عُرِفت كربلاء بالأسر الدينية العلمية التي أثرت المشهد العلمي للمدينة وكان لها دور كبير في رفد الحركة العلمية فيها, ومن أبرز هذه الأسر أسرة القزويني العلمية العريقة التي سكنت كربلاء منذ أكثر من مائتين وخمسين سنة، ولها تاريخ حافل بالعلم.
كانت هذه الأسرة منبعاً للعلوم والآداب وخرج منها أعلام العلماء أبرزهم السيد محمد باقر القزويني الملقب بمعلم السلطان لأنه كان معلماً لوالي كرمنشاه الأمير محمد علي ابن السلطان فتح علي شاه القاجاري, وهو عميد هذه الأسرة وقد هاجر من إيران إلى النجف الأشرف ومنها إلى كربلاء عام 1198هـ بصحبة أخيه السيد محمد علي بن السيد عبد الكريم القزويني.
ومن أعلام هذه الأسرة أيضاً السيد إبراهيم بن السيد محمد باقر صاحب كتاب (الضوابط), والسيد محمد طاهر القزويني صاحب كتاب (هداية المصنفين) في الإمامة, والسيد هاشم بن السيد محمد علي القزويني الذي ذكرته كتب الأعيان والرجال منها (أعيان الشيعة) و(تتمة أمل الآمل) إضافة إلى كثير من أعلام هذه الأسرة.
وتستمر هذه الأسرة في رفد الحركة العلمية برجالها الأفذاذ ومن أبرز من تزعمها خلال مسيرتها العلمية السيد محمد كاظم القزويني.
ولد السيد محمد كاظم بن محمد إبراهيم بن محمد هاشم الموسوي القزويني الحائري في كربلاء المقدسة عام (1348هـ ــ 1930م) عرف بالعلامة القزويني ولقب بسيد خطباء كربلاء.
نشأ السيد القزويني في ظل أسرة لها تاريخ عريق بالعلم فوالده هو السيد محمد إبراهيم القزويني الذي كان من رجال الدين، وجده السيد محمد هاشم كان أحد مراجع الشيعة في وقته فنهل من علوم هذه الأسرة واستقى من مواردها.
فُجِعَ القزويني في بواكير طفولته برحيل والدته، ثم لحقها والده، فذاق مرارة اليتم مبكراً، لكنه وجد من عوضه عن حنان الأم ورعاية الأب حيث تكفل برعايته وتربيته ابن عمه السيد صادق القزويني
دخل القزويني ميدان الحوزة العلمية كعادة أبناء هذه الأسرة ودرس على يد أفذاذ العلماء في كربلاء، ودرس العلوم الدينية عند كل من المرجعين محمد هادي الميلاني ومهدي بن حبيب الله الشيرازي. كما درس عند جعفر الرشتي، ويوسف الخراساني، ومحمد الخطيب.
بدأت ميوله نحو الخطابة تظهر في سن مبكر فتعلم هذا الفن ومبادئه وأسسه على يد أبرز خطباء كربلاء في وقته وهو الخطيب محمد صالح القزويني حتى أصبح من الخطباء المعدودين وأسس (مدرسة الكتاب والعترة) التي تخصصت بتعليم الخطباء الحسينيين وتأهيلهم، وقد تصدى بنفسه لإدارتها ورعاية شؤونها. وشهدت مدرسته المنبرية إقبالاً شديداً لسعة علمه فتخرج على يديه أعلام الخطباء منهم ابن عمه عبد الحسين القزويني ومرتضى الشاهرودي.
ولم يقتصر نشاطه على الخطابة والتوجيه الديني بل اتسع نشاطه الديني فأسس (رابطة النشر الإسلامي)، وهي مؤسسة دينية في كربلاء وبالتحديد في مدرسة ابن فهد الحلي، وكان هدف هذه المؤسسة هو نشر فكر أهل البيت من خلال نشر الكتب التي تعرِّف بالمذهب الشيعي، وتعريف العالم الإسلامي بأحكام وأخلاق أهل البيت وقد تم إنشاء وسائل تعاون وتبادل مع المغرب حيث رفدت المؤسسة المسلمين في هذه الدولة بكتب الشيعة ثم اتسع هذا النشاط ليشمل ليبيا والجزائر وتونس، وبعض الدول الأفريقية كالسنغال ونيجيريا.
يقول السيد مصطفى القزويني نجل المرحوم محمد كاظم عن هذه المؤسسة (واستطاعت هذه المؤسسة ــ رغم ضعف ميزانيتها ــ أن تنشر أكثر من مليوني كتاب خلال عشرين سنة).
وقد أدى القزويني دوراً مهماً في تعريف الناس في المغرب العربي بمظلومية أهل البيت التي أخفتها السياسات المتعاقبة فسافر إلى المغرب، وصحّح لهم بعض الأعراف والتقاليد الخاطئة التي زرعتها السياسة الأموية كمظاهر الفرح والسرور في يوم عاشوراء بالمغرب، وكتب عن ذلك مقالاً نشرته (صحيفة العلم المغربية)، انتقد فيه هذه المظاهر المخالفة لشريعة الإسلام والتي حاول الأمويون وأتباعهم ترسيخها في النفوس, وقد بيّن القزويني ما يجب أن يكون عليه المسلم في ذلك اليوم من إظهار مشاعر الحزن والأسى على سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).
دخل القزويني مجال التأليف مبكراً فألف عن معركة الطف واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) كتاب (فاجعة الطف) كما ألف سلسلة (من المهد إلى اللحد) عن سيرة بعض الأئمة الأطهار (ع) منها كتاب الإمام علي من المهد إلى اللحد, والإمام الحسين من المهد إلى اللحد, والإمام الصادق من المهد إلى اللحد, والإمام الجواد من المهد إلى اللحد, والإمام الهادي من المهد إلى اللحد, والإمام العسكري من المهد إلى اللحد, والإمام المهدي من المهد إلى الظهور, والسيدة فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد, الذي ترجم إلى الفارسية والأوردية, والسيدة زينب الكبرى من المهد إلى اللحد كما ألف (موسوعة الإمام الصادق) وهي موسوعة ضخمة تقع في خمسين مجلداً, وكتاب الإسلام والتعاليم التربوية, وله شرح نهج البلاغة.
تزوج القزويني ابنة أستاذه الميرزا مهدي الشيرازي وله منها خمسة أولاد سلكوا مسلك أبيهم في الخطابة والتدريس والحياة العلمية أكبرهم: محمد إبراهيم وهو رجل دين وخطيب حسيني ومؤلّف, ومحمد علي ومحسن ومصطفى وهو خطيب حسيني أيضا ومحقق وجعفر وهو مدرس في الحوزة العلمیة في قم لمادتي الفقه و الأصول لمرحلة الخارج، و له مؤلفات فقهیة كما أنجب ثلاث بنات تزوجن من رجال دين أفاضل.
كان السيد محمد كاظم القزويني مثال الرجل المؤمن الغيور على دينه الذي لا ترهبه سطوة الباطل حيث تصدى للدفاع عن المذهب بكل ما أوتي من قوة, فحين حاولت السلطة المحلية التضييق على الشعائر الحسينية كان رحمه الله يتحيّن الفرصة لإدانة واستنكار هذا الإجراء الظالم المقيّد للحريات, فاستغل دعوته لإلقاء كلمة في المدرسة الهندية بمناسبة مولد الإمام المهدي (ع) في الخامس عشر من شهر شعبان فألقى كلمة انتقد فيها هذه السياسة الجائرة ووجّه تحدياً لمحافظ كربلاء آنذاك جابر حسن الحداد الذي قام بنفي القزويني لمدة سنة كاملة إلى كركوك على صدد خطابه فرحِّل إلى هناك بصحبة ابني عمه مرتضى وعبد الحسين الذَين بقيا معه أول ليلة في كركوك، ثم عادا إلى كربلاء. ولكن النفي لم يستمر حيث أصدر رئيس الوزراء العراقي عفواً يسمح للقزويني بالرجوع إلى كربلاء.
ولم يثنه هذا النفي عن مواصلة نشاطه الديني والتوجيهي وتصديه لكل من يحاول الإساءة إلى الدين والمذهب والشعائر الحسينية فتعرض للاعتقال عدة مرات من قبل أجهزة نظام حزب البعث المجرم فاضطر لمغادرة العراق وكتب له أن تكون هذه المغادرة إلى غير رجعة بسبب دكتاتورية النظام البائد فأعيد جثمانه بعد سقوط صدام ليحتضنه تراب كربلاء.
غادر القزويني إلى الكويت وفيها عاش ست سنوات مارس نشاطه الديني والتوجيهي بنشر فكر أهل البيت فكان يقيم صلاة الجماعة في مسجد الإمام الحسين المعروف في الكويت بمسجد (ابن نخي) وقد اتخذه أيضاً مقراً للنشاط وأمور التوجيه والإرشاد كما كان يعقد فيه حلقات للتفسير والوعظ والإرشاد ويقيم المجالس الحسينية، ويشرف على إقامة الاحتفالات بالمناسبات الدينية كمواليد المعصومين الأربعة عشر، وذكرى عيد الغدير، ويوم المبعث وغيرها.
كان رحمه الله شعلة متوقدة تنشر أشعتها في القلوب, ومنبع هداية ينهل منه الداني والقاصي, متفانياً في نشر تعاليم الإسلام الحنيف, ممتلئاً بالحماس في نشر المذهب. فأثناء إقامته في الكويت، سافر إلى أستراليا من أجل التبليغ الديني وهناك أسس مسجد فاطمة الزهراء (ع) في العاصمة الأسترالية سيدني. كما سافر إلى باكستان والهند وأندونيسيا واستراليا ومصر والمغرب وتونس والبحرين والسعودية وسوريا ولبنان.
وبعد إقامته في الكويت ست سنوات قضاها في التعليم والتدريس والخطابة والإرشاد هاجر القزويني إلى إيران، وسكن مدينة قم وفيها أسس (مؤسسة الإمام الصادق) (ع)، ثم سافر منها إلى مشهد.
وأخيرا آن لهذا القلب النابض بالولاء لأهل البيت (ع) أن يستريح في جنان الخلد فقد توفي عام (1415هـ ــ 1994م) عن 64 عام ودفن في قم المقدسة قرب ضريح السيدة معصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (ع) وكانت أمنيته أن يدفن في أرض الشهادة وبجوار سيد الشهداء (ع) فتحققت أمنيته حيث تم نقل جثمانه الطاهر من قم إلى كربلاء عام 2011 وشيِّع تشييعاً مهيباً شارك فيه حشد كبير من أهالي كربلاء والزائرين، إضافة إلى مشاركة عدد كبير من رجال الدين وممثلي الحوزات الدينية في مدينة كربلاء المقدسة ليدفن في مقبرة آل الشیرازي في الصحن الحسیني الشريف.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق