فاجعة الطف وجريمة قطع الرؤوس ج1 (تاريخ ظاهرة قطع الرؤوس والتمثيل بها)

 

المقدمة

من الظواهر المرعبة والوحشية ـ التي بلغت الذروة في بشاعتها هذه الأيام ـ هي ظاهرة الإسراف في إراقة الدماء وقتل الإنسان، وأفظع منها وأبشع جريمة قطع الرؤوس وحملها والتمثيل بها، وهذا ما نشاهده بشكل يومي على أيدي عصابات متمرّسة في صناعة الجرائم الدمويّة، كالقاعدة وداعش ونظائرهما؛ ولم تكن تلك الجريمة بدعاً من القول في العصر الحاضر، بل لها أطنابها وإسفينها الضارب في عمق التاريخ، فقد شهدت اُمم مختلفة هكذا جرائم سوداء بحق الإنسانيّة.

لكن يبقى لمعركة كربلاء من تلك الجريمة النكراء نصيبها الأكبر وقسطها الأوفر، فتجسّدت فيها أبشع مشاهد الإرهاب وصُوره، حيث عَمَد المجرمون في أرض الطفوف إلى قطع رؤوس الشهداء من العترة الطاهرة والمؤمنين من أنصارهم، وحملوها ومثّلوا بها ووضعوها على أسنّة الرماح؛ ليرسلوها بعنوان هدية النصر ـ المزعوم ـ إلى طاغيتهم اللعين يزيد بن معاوية.

نتناول في هذا المقال ظاهرة قطع الرؤوس والتمثيل بها في ثلاث محاور أساسيّة، نستعرض في المحور الأول امتدادها التاريخي، وفي المحور الثاني نسلّط الأضواء على أهدافها وآثارها الاجتماعية، ويختص المحور الثالث بتحديد الموقف الإسلامي من ظاهرة قطع الرؤوس وحكمها الشرعي.

 

تاريخ ظاهرة قطع الرؤوس والتمثيل بها

تُعدّ ظاهرة قطع الرؤوس من أبشع الظواهر التي شهدها تاريخ البشريّة، وإذا راجعنا تاريخ هذه الظاهرة نجدها بدأت ظاهرة فردية حتى فعّلها بنو أُمية وأتباعهم فوصلت أوجها في معركة الطف، ولمّا كان حديثنا يركّز على هذه الظاهرة في واقعة الطف سنقسّم حديثنا عن تاريخها على قسمين:

1ـ قطع الرؤوس والتمثيل بها قبل واقعة الطف

حينما نرجع إلى النصوص التاريخيّة نقرأ في مطاويها بعض الأفعال والممارسات الفردية والمحدودة بهذا الخصوص، ولا نجد في التاريخ حديثاً حول قطع الرؤوس والتمثيل بها وإهدائها من مكان إلى مكان بمستوى ما حدث في فاجعة كربلاء كما سيأتي مفصّلاً، وإنّما أحصى المؤرخون في هذا المجال بعض الحوادث المتفرّقة والفردية لأشخاص معينين، ولعلّ أوّل جريمة بشريّة ارتُكبت على هذه الأرض هي جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل، ولم يروِ لنا القرآن الكريم ولا كتب التاريخ أن قابيل قد مثّل بجثّة أخيه، أو أنه بادر لقطع رأسه، وإنما اكتفى بقتله ثم دفنه. نعم، نقل لنا التاريخ القديم وكذا الروايات الشريفة صورة أُخرى عن مقتل النبيّ يحيى بن زكريا عليهما السلام  ترتبط بموضوع بحثنا، فمن ذلك ما رواه ابن شهر آشوب في مناقبه: «عن علي بن الحسين عليه السلام  قال: خرجنا مع الحسين، فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه إلّا وذكر يحيى بن زكريا. وقال يوماً: من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى أُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل». وتفصيل القصّة ينقلها ابن شهر آشوب أيضاً في حديث آخر: «عن زين العابدين عليه السلام : أن امرأة ملك بني إسرائيل كبرت وأرادت أن تزوج بنتها منه للملك، فاستشار الملك يحيى بن زكريا فنهاه عن ذلك، فعرفت المرأة ذلك وزيّنت بنتها وبعثتها إلى الملك، فذهبت ولعبت بين يديه، فقال لها الملك: ما حاجتك؟ قالت: رأس يحيى بن زكريا. فقال الملك: يا بنيّة، حاجة غير هذه؟ قالت: ما أُريد غيره. وكان الملك إذا كذب فيهم عُزِل عن ملكه، فخُيِّر بين ملكه وبين قتل يحيى. فقتله، ثم بعث برأسه إليها في طشت من ذهب»[1].

إن هذه القصة المؤلمة تضمّنت أوّل ممارسة لجريمة التمثيل بالرؤوس في تاريخ ما قبل الإسلام، ولبشاعة هذه المصيبة التي جرت على هذه الشخصية العظيمة بكت السماء دماً أربعين يوماً، كما ورد في بعض النصوص الشريفة، وكانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمراء[2].

لكن تبقى هذه الحادثة خاصّة وشخصية، ولا تضاهي حقيقة ما جرى من الجرائم في معركة الطف للقضاء على النهضة الحسينيّة المباركة، التي أعلنت شعار الإصلاح والوقوف بوجه الطغاة والظالمين والمفسدين. ونحن إذ نُقرّ بأنّ المقتول في كلا الجريمتين عظيم وذو مقام رفيع ومنزلة كبيرة عند الله تعالى، لكننا حينما نتأمل في وقائع الفاجعتين، ونتصوّر ما جرى في كربلاء من انتهاكات وتمثيل بأجساد الشهداء وقطع رؤوسهم وحملها من بلد إلى بلد وإهدائها إلى أراذل خلق الله، تتضح فضاعة جريمة كربلاء جليّاً وتفوق بشاعتها ما جرى في حادثة نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام ، بل كونها أبشع جريمة شهدها تاريخ الإنسانية، وقد جمعت في مشاهدها قتل الصفوة الطاهرة والكمال الإنساني الذي لا يتكرّر ولا يتجدّد.

وهكذا الحال فيما لو قارنا ما جرى في كربلاء بالجرائم الأُخرى التي وقعت قبل الإسلام وبعده إلى يوم الطف؛ إذ نلمس أن كلّ ذلك حوادث فردية ارتُكبت بحقّ أشخاص لا يمتلكون ذات الكمال والعظمة والقرب الإلهي الذي امتاز به الإمام الحسين عليه السلام ، فمن ذلك الحادثة التي يرويها المؤرّخون والتي وقعت قبل الإسلام بتسع سنين تقريباً، وهي حادثة مقتل سعد بن الرقيم الذي كان قائماً على الطائف، ارتكبها صهيب بن شعيب؛ لأنّه خالف رأيه، حيث قطع رأسه أمام أعين الناس وقرب سوق عكاظ![3]، وكذا الحال بالنسبة إلى سائر الأمثلة الأخرى، وهي كثيرة جدّاً، لكنها لا تشابه كربلاء ولا تُقاس بما جرى في واقعة الطف.

 ولم يحدّثنا التاريخ الإسلامي بأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله  قد سنّ ذلك النوع من الجرائم أو عمل به، فلا أهدى ولا أُهديت له رؤوس الكافرين من أعدائه، ولا حُملت من مكان إلى آخر[4].

نعم، إن قطع الرأس في ذلك الزمان كان وسيلة وطريقة معمول بها لقتل الإنسان المعتدي والمحارب أو الجاني الذي يستحق القتل والقصاص، من قبيل طُرق القتل وأساليبه المتعارفة والمألوفة في هذا الزمان، حيث يتمّ قتل المعتدين والمحاربين بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، والاقتصاص من الجناة بإعدامهم رمياً بالرصاص أو بإزهاق أرواحهم بالكهرباء أو العقاقير أو شنقاً بالحبال ونحو ذلك، وما هذه إلا أساليب ووسائل وطُرق متنوّعة للقتل والإعدام، وكان الضرب بالسيف وقطع الرؤوس أحد تلك الطرق والأساليب.

ولكن لم تكن ظاهرة التمثيل بالرؤوس وحملها وإهدائها بعد قطعها من السنن المتبعة، ولا من الظواهر والأعراف الجارية والمألوفة في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك.

ولعلّ من أوائل الحوادث التاريخية التي وقعت بعد الإسلام فيما يرتبط بمحلّ البحث ـ وقد تحدّث حولها الكثير من المؤرخين؛ لكونها الأُولى من نوعها ـ هي جريمة خالد بن الوليد مع الصحابي الجليل مالك بن نويرة، حيث عمد بعد قتله إلى قطع رأسه والزنا بامرأته ظلماً وعدواناً، ثم ـ ولإكمال مشهد الجريمة وإبراز قسوة الإنسان بحقّ أخيه الإنسان ـ أخذ خالد رأس الصحابي مالك وجعله في أثفية القدر، وكانت القدر على رأسه حتى نضج الطعام!![5].

وقد نقل لنا المؤرخون[6]: بأن أوّل مَن سن ظاهرة إهداء الرؤوس في الإسلام، وجرت العادة بعده، هو معاوية بن أبي سفيان، وذلك حينما أُهدي إليه رأس عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل، والذي أسلم قبل الفتح وهاجر، قال ابن كثير: «إن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا له أن يمتّعه الله بشبابه، فبقي ثمانين سنة ولا يُرى في لحيته شعرة بيضاء، وهو أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان، ثم صار بعد ذلك من شيعة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وشهد معه الجمل وصفين وكان من جملة من أعان حجر بن عدي، فتطلبه زياد، فهرب إلى الموصل، فبعث معاوية إلى نائبها فوجدوه قد اختفى في غار، فنهشته حية فمات، فقطع رأسه فبعث به إلى معاوية، فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف فيه»[7].

ثم تبعه أيضاً إهداء رأس محمد بن أبي بكر إلى معاوية بن أبي سفيان، بعد أن قتله عمرو بن العاص وأحرق جسده الشريف في جيفة حمار بالنار (رضوان الله عليه)[8].

وهكذا ترادفت وتتالت الحوادث الإجرامية وحالات البطش وسفك الدماء، كما هو معروف من سياسية الأُمويين الظالمة، وعلت وانتشرت وشاعت سنّة القتل والتمثيل والصلب وإهداء الرؤوس في البلدان الإسلاميّة، وما ذلك إلّا لإشاعة الخوف في نفوس الناس وترهيبهم؛ ليكون ذلك دافعاً للخنوع والسكوت ورادعاً للاعتراض أو المشاركة في الثورات المناهضة للحكم الأُموي، وفي هذا السياق قام عبيد الله بن زياد بأوّل جريمة لرفع الرؤوس على خشبة في بلاد الكوفة، ذلك حينما رفع رأس مسلم بن عقيل ورأس هاني بن عروة بعد قتلهما وحز رأسيهما والتمثيل بجسديهما في سكك الكوفة وشوارعها، ومن ثمّ أرسلهما هديّة إلى يزيد بن معاوية[9].

إنّ ما ذكرناه من جرائم ومصائب يندى لها جبين الإنسانية، توالت من بعدها المصائب والويلات على الإسلام والمسلمين، بل جرت عادة الظلمة عليه، وأضحت السنّة في قطع الرؤوس والتمثيل بها وإهدائها وخصوصاً بعد ما جرى في واقعة الطف من المآسي، فجرت عادة الجبابرة من بني أُميّة وبني العباس على تلك السنّة النكراء، واستمرّت في أعقابهم وأعقاب مَن تربّى في مدرستهم الإجراميّة إلى يومنا هذا.

 

2ـ قطع الرؤوس والتمثيل بها في واقعة الطف

مع أنّ الأحداث المتقدمة بشعة ويندى لها جبين الإنسانية، إلّا أنّ يوم عاشوراء يبقى هو الخطب الأعظم والفادح الأجل، فلا يوم كيوم أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، حيث المصائب العظمى التي جرت فيه مما يعجز القلم عن توصيفها ويكلّ اللسان عن الإفصاح بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

فاجعة مقتل أولاده عليه السلام  وأصحابه وأبناء عمومته، وعطشه الشديد الذي لو خُلّي عليه السلام  هو والعطش لمات عطشاً، وحينما وقف الإمام عليه السلام  يستريح، أصابه حجر بجبهته المقدّسة، فسالت منها الدماء، ولمّا أخذ ثوبه الطاهر ـ ليمسح الدم عن جبهته ـ أتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب، فوقع في قلبه الشريف فأخرجه من قفاه وانبعث الدم كالميزاب، ثم جاءه مالك بن نسر، فضربه بالسيف على رأسه، ومن ثم بدر إليه الشمر الملعون، فرفسه وطعنه واحتز رأسه المقدس!![10].

ولم يقف حقدهم وإرهابهم عند هذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم وعمدوا إلى جريمة التمثيل والتنكيل بالجسد الطاهر، وبادروا بعدها إلى حرق الخيام وترويع العيال، وسلبهم وسبيهم من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام على نوق هزّل عجاف[11].

أمّا ما يخصّ مسلسل التمثيل بالأجساد الطواهر ـ وهو ما يرتبط بمحلّ بحثنا ـ فقد تمثّل بعدّة صور ومشاهد وجرائم مؤلمة:

أوّلها: جريمة حزّ الرؤوس، حيث بدأوا برأس الإمام الحسين عليه السلام ، ومن ثم رؤوس أهل بيته وأغلب أصحابه[12]، بل رُوي أنهم عمدوا إلى ابنه عبد الله الرضيع فاحتزوا رأسه[13].

وثانيها: سلب الجسد الطاهر، حيث بلغ القوم القمّة في التسافل، فسلبوا الحسين عليه السلام  بعد قتله مباشرة بأخذ قميصه وعمامته ونعله وخاتمه، بل همّوا بسلب سرواله، إلّا أنّ المشيئة الإلهيّة الغيبيّة تدخّلت ومنعت من حصول ذلك[14].

وثالثها: رضّ الجسد الطاهر للإمام الحسين عليه السلام  بحوافر الخيل، حينما نادى ابن سعد لتطأ الخيلُ صدر الحسين عليه السلام  وظهره[15].

نعم، قد ناقش صاحب البحار في أصل وقوع هذه الجريمة ـ بعد نقله للرواية ـ بقوله: المعتمد عندي ما سيأتي في رواية الكافي من أنه لم يتيسّر لهم ذلك [16]. لكنه في مرآة العقول صرّح بضعف رواية الكافي، وأكّد في منتهى شرحه للحديث بالقول: «وبالجملة: الخبر لا يخلو من تشويش واضطراب لفظاً ومعنى»[17]، والمصادر التي تثبت الواقعة من الفريقين كثيرة بما لا يبقى مجال للشك في حدوثها[18].

ورابعها: ترك الأجساد الطاهرة عارية على الرمضاء، من غير غسل ولا كفن ولا دفن، فقد بقي جسد الإمام الحسين عليه السلام  مع أجساد الشهداء من أهل بيته وأصحابه في صحراء كربلاء تصهرهم حرارة الشمس إلى اليوم الثالث عشر من المحرم، حيث جاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام [19]، وتولّى مواراة الأجساد الطواهر، على ما هو عليه اليوم من مدفنهم، بمعونة بعض مَن حضر معه من بني أسد[20].

وخامسها: الطواف برأس الإمام الحسين عليه السلام  ورؤوس أهل بيته وأصحابه في سكك الكوفة، وحمل الرؤوس على أسنّة الرماح وإهدائها إلى الطاغية يزيد بن معاوية في بلاد الشام، ولعلّها الواقعة التاريخية الفريدة من نوعها، حيث التمثيل واستعراض مجموعة كبيرة من الرؤوس ـ يبلغ عددها اثنين وسبعين ـ على أسنّة الرماح من كربلاء إلى الكوفة ومن ثم إلى بلدان عدّة، حتى وصولها إلى بلاد الشام.

ومن مشاهد التمثيل ما قام به الملعون عبيد الله بن زياد من نكث ثنايا أبي عبد الله عليه السلام  بقضيب الخيزران متشمّتاً متشفّياً مستهزئاً[21]، وتكرّرت هذه الجريمة أيضاً في الشام من قِبَل اللعين يزيد بن معاوية، حينما وُضِع رأس الإمام الحسين عليه السلام  بين يديه فأخذ يقلّبه بعصىً من خيزران متمثّلاً بأبيات ابن الزبعرى قائلاً: «ليت أشياخي ببدر شهدوا....»[22]. فيالها من جرائم بشعة وبدع مستحدثة لم يسبق لها ذكر في التاريخ! فالتاريخ قد تضمّن جرائم كثيرة وعمليات إرهابية عديدة، شملت القتل وسفك الدماء والنهب والسلب والمثلة، كما حصل لسيّد الشهداء عمّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حمزة بن عبد المطلب عليه السلام ، حينما أكلت هند اللعينة كبده الشريف، ولكن واقعة كربلاء فاقت كل تلك الوقائع التاريخيّة، وتجلّت فيها أبشع مظاهر الإرهاب والجريمة، وزيادة على تلك الجرائم كلّها عمدوا للإبقاء على الرأس الشريف يدور في أروقتهم، وقد شاء الله تعالى أن يُحدث الرأس المبارك وبقية الرؤوس الشريفة انقلاباً وثورة عارمة على سياسة أُولئك الطغاة، وهذا ما دعاهم للتفكير في إخماد ذلك وتهدئة الناس والمحبين، فأمر الطاغية الأُموي بإرجاع الرؤوس الشريفة مع الإمام زين العابدين عليه السلام  وبقية العيال، فقام الإمام عليه السلام  بدفن الرؤوس مع الأجساد في غاضرية كربلاء يوم الأربعين (العشرين من صفر)[23]. فبقيت الرؤوس الطاهرة أربعين يوماً بلا دفن ولا كفن، وهل يوجد إرهاب أفضع من هذا؟! وهل توجد واقعة أمرّ وأمضّ من تلك الواقعة؟! كلا! بل هي الأُولى من نوعها، ولم يذكر لنا التاريخ ما يقاربها فضلاً عن مماثلتها.

 

تحليل الظاهرة وبيان أهدافها السياسيّة وآثارها الاجتماعيّة

حينما نتأمل في مثل هذه الأفعال الإجراميّة ـ المتمثّلة بالقتل وقطع الرؤوس والتمثيل بها وإهدائها للطغاة ـ نجد أن هناك مجموعة من العوامل والأسباب والأهداف السياسيّة والاجتماعيّة تدعو المجرمين والطغاة لممارسة هذه الجريمة، وهي أهداف تتجاوز مرحلة استهداف النصر في المعركة، بل يسعى الطغاة لتوظيف جرائمهم وجعلها عِبرة رادعة لكلّ المناوئين والمعارضين لحكوماتهم الجائرة، وكلّ مَن يفكر بتحريك الرأي العام والقيام بثورة مناهضة لهم، وفي مجال تحليل تلك الوقائع الإجراميّة والدمويّة التي شهدتها رمال كربلاء، وذكر الأهداف السياسيّة والاجتماعيّة من ورائها يمكننا طرح الوجوه التالية:

الوجه الأوّل: التشفي والحقد الدفين

ومعالم هذا الوجه واضحة وبيّنة من طبيعة الأفعال الشنيعة التي مارسها الظالمون في بحق شهداء كربلاء، فعلى الرغم من قتلهم بأقسى الطرق والأساليب الوحشيّة، عمدوا إلى قطع رؤوسهم والتمثيل بها وإهدائها إلى طغاتهم، ما يكشف عن حقد دفين وضغينة عمياء وتقصّد للتنكيل بالمقتولين، وكأنهم يطلبونهم ثائراً يشبه ثأر هند آكلة الأكباد حينما وقفت على الجسد الطاهر لحمزة بن عبد المطلب عليه السلام  متشفيّة، وقد عمدت إلى تقطيع أحشائه وإخراج كبده الشريف لتأكله!![24].

وهكذا مسألة ضرب ثنيا الإمام الحسين عليه السلام  بقضيب الخيزران كما سبقت الإشارة إليها، تنبئنا بما لا يقبل الترديد بأن القلوب اللئيمة لأُولئك الطغاة قد مُلئت من رذيلة الحقد والكراهية، حيث كانوا يمارسون هذ العمل الإجرامي الفظيع بحق ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله  وهم يضحكون ويتغنّون بأبيات الكفر والجاهليّة.

الوجه الثاني: نشر الرُّعب والخوف في قلوب الناس

قد كان هذا الأمر طموحاً واضحاً لعموم الظالمين وهدفاً مهمّاً في نظر الطغاة؛ فإنّ الخوف من القتل والذبح والإذلال والصور المرعبة للتمثيل بالأجساد يشكّل رادعاً كبيراً للمعارضين، ومبرراً لانتهاج سبيل الخنوع والسكوت والقبول بالذلّ لكلّ الضعفاء، وكلّ مَن يحبُّ العيش ويفضّل البقاء في الدنيا والحفاظ على نفسه وأمواله وحياته وملذّاتها الفانية بأيِّ شكل من الأشكال، ولو كان تحت طائلة الذلّ والعار والهوان، وخير شاهد على ذلك ما جرى لمسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) مع سواد أهل الكوفة؛ فإنهم بمجرّد أن عاينوا مشاهد الخوف ومظاهر التهويل والإرهاب التي مارسها معهم ابن زياد ـ وبمحض تخويفهم مما سيقوم به الجيش الأُموي في الشام لو وصل الكوفة ـ تخلّوا عن بيعتهم وانفرد مسلم وحيداً، بعد أن كان يؤم آلافاً مؤلّفة ممن بايعه على الموت!

وهذا التاريخ يحدّثنا بأن الرادع الأكبر والأخطر في إخماد كثير من الثورات المناهضة والقضاء عليها، هو مبدأ إشاعة الرعب والخوف وسفك الدماء وترويع

 

الأطفال والنساء. وانطلاقاً من هذا المبدأ والهدف مارس المجرمون في معركة كربلاء شتّى أشكال الجريمة وصورها، ابتداءً بالعطش وقطع الماء، ومروراً بالقتل والتنكيل وتقطيع الأجساد، وانتهاءً بقطع الرؤوس وحملها والتمثيل بها وإهدائها وسلب النساء وسبيها، كلّ ذلك حتى لا يفكر أحد بالثورة إلى مدّة طويلة من الزمن[25]، وهذا ما تحقق فعلاً في الأيام التي تلت الفاجعة؛ حيث رضخ الناس حينها وسكتوا، بل لم يعترضوا على ما اقترفه سفهاء الأُمويين من قتل وسلب وسبي وهتك لحرمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، إلّا النزر القليل جداً من أمثال عبد الله بن عفيف الأزدي (رضوان الله عليه)، وما ذلك إلّا للخوف الشديد وأجواء الرعب التي كان يعيشها أهل الكوفة وغيرهم. ونظير ذلك أيضاً ما حكاه التاريخ عن ثورة الزنج التي وقعت في البصرة، وأنّ سبب انتصارها هو خنوع أهلها وخوفهم من القتال والمواجهة، وكان السبب في ذلك هو ما يروى من ممارسة القتل وقطع الرؤوس وسفك الدماء، يقول ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة: «وانصرف صاحب الزنج وجمع الرؤوس وملأ بها سفناً، فجعل الناس يأتون الرؤوس فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم، وسكن الرعب قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه»[26]، فليس العزوف عن قتاله ومحاربته إلا للخوف الذي سكن قلوبهم واضطربت له نفوسهم؛ لما رأوه من قتل وهتك وعذاب.

الوجه الثالث: الإعلان الصارخ عن الغلبة والانتصار وإسقاط شخصيّة الثائر وهيبته

يُعدّ الإيغال في الجريمة وقطع رؤوس المناوئين وحملها والتمثيل بها من أبرز العلامات والسُبل في نظر المجرمين لإشهار النصر وإعلانه، وللتقليل من شأن المقتول وتشويه شخصيته أمام الآخرين، وخصوصاً أتباعه ومحبّيه؛ لئلا يقتدوا به أو يتابعوه في نهضته، لكن خابت آمالهم وانعكست أهدافهم، فالتاريخ يبقى يُخلّد الثائرين والعظماء، صنّاع الحركات والثورات الخالدة ذات الأهداف السامية والنبيلة، وبين أيدينا مسيرة الأنبياء والصالحين والمجاهدين المؤمنين بالله والدار الآخرة شاهدة على ما نقول، إلّا أن الطغاة لا يفقهون أن العاقبة للمتقين، فيرتكبون المجازر ويعتدون على أعظم الحرمات والشعائر الإلهية في سبيل البقاء على كرسي الحكم والسلطة، ولو لأيام معدودة، يتبعون في ذلك الهوى والشيطان، ولا يعلمون أيّ منقلب سوء سينقلبون.

الوجه الرابع: رأس الإنسان يمثل تمام شخصيّته بعد موته

إنّ قطع الرأس يعني اليقين والعلم بموت الخصم، وأمارة واضحة على قتله، ويبقى الرأس هو الفارق الأوضح الذي يميز الشخصيّة المقاتلة عن غيرها، وكأنه الشخص كلّه، فتكون إهانة الرأس والتمثيل به إهانة لذات الإنسان وتعديّاً على شخصيته، ولا يمكن احتمال أن يكون الرأس لشخص آخر، فقد يرد هذا الاحتمال في أيِّ جزء آخر من أجزاء الإنسان، كاليدين والقدمين وغيرهما، حيث الاشتراك والتشابه، لكن يبقى رأس الإنسان مميزاً لشخصيّته، لا يشابه غيره إلّا نادراً، كما أنّ قطعه ينفي احتمال بقائه حيّاً، أو أنّ فيه رمقاً من الحياة! يضاف إلى ذلك سهولة نقله وإهدائه وانتقاله من أقصى البلدان إلى أقصاها، وفي المقابل أيضاً حصول القناعة والتصديق من قِبَل الحكام والطغاة وتحصيل رضاهم،  وإعلام الناس بموت الشخص المعارض والتأثير عليهم، فلا يبقى أحد يؤيّده أو يعزم على مناصرته، كلّ هذه الوجوه دعتهم لارتكاب تلك الحماقات والتعدّيات والجرائم التي عارضوا بها شرع الله تعالى، الذي يؤكّد على وجوب احترام الموتى وحرمة التمثيل بأجسادهم ولو كانوا من الكافرين، فضلاً عن المسلمين.

الوجه الخامس: إسكات الأصوات المعارضة

لعلّ من الدوافع الأساسية لقطع الرؤوس والتمثيل بها، حبّ الذات والأنا، والرغبة الجامحة في القضاء على المعارضين وسحقهم، فالطاغية لا يريد أن يسمع صوتاً يخالف صوته، ولا يخاطبه أحد بكلا! فاعتادت نفسه المريضة على طاعة الناس، ويعيش الطاغي حالة من التكبر والمولوية المصطنعة له من قِبَل حاشيته من المنافقين والمتملّقين والمؤيدين له؛ فيكون من السهل جداً حينئذٍ سحق وقتل كل مَن يقف أمامه، بل والتمثيل به؛ ليكون عبرة ومثلاً لكل مَن يتجرّأ أو يفكّر في المخالفة؛ لذلك لم يرضَ الطغاة من الإمام الحسين عليه السلام  أن يرجع أو يذهب إلى أيّ بلد آخر، بل خيّروه بين البيعة والطاعة أو القتل والشهادة، فقال عليه السلام : «ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة، والذلة، وهيهات منّا الدنية، أبى الله ذلك ورسوله... »[27]. فلم يهابهم  عليه السلام  أو يفكر في الرجوع عن هدفه وطريقه المنشود، وهو الذي خطّ طريق الشهادة بمسيرته من أوّل يوم خروجه من المدينة، معلناً سبيل الجهاد، رافضاً مبايعة الطاغية يزيد، فأخبر الناس بشهادته وما هو صائر إليه بالقول: «خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه، كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا»[28].

 

الكاتب : الشيخ منتظر الإمارة

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

______________________________________

[1] ابن شهرآشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص237.

[2] المصدر السابق: ج3، ص213.

[3] نقلاً عن مقال للكاتب جعفر الونان، الموقع الإلكتروني: www.kitabat.com.

[4] ستأتي الإشارة إلى أن هناك بعض الحوادث التاريخية الخاصة والنادرة واردة عن رسولنا الكريم‘ فيها أمر بقطع العنق، وهي موارد خاصة ببعض المشركين الذين تمادوا في التعدي والإفساد، ولا تُشكِّل ظاهرة أو عادة جارية كما فعل بنو أُمية وغيرهم من الطغاة.

[5] اُنظر: أبو الفداء، إسماعيل، المختصر في أخبار البشر( تاريخ أبي الفداء): ج1، ص158. وكذلك: ابن خلكان، وفيات الأعيان: ج6، ص14. ولقد أجاد في توضيح القصة كاملة العلامة التاريخي سلطان الواعظين في كتابه الفرقة الناجية: فراجع: ج1، ص129.

[6] هناك عدة كثيرة من المؤرخين يؤكدون على أن أوّل عملية إهداء للرؤوس حدثت في زمان معاوية، وأنه أوّل مَن سنّ هذه الظاهرة، والتي أصبحت بعده سنّة متّبعة. اُنظر: الخصيبي، الحسين بن حمدان، الهداية الكبرى: ص156. والقاضي النعمان، شرح الأخبار: ج2، ص32. والطبراني، الأوائل: ص107. وابن عبد البر، الاستيعاب: ج3، ص174. والمتقي الهندي، كنز العمال: ج13، ص496.

[7] اُنظر: ابن كثير، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج8، ص52.

[8] اُنظر: الطبراني، كتاب الأوائل: ص107. وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج49، ص427. والثقفي، إبراهيم، الغارات: ج2، ص756. والأميني، عبد الحسين، الغدير: ج11، ص67.

[9] اُنظر: الأمين، محسن، أعيان الشيعة: ج1، ص614. والسماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام : ص22.

[10] اُنظر: الخوارزمي، مقتل الحسين: ج2، ص40. وكذلك: المقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام : ص298.

[11]  قد صرّح بذلك أغلب المقاتل التي عُنيت بمقتل الحسين عليه السلام . اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج3، ص334.

[12] من المشهور تأريخياً  أن هناك بعض الأصحاب لم يُقطع رأسه، كالحر الرياحي وابنه؛ وذلك لدواع اجتماعية مع قبيلتهم.

[13] على خلاف بين أرباب المقاتل، بل وقع الخلاف أيضاً في عدد الرؤوس. اُنظر: مجموعة من المؤلفين، مع الركب الحسيني: ج5، ص80.

[14] اُنظر: المقرم، مقتل الحسين: ص298. إذ يشير إلى هذه الحادثة.

[15] اُنظر: ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: ص115. وابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج4، ص55.

[16] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص60.

[17] المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول: ج5، ص373.

[18] للتفصيل حول الموضوع راجع: مقال تحت عنوان (هل وطأت الخيل جسد الحسين عليه السلام ) مجلة الإصلاح الحسيني، السنة الثانية، العدد السادس:  ص197.

[19] اُنظر: مجموعة من المؤلفين، مع الركب الحسيني: ج5، ص67. وأيضاً: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام : ص322.

[20] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص107. والمقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام : ص334.

[21] اُنظر: المقرم، عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام : ص341.

[22] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج5، ص132.

[23] هناك بحوث عديدة تشير إلى صحة هذا الرأي، متبنّية أن الرؤوس المباركة قد دُفنت مع الأجساد، بخلاف ما نقله بعض المؤرخين وبعض الروايات الدالة على أن مدفن الرؤوس في غير موضع الأجساد. اُنظر: حمودي، موحّد، مسجد الرأس: مقال منشور في مجلة الإصلاح الحسيني العدد الأول.

[24] اُنظر: العاملي، جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: ج23، ص58.

[25] اُنظر: الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص7. أول ثورة للتوابين بعد مقتل الحسين عليه السلام  بثلاث سنوات وعدة شهور.

[26] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج8، ص141.

[27] ابن عساكر، علي بن الحسن، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام : ص319.

[28] المجلسي، محمد باقر، بحار الإنوار: ج44، ص367.

 

المرفقات