنّــحت مرحاً غصونُ البانِ

في روضةٍ غنّاء في أفنـــــــــانِها   ***   غنـــى الهزار بأطربِ الالحانِ

ويقول فيها:

قرنَ الإلهُ ولاءَه بنبـــــــــــــوةِ الــــــــــــــهادي النبيِّ المصطفى العدناني

هو خيرُ خلقِ اللهِ بعدَ نبـــــــيّـــــه   ***   من ذا يقــــــاربُ فضله ويداني

يكفيه مدحُ اللهِ جـــــــــــــاءَ منزّلاً   ***   ومفصّــــــــلاً في مُحكمِ القرآنِ

سَلْ سورةَ الأحزابِ لمَّا فــرّقَ الأحـــــــــــزابَ حين تــراءتِ الجمعـــــانِ

ولعمرِهـــــــــــــــا لمّا علــيٌّ قـدَّه   ***   بمهنّدٍ صــــــــافي الحديدِ يماني

جبريلُ أعلنَ في السماواتِ العُـلى   ***   طوعـــــاً لأمرِ مـــكوّنِ الأكوانِ

لا سيفَ إلّا ذو الفقــــــارِ ولا فتى   ***   إلّا علــــــــــــيٌّ فارسُ الفرسانِ

أما (حسينياته) فهي كثيرة ومطوّلة يقول في إحداها:

يا يوم عاشوراء كمْ لكَ في الحـشا   ***   نارٌ متى أخمـــــــــــــدتها تتسعرُ

لا حرّها يُطفى وليس مدى المدى   ***   تُنسى فلا جــــــاءت بمثلكَ أشهرُ

أيبيتُ مولايَ الحســـــــينُ بكربلا   ***   صـــــادٍ ودمعي بالمحاجرِ يحجرُ

عجباً له يــــــــــــرِدُ المنيّةَ ظامئاً   ***   وله الشفـــــــاعةُ في غدٍ والكوثرُ

عجباً لسيـــــــــفِ الحقّ ينبو حدّه   ***   بغياً وكســــــــــرُ الدينِ فيه يجبَّرُ

عجباً لآلِ محمــــــــــدٍ بيدِ العدى   ***   تُسبى وعيــــــــــنُ اللهِ فيهمْ تنظرُ

وقد عاصر ابن الخلفة الهجوم الوهابي البربري الوحشي على كربلاء المقدسة حيث كان متواجداً فيها, فكان شاهداً على المجزرة الفظيعة التي ارتكبها الوهابيون بقتلهم الأبرياء وانتهاكهم حرمتها فقال يصف تلك الأعمال الإجرامية والفظائع التي ارتكبوها من قتل ونهب وسلب وانتهاك للحرمات:

فيا كربلا كم فيــــكِ كـرٌ منَ البلا   ***   فما أنتِ إلّا للـــحــــــــــوادثِ مهيعُ

وما أنتِ إلّا بقعة جـــــــادَ رسمُها   ***   غمـــــــــــــــائـمَ غمٍّ بالنوائبِ تهمعُ

فكمْ في ربــاكِ روِّعتْ لابنِ فاطمٍ   ***   حَصَـانٌ وبـــالصـمصامِ جُدّلَ أورعُ

وكمْ فيكِ أكبـــادٌ تلظّتْ من الظما   ***   وكأسُ المنايا من حشا السيفِ تُكرعُ

وقد وثق في قصيدته هذه الحادثة تأريخاً لتكون وثيقة تاريخية تدين هذه الجريمة البشعة فقال:

وفي منتهى ألفٍ وميتيـــــن حجةٍ   ***   وسبع تليــــــــــــــها خمسة ثم أربعُ

بكِ الدهــــــــرُ أيْمُ اللهِ جـدَّدَ وقعةً   ***   أجلّ من الأولــــــــى وأدهى وأفظعُ

كما ذكر فيها عدد القتلى الذين سقطوا على يد هذه الزمرة الضالة المجرمة فقال:

لئن قتلتْ في تلكَ سبعــونَ نسمةً   ***   فستّة آلافٍ بذي المـــــــــوتِ جُرّعوا

ويصف المأساة التي حلت بأهالي كربلاء والأساليب الوحشية التي مارسها الوهابيون ضدهم وزرع الرعب في قلوب النساء والأطفال فيقول:

ينادون بالإعـــــــــلان يــا أهلَ كربلا   ***   أتيناكمُ عـــودوا عن الشركِ وارجعوا

فكمْ في نــــــــــــــداهمْ سُبَّ للهِ حرمةً   ***   وكمْ في مـــــــــــداهمْ جُزّ للآلِ منزعُ

فظلوا دمــــــــــــاءً واستحلوا حرائراً   ***   وغُودرَ مــــــــــــــــالُ اللهِ فيهمْ يوزّعُ

فذي ثاكلٍ خمـــصاءَ بطن من الطوى   ***   ومن شلوِ هـــــــــــاتيكَ الجوارحُ شبّعُ

وأخرى تنادي لم يجبها سوى الصدى   ***   كما رنّ فوق الأيـــــــــكِ ورقٌ مرجّعُ

وقال يصف تهديم الوهابيين الضريح الطاهر للإمام الحسين (ع) وتحطيم الشباك ونهب النفائس والخزائن منه وقتل كل من فيه:

وفي حضرةِ القدسِ التي جلَّ قـــدرُها   ***   بها الملأ الأعــــــــــــلى سجودٌ وركّعُ

تذبَّح خدامٌ لهـــــــــــــــا في عراصِها   ***   ويأمنُ فيــــــــــــــها الخائفُ المتروِّعُ

فيا غيــــــــــــرة الله استفزّي بما لقت   ***   ثمودٌ من التدميـــــــــــــــرِ مـنكِ وتبَّعُ

أتهدمُ للنــــــــــــــــــــــورِ الإلهيِّ قبةٌ   ***   على الفلكِ الدوّارِ تـسمـــــــــو و ترفعُ

ويقلعُ بــــــــــــــــابُ اللهِ عن مستقره   ***   وعـن كـــــــــــــلِّ داعٍ لا يُردُّ و يردعُ

وتهتكُ حجُــــــبُ اللهِ عن أوجهِ التقى   ***   عتــاة بغيرِ الشـــــــــــــــركِ لا تتبرقعُ

وتنهبُ من بغــــــــــيٍّ خزائنُ من له   ***   من العــبدِ خــــــــــــزّانُ النعيمةِ أطوعُ

ويحطمُ شبّـــــــــــــــاكُ النبوّةِ بالظبا   ***   جُذاذاً وصـــنــــــــــــــدوقُ الإمامةِ يقلعُ

وهي قصيدة طويلة جداً تبلغ أكثر من ثمانين بيتاً فيها وصف دقيق لما جرى في تلك الحادثة يقول في خاتمتها يستنهض الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف:

متى يا إمــــــــــامَ العصرِ تقدمُ ثائراً   ***   تقومُ بأمرِ اللهِ بالــــــــــــــــــحقِّ تصدعُ

وتردي بمسنونِ الغـــــــرارِ عصائباً   ***   مدى الدهرِ قد سنّوا الضــــلالَ وأبدعوا

وتنظرُ أشيــــــــــــاعاً عُفاةً جسومُها   ***   لفرطِ الأسى والقلبُ منـــــــــــــها مشيَّعُ

وفي كربـــــــــلا عرِّجْ يريكَ مؤرِّخاً   ***   ألوفكَ يا للهَ بالتربِ صُــــــــــــــــرّعوا

ولابن الخلفة في رثاء الإمام الحسين وأخيه العباس (ع) مطوّلات دلّت على نَفَسه الطويل وإلمامه باللغة.

أما في فن (البند) أو المقامة، فقد برع فيه وتنوّع في فنونه حتى عُدّ من أبرز مرتاديه. ولبراعته في هذا الفن، اختار السيد مهدي السيد داود شيخ شعراء عصره، إحدى مقاماته وأرسلها إلى الشاعر السيد راضي القزويني البغدادي, كما أثبتها السيد مهدي في كتابه (مصباح الأدب الزاهر)، ونقلها عنه ابن أخيه السيد حيدر الحلي (2)

وهذا البند أو المقامة التي اختارها أرباب الشعر والأدب في ذلك الوقت قالها ابن الخلفة في مديح للإمامين الهمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد (ع)، يقول فيها:

مثل إعلاني بمدحي للإمامين الهمامين التقيين، الوفيين الصفيين، من اختارهما الله على الخلق، وسنا منهج الحق ومن شأنهما الصدق بل الرفق، هما السر الحقيقي، هما المعنى الدقيقي، هما شمس فخار خلقا في ذروة المجد، هما عيبة علم ما له حد، فأسماؤهما قد كتبا في جبهة العرش بلا ريب، هما قد طهرا بالذكر من رجس ومن عيب، هما قد أحرزا يوم رهان وسط مضمار المعالي قصب السبق، حكى جودهما الودق، إذا جادا على الروضة تحدوه النعامى، رفع الله على هام الثريا لهما قدراً وفخراً ومقاما، ليت شعري هل يضاهي فضل موسى كاظم الغيظ، بعلم أو بحلم أو بجود أو بمجد ونداه قد حكى البحر طمى في لجة الغيض، هو العالم والحاكم والفاصل والفاضل والقائم والقاعد والراكع والساجد والضارع خدّاً خشية الله، فمن أوضح للدين الحنيفي لدى العالم إلاه يرى البشر لدى الحشر، إمامٌ طافت الأملاك في مرقده إذ هو كالحج، وللتقوى هو النهج، وللجدوى هو الموج، في طلعته البدر إذا تمّ، ومن راحته اليمّ، كذا المولى الجواد البطل الليث الكميّ اللوذعي الزاهد الشخص السماوي ومشكاة سنا النور الإلهي، عماد الدين موفي الدين، وهاب الجياد القب الجرد لدى الوفد ببذل زائد الحد، فتى جل عن الند شذاه، وعلى البدر سخاه، فهما عقد ولائي ومنائي وغنائي وسنائي بهما يكشف كربي وبدنياي هما عزي وفخري، بل وذخري حين لا يقبل عذري بهما صدق اعتقادي بودادي.....الخ 

ولابن الخلفة مجموعة كبيرة من البنود متنوّعة الأغراض قالها في تعظيم الله تعالى والثناء على الرسول ومدح العترة الطاهرة وقد نقل بعضاً منها السيد الأمين (3).

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

..............................................................................

1 ــ الحصون المنيعة في شعراء الشيعة ج 9 ص 335

2 ــ العقد المفصل ج 1 ص 107

3 ــ معادن الجواهر ج 3

المرفقات

: محمد طاهر الصفار