أ.م.د.وجدان صالح عباس
جامعة الكوفة /كلية الآداب
التمهيد
تُعدّ أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) منهجا يُحتذى به, فهم مفطورون على الايمان ,وتفسير القران , والعلم والمعرفة, وهذا ما يشهده التاريخ برمته لهم .
هم المعصومون من الخطايا ,وهم خير البرايا, هم أهل التقى ,والعروة الوثقى, و النمرقة الوسطى ,ولا ريب أن أقوالهم طريق سعادة ومنهل عذب يسقي الروح والجسد.
((كلمات يقصر عنها الادراك البشري ويدق خفاه عن فهم الذكي ....النمير العذب من صفو الكمال الراقي)) [1] .
انه صادر من فيض النبوة الكريم ,ومعدن الامامة البليغ ,سلام عليك يا سيد الساجدين وزين العابدين, سلام على صحيفتك السجادية من سالف العصر حتى آخر الزمن.
علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) الامام المعصوم ((الباكي الذي فجر بالدموع دما ,فتت بدعائه الجلمود رقة وعطفا ,والناهض الذي يرعب الاعداء بصمته وهيبته وسكوته)) [2].
عرف هذا الامام الورع والتقي بين المؤرخين بانه ابن الخيرتين وفي ذلك قال ابو الاسود الدؤلي[3] :
وان وليدا بين كسرى وهاشم لأكرم من نيطت عليه التمائم
ولد (عليه السلام) في السنة الثامنة والثلاثين للهجرة في شهر شعبان ,وحياته الكريمة والحزينة والاليمة مدونة في كتب التاريخ ,اذ استمرت امامته أربعة وثلاثين سنة ,عاصر فيها اربعة ملوك من بني أمية ,وعاش سبعا وخمسين عاما ,وتوفي صلوات الله وسلامه عليه مسموما –كما هو معروف- سنة خمس وتسعين للهجرة في بضعة بقت من شهر محرم الحرام[4] .
ورد عن المؤرخين بانه امام في الدين ومنار في العلم ومرجع اعلى في الورع ,وأنه افقه أهل زمانه واتقاهم[5].ولا تكفي هذه الصفحات توفية حق الامام من كل الجوانب , فالحديث عنه اوسع من ذلك والكلام عن خلقه وتقاه وحزنه ما تحده سطور او تلملم فيضه بحوث وتعجز الالسن عن شرح عبادته ونقاء سريرته والقابه فهو السجاد والعابد والبكاء وذو الثفنات وزين العابدين وسيد الساجدين.
أخذ عنه علوم الشريعة من تفسير القران , ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه , والاحكام والاداب , والسنة النبوية الشريفة , كما تأدبوا العلماء على يديه في مجالسه التي شحنها في ادعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده فاصبحت ظاهرة جديدة واسلوب روحي متين لاحياء القلوب وتقربها من خالقها .
في صحيفته (عليه السلام) خمس عشرة مناجاة,وقد وجدت فيهن أثرا للقران الكريم في المناجيات ومن هنا خطرت خطة البحث وحيثياته, فوضعت له منهجا أسسته على أساس تسلسل المناجيات في الصحيفة السجادية..
تناولت أثر القران الكريم في مبحثين من حيث الامور الاتية:
المبحث الاول :اثر القران في البنى الشكلية للمناجيات
المبحث الثاني: اثر القران في البنى المعنوية للمناجيات
وقد سبقتهما بتمهيد شديد الاختصار تركز الحديث فيه عن حياة الامام (عليه السلام) , ولحقتهما بخاتمة عرضت فيها لاهم النتائج التي توصل اليها البحث.
وقد حاولت جمع أقواله (عليه السلام) التي كان للقران أثر واضح فيها ,وهو امر ظاهر في كلامه (عليه السلام)من حيث انه سليل النبي المختار وحفيد الكرار وابوه وعمه سيدا شباب اهل الجنة كيف لا يكون للقران اثر ملحوظ في كلامه وفي سلوكه وفي خشوعه وهو كامن في قلبه ومهيمن على عقله وتفكيره.
وما توخيت في هذا البحث الا رضاه سبحانه وشفاعة نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته الاطهار(عليهم السلام).
المبحث الاول.
اثر القران في البنى الشكلية للمناجيات:وقد قسمته على المحاور الاتية:
اولا :الاقتباس:
هو احد محسنات البديع ,اذ يُضمّن المُنشئ كلامه بعضا من ايات القران الحكيم خاصة ,وشرطه ان لا تقال فيه (قال تعالى)ونحو ذلك والا كان استدلالا[6] .
ويعود التغير في النص او الاحتفاظ به الى المقتبس نفسه ومدى تشبع فكره بآيات الله ومعانيها ومن ثم يرسلها على لسانه لتتمكن من الفاظه وتستحوذ عليها.
وما من شك ان تلك الالفاظ المقتبسة تزيد بلاغة الكلام وتلبسه حلة الحسن والجمال , اضف الى ذلك انها تقرب الفكرة وتسلك بنا سبل معرفة الغاية التي ارتأى القائل الاقتباس من اجلها [7]
واقتباسات الامام (عليه السلام) تتناوب بين الاقتباس النصي والاشاري ولأني قد بنيت البحث على اساس تسلسل المناجيات ,فسيكون التحليل وفقا لوجود الآيات المقتبسة ابتداء من المناجاة الاولى وهي (مناجاة التائبين)فهو يقول : ((الهي ان كان الندم على الذنب توبة فاني وعزتك من النادمين وان كان الاستغفار من الخطيئة حطة فاني لك من المستغفرين))[8].
فالإمام (عليه السلام ) من خلال تشربه لمفهوم الآية الكريمة استشف معانيها وبثها في الفاظه من دون تقصد او تعمد على الامر من حيث ان الآية الكريمة وجهت الى القوم الذين جاءوا الى القرية فامروا بدخولها بعد التيه فقال الله تعالى ((وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطياكم وسنزيد المحسنين))[9] .
فقد امرهم الله سبحانه وتعالى بالسجود عند الانتهاء الى الباب شكرا لله وتواضعا و(حطة)من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف والاصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة, وانما رفعت لتعطي معنى الثبات[10].
اما في مناجاة الشاكين فيقول (سلام الله عليه) :((اليك اشكو نفسا بالسوء امارة))[11],من الواضح هنا ان هذه العبارة تنم عن عدم تزكية النفس وتواضعها امام الله فهو قال (اليك اشكو) قدم شبه الجملة على الجملة ليكون القرار هو الشكوى المخصوصة لله سبحانه عمن سواه , يشكو المرء من نفسه (الامّارة) اي التي تبالغ في امرته وسوقه الى السوء .فالله سبحانه قد بين ان عموم النفس امارة بالسوء في قوله عز وجل((ان النفس امارة بالسوء الا ما رحم ربي))[12] .وبطبيعة الحال فان الامام (عليه السلام) انما يدعونا في هذه المناجاة الى تحرير انفسنا من الامر بالسوء وذلك بالشكاية منها الى الله تعالى.
ويقول (عليه السلام)ايضا في مناجاة الشاكين((ان مسها الشر تجزع وان مسها الخير تمنع)) وهو مستمر في بث شكواه لربه من نفسه فقد علم (عليه السلام) ان الانسان بطبعه هلوع شديد الحرص مجبولا عليه خيرا كان ام شرا , ولازم هذا الحرص يظهر من النفس البشرية تزعزعها واضطرابها عند مس الشر[13].
فالإنسان مجهز بالحرص الشديد على الخير((وانه لحب الخير لشديد))[14].فان اتبع هواه واشتغل به عن اتباع الحق طبع على قلبه فلم يواجه حقا الّا دحضه ولا ذا حق الا اضطهده ,وان ادركته العناية الالهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق[15].
نفهم من هذا ان الامام عليه السلام يحاول انتشالنا من انفسنا التي تغوينا وترسل بنا الى مهاوي الظلمات وكان دعاءه هذا بمثابة هدى ونور ,فهو يحاول بألفاظه المنتقاة ان يحمي تلك النفس من شرها والتي تذهب بنا كل مذهب وتجنح نحو كل لذة من دون رادع او مرشد ,فهو(عليه السلام)يوقظ الضمير بكلماته المستوحاة من قدسية وانوار القران ورونقه ,علنا نترك الدنيا الزائلة ونرى ببصيرتنا الاخرة الباقية.
ومن مناجاة الراجين قال (عليه السلام) ((واذا توكل عليه احسبه وكفاه))[16] .
وهذا لفظ مستعمل كثيرا عند الناس وهو من قوله تعالى((ومن يتوكل على الله فهو حسبه))[17]
وقوله في مناجاة الخائفين ((وفيت كل نفس ماكسبت وهم لا يظلمون))[18].
وهو نص قوله تعالى((وفيت كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون))[19]
وهذا يثبت انه عليه السلام كان ضريب القران يلهج به في سره واعلانه وفي اقواله وافعاله ودعائه ومناجاته.
ومن اقتباساته الرائقة قوله عليه السلام((يامجيب دعوة المضطرين))[20].
فهو من قوله تعالى((امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء))[21].
ومن خلال البحث في الاقتباس من القران وجدت انه (عليه السلام)يكثر من الالفاظ التي وردت على لسان الانبياء كما هو قوله((ضري لا يكشفه غير رافتك))[22].
وقد ذكر هذا المعنى ثلاث مرات في القران الكريم في قوله تعالى((وان يمسسك الله بضر فلا كاشف الا هو))[23].
وقوله عز من قال((وان يمسسك الله بضر فلا كاشف الا هو))[24].
وقوله تعالى((وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وانت ارحم الراحمين))[25].
فهو يخبرنا بهذه الاقوال وسواها ان ما من كشف ضر الا وكان لله جل شانه يد فهو سبحانه رؤوف بعباده عطوف رحيم ,كما لاحظت انه يختم جميع المناجيات بعبارة (ارحم الراحمين))ليعود انفسنا ان تعود متى ما شاءت لرحمة ربها لان ((رحمة الله قريب من المحسنين))[26].
كما انه سبحانه قال في محكم كتابه العزيز((واذا سالك عبادي عني فاني قريب))[27].
وهذه الاقتباسات كانت تجري على لسانه في مناجاته(عليه السلام)عفو خاطره لم يتعمدها بيد ان سجيته وطبيعة بيئته التي نما فيها قلبه النقي وعلمه الفياض هذه الامور كلها هي من احكمت هذا الامر فبدت الايا ت كأنها مأخوذة من القران في معناها وبعض مبناها .
ثانيا: الفاصلة القرآنية:
الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني[28].وللفواصل اثر في نسق الكلام من حيث تجعل موقعه حسنا في النفوس ,وتؤثر فيه تأثيرا لا ينكر وتناسب الاطراف ,وتماثل الحروف ,مما يريح السامع كونها عنصرا مهما في تأمل الآيات الكريمات كما انها تؤدي وظيفة الايقاع الموسيقي في الآيات[29].
فضلا عن الاثر الذي توجده الفاصلة في النفس , والجانب الصوتي الذي تحدثه في اللفظ , فان لها وظيفة اكثر اهمية ,ذلك بانها ثروة معنوية ولفظية ونفسية تكمن –غالبا- فيما توحيه من استمالة المتلقي ,واثارة انتباهه, وتوجهه نحو هيمنة ايقاعها ,وسيطرتها بتلك الحروف المتناغمة على فكره فيتمثل المعنى ويقلبه في خلده فيستشعر هيبة الخالق ويحس بضعف وقلة حيلة المخلوق.
وقد تأثر(عليه السلام) كثيرا بفواصل القران في مناجياته الخمس عشرة فلا تكاد تخلو مناجاة من فواصل تبهر السامع والقارئ بلفظها الحسن ومعناها البهي الموحي.
من ذلك قوله (عليه السلام) في مناجاة الشاكرين ((فلا تقابل امالنا بالتخيب والاياس ولاتلبسنا سربال القنوط والابلاس))[30].
فهو عليه السلام قسّم الكلام طبعا ,لا عمدا ,لكثرة مداومته على تلاوة القران ,واستطاع ان يجعل بهذا النغم الجليل الموحي ,طريقة توصيل مقنعة للمعنى فضلا عن تناسق اللفظ واناقته,
فهو يدعو الله بهذه الصيغة (لا تقابل ,لا تلبسنا)فهو نهي خرج للدعاء صادر من المخلوق للخالق ,فيه نوع من التضرع والخشوع ,ولمسة من التذلل والخضوع ,ليعرفنا بانه لا قيمة للعبد امام عظمة ربه فمهما تكن صيغة الدعاء هينة لينة, يقابلها الباري بالعطف والرحمة , فهو يربينا على الخلق السامي النبيل .
ويبدو انه (عليه السلام) قد لاحظ هذا الامر في آيات مباركات وهو قوله جل شانه((لا تقنطو من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا))[31].
وقوله ((وان مسه الشر فيئوس قنوط))[32].
فالله سبحانه وسعت رحمته كل شيء ففي الآيات الكريمات وقول المعصوم (عليه السلام) حث لرجوع النفس الى فاطرها وموجدها مهما ارتكبت من ذنوب وتكللت بآثام وشحنت بمعاصي فطريق التوبة ممدود وباب الرحمة مفتوح وسبيل المغفرة موجود, وما على المرء الا التخلي عن اوزاره , والرجوع الى رضوان ربه.
ومن ذلك قوله (عليه السلام) ((لاتطمئن القلوب الا بذكرك ,ولا تسكن النفوس الا عند رؤياك))[33].
وبهذا اللفظ الموزون والتناسق المعنوي الرائق رص(عليه السلام) هذه الالفاظ رصا محكما في بنية مكتنزة بالمعاني , موشحة بدلائل الراحة النفسية والقلوب المطمئنة المشروطة بذكر الله جل جلاله.
ولاريب انه قد استوحى هذه العبارات العميقة الدلالة الجزلة اللفظ من القران اذ يقول الله تعالى((الا بذكر الله تطمئن القلوب))[34]
فعند ذكر الله يطمئن القلب وتقر النفس ويسكن مما بها من غضب ووجع والم.ومن اقواله(عليه السلام) ((فتمم علينا سوابغ النعم ,وادفع عنا مكاره النقم))[35].
ولهذه الفواصل مزية ظاهرة ذلك بانها تقع عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها وهي الطريقة التي يباين بها سائر الكلام وتسمى فاصلة لأنها فصل بينها وبين ما بعدها[36].
وهذا المعنى مذكور في القران في قوله تعالى((واسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة))[37].
ولايخفى دور الطباق في قوله (عليه السلام ) فهو من جهة يدعو الله تعالى اتمام النعمة علينا, ومن اخرى يرجوه دفع نقمته عن العبد المذنب العاصي لعلمه بانتقامه وبطشه بعباده الغافلين المصرّين على ارتكاب الذنوب, قال تعالى((فانتقمنا من الذين اجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين))[38].,وقال تعالى((ومن يهد الله فما له من مضل اليس الله بعزيز ذي انتقام))[39].
وغيرها كثير من مواضع انتقام الله من المجرم والضال, وكلها تبين هيمنته وانتقامه من الكافر العنيد المستبد الذي لا نية له بالإياب الى رحاب الله جل جلاله.
ثالثا: الألفاظ القرآنية:
ان من اهم خصائص اللفظة القرآنية ,الدقة في الوضع والاختيار والوصف والمعنى والتناسق , فهي مصورة ومعبرة وموحية وناطقة , ولهذا فان التعبير القرآني يعد تعبيرا فنيا من الطراز الاول, وضع كل لفظ وكل حرف فيه وضعا فنيا مقصودا[40].
وكثيرة جدا هي الالفاظ التي استوحاها(عليه السلام) في مناجياته الخمس عشرة, من حيث دلالاتها الموحية ورصفها الجذاب الفريد ونقاوة معانيها التامة, ومن ذلك لفظ( الرين) في قوله(صلوات الله وسلامه عليه)(( ورين قلبي لا يجلوه الا عفوك))[41].
واللفظ مستوحى من قوله تعالى((كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون))[42].
وكما هو معروف بان الرين صدا يعلو الشيء الجليل, فلما يصدأ القلب يعمى على المرء معرفة الخير من الشر, فما يكسبه المرء من الذنوب, يكون رينا على القلب ,وبذلك يكون حاجزا ومانعا من ادراك الحق, وهو بهذا الحال.
وللطبطبائي رأي عميق الاثر في هذا الامر اذ يقول ((يظهر من الآية:
1-ان للأعمال السيئة نقوشا وصورا في النفس تنتقش ونصور بها.
2-ان هذه النقوش والصور تمنع النفس ان تدرك الحق كما هو وتحول بينها وبينه.
3-ان للنفس بحسب طبعها الاول صفاء وجلاء تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور قال تعالى((ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها))[43].....))[44]
ومن الالفاظ الاخرى قوله (عليه السلام) ((صفيت لهم المشارب))[45].
وانما هو قول مستخلص من قوله تعالى((مثل الجنة التي وعد بها المتقون فيها انهار من ماء غير اسن وانهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين وانهار من عسل مصفى ....))[46].
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة انواعا من الانهار التي يشربها المؤمنون جزاء بما كانوا يعملون في حياتهم الدنيا فهي مبهرة تسحر العين والاذان والقلب فالماء يبقى صافيا لا يتأثر بطول المقام بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض, واللبن لا يتغير طعمه وشكله مهما مر عليه وقت بخلاف لبن الدنيا لخروجه من الضروع, والخمر لذيذ للشاربين بخلاف خمر الدنيا فأنها كريهة عند الشرب والعسل مصفى اي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الاذى والعيوب[47].
والامام علي بن الحسين(عليهما السلام)في مناجاة المريدين هذه يحاول توجيه قلوبنا الى الله وترغيبنا بما عنده من رحمة ومغفرة ونعيم, ومن جملتها المشارب الصافية التي تنماز من شراب الدنيا بانها لا تعكر بطول الوقت ولا يمسها كدر بتقادم العهد ,وهذا يدل على رسوخ ايمانه ويقين عقيدته وصدق دعوته فكلامه من القلب يخرج والى القلب يسعى.
استعمل لفظة (روح) في قوله(عليه السلام)((اسالك ان تنيلني روح رضوانك))[48].
هنا يسال الله تعالى رضاه عنا ودوام منه ونعمه علينا
قال تعالى((لا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون))[49] .
وذكر الطبطبائي روح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب ويكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب وهى الراحة وذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصور اختناقاً وكظماً للإِنسان وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفساً وروحاً لقولهم يفرج الهمّ وينفس الكرب، فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله ومشيته، وعلى من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا قاهر لمشيئته ولا معقب لحكمه، وليس له أن ييأس من روح الله ويقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته[50]
وذكر (عليه السلام) هذه اللفظة مرة اخرى في قوله((ولهفتي لا يردها الا روحك, وسقمي لا يشفيه الا طبك ))وهذه المعاني واقعا مستوحاة بشفافية الفاظها من النص القرآني العظيم, قال تعالى((واذا مرضت فهو يشفين ,والذي يميتني ثم يحيني ,والذي اطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين))[51].
فهو (عليه السلام )يقول ان هذه اللهفة التي تخالج نفسي لا يردها الا تنفيسك عن كربتي وتفريجك عن همي, كما ان مرضي لا يشفيه الا انت يا ربي ,يدعو لنا الامام بأدعيته الكريمة ومناجاته الشريفة بطريقة ادبية رفيعة المستوى ومقنعة وجاذبة للأسماع والاذهان.
من الالفاظ التي استثمرها الامام(عليه السلام)من القران لفظ الحبل ,والعروة حيث قال((وبحبلك الشديد معتصم, وبعروتك الوثقى متمسك))[52].فهذه الالفاظ انما هي موجودة في الآيات الكريمة ومبثوثة في نصوص القران الكريم , ولا يستطيع الانسان العادي ان يستجلب هذه الكيفية الخاصة والهيئة المنفردة فهو يصوغ الافكار والالفاظ بيده الجليلة وبعينه الحكيمة وفكرته السديدة فيصهرها في بوتقة خلده لتنشر القها في تضاعيف مناجاته لربه. قال تعالى((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا))[53]. وقال تعالى((وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ))[54].ومراد الآية الاولى هو أمر ((المجتمع الإِسلامي بالاعتصام بالكتاب والسُنّة كما تأمر الفرد بذلك))[55].أما الثانية فانه من تمسك بالعروة الوثقى ((فقد تـمسك بـالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تـمسك به وهذا مثل إنـما يعنـي بذلك أنه قد تـمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إلـيه وهو مـحسن، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القـيامة))[56].
ومن الملاحظ ان الآيتين الكريمتين, قريبتان في المعنى يحثان المرء على التمسك بالله سبحانه وتعالى فهو امان واستقرار وراحة وضمان للجنة سواء بحبل الله ام بعروته الوثقى ,فمهما تعددت سبل الاقناع والتأثير فان المعنى واحد يصب في مصلحة الانسان وسعادته الاخروية , وقد جمعهما الامام (عليه السلام) في عبارة واحدة نتيجة لتمعنه بالمعنى وذكاءه وفطنته التي لا يتوخى ان يصل الى ماهيتها الشخص العادي.
من الالفاظ القرآنية ايضا لفظة (ركن) التي استعملها في قوله (عليه السلام )(( وان تؤوينا الى شديد ركنك))[57].
هنا يستشف الامام (عليه السلام) هذا الكلام من قوله تعالى((قال لو ان لي بكم قوة او اوي الى ركن شديد))[58].
والركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الاساس, وقد قصد النبي لوط(عليه السلام ) بالركن, العشيرة التي ينضم اليها فتدفع عنه الظالمين بقوتها وسندها ومؤازرتها له, فهو أظهر حزنه في صورة التمني, فتمنى ان يكون له قوة تنصره على هؤلاء القوم[59].
اما علي بن الحسين (عليهما السلام)فقد قصد أن يدعو ربه ونحن نتمثل هذا الدعوات ونجعلها سلوكا ونظاما في حياتنا , فليس قوة العشيرة والاهل اقوى من ركن الله الشديد مهما تكن مهيمنة في المجتمع, وفي قوله هذا مبالغة اذ قال شديد ركنك وليس ركنك الشديد اي انه قدم الصفة على الموصوف لتتركز في الذهن ويكون التمسك بالله اعمق واشد ,فللإمام قدرة في اختيار مقومات الدعاء اللفظية فضلا عن الدلالية.
ومن الالفاظ الاخرى قوله (عليه السلام) ((والخير كله بيدك))[60] .
فقد اختار لفظ (اليد) للدلالة على القدرة والغلبة والمنعة والبطش وما دامت يد الله اي قدرته هي التي اشتمل عليها الدعاء فقد تحصن العبد وهانت عليه صعابه قال تعالى ((بيدك الخير انك على كل شيء قدير))[61].
المبحث الثاني: أثر القرآن في البنى المعنوية للمناجيات
تتركز البنى المعنوية في المحاور الاتية:
أولا-الصورة:
أن الاثر النفسي للصورة عند المتلقي يعد أهم شيء فيها ,اذ انها تقصد اثبات الخيال في النفس والصورة الفنية هي العنصر الاساس في تكوين مفهوم واضح للأسلوب , لأنها مجموعة العلاقات اللغوية والبيانية والايحائية القائمة بين اللفظ والمعنى [62].
والصورة الفنية ملازمة للتعبير القرآني فهي ابرز عناصر الجمال فيه فالقران سحر العرب بقيمته التصويرية قبل ان يسحرهم بقداسته الدينية[63] ,فالصورة القرآنية مضغوطة بقليل من الالفاظ موجزة أشد الايجاز ,سواء أكانت انماطا بلاغية (تشبيها ,استعارة وكناية) ام تعبيرا حقيقيا يحمل بين طياته صورة يتملاها الحس ويرسمها البصر[64].
من الصور القرآنية التي وردت في مناجيات السجاد(عليه السلام) قوله ((وأزهق الباطل عن ضمائرنا))[65].فقد استمده (عليه السلام) من قوله تعالى((وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا))[66],والصورة المتوفرة هنا هي ازهاق الباطل الموجود في ضمائر الخلق والتي يدعو الامام (عليه السلام )الله لينقذنا منه ومعلوم ان الزهق للنفس فزهقت نفسه اي خرجت [67].فهو طلب بشدة يطلبه السجاد من الله ان يجعل ضمائرنا تهتف بالحق وتتجه صوبه وتقتل الباطل وتزهق جنوده التي تعمل جاهدة لتوقعنا في المحاذير.
من الصور التي كثرت في المناجيات لفظة ( يد, ووجه) وقد وردت في اغلب مناجاته وهو يدعو الله سبحانه فيقول(( حاشا لوجهك الكريم ان تخيبني))[68] , وقوله(عليه السلام) ((وشوقي اليك لايبله الا النظر الى وجهك))[69],وانما وجه الله مجاز فقد تنزه عن التجسيم, فقد قال تعالى ((ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام))[70].
((وقوله: { ويبقى وجه ربك } وجه الشيء ما يستقبل به غيره ويقصده به غيره، وهو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه وبين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق وتدبير كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والمغفرة والرزق وفي كون أسمائه وصفاته تعالى وسائط بينه وبين خلقه ......ويبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء والحسن الذي يجذب الغير ويُوّلهه كالعلم والقدرة والحياة والرحمة والجود والجمال والحسن ونحوها وتسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال وتسمى الأسماء أيضاً على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال))[71].
فوجه ربك بمعنى ذاته , والوجه يعبر عن الجملة والذات [72] .ويصح تخيلها على جهة الاستعارة لا على جهة الاستعمال الحقيقي ,لأنها صيغة من صيغ الشكل الفني في استعمالاته البلاغية الكبرى ,وقد اضفت لفظة (وجه ) اطار المرونة والنقل والتوسع في الكلام كما انها تضيف للمعنى مميزات خاصة نتيجة لهذا النقل الذي دل على معنى اخر لا يتأتى من اللفظ من خلال واقعه اللغوي[73] .
من الصور الاخرى المستمدة من القران الكريم قوله(عليه السلام)((وربحت في بيع الدنيا بالآخرة تجارتهم))[74].
هذا القول في مناجاة العارفين اذ ان الامام (عليه السلام) ذكر جملة من صفات المؤمنين المتوجهة عقولهم وقلوبهم الى الله تعالى بإخلاص تام ,حيث قال: ((الهي فاجعلنا من الذين ترسخت اشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم واخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم,......قد كشف الغطاء عن ابصارهم , وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم ,وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم,.......وربحت في بيع الدنيا بالآخرة تجارتهم....))[75],وقد وردت صورة البيع والشراء في القران الكريم ولكن بشكل مختلف حيث قال تعالى((أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ))[76].
ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى: اختيارها عليه واستبدالها به، على سبيل الاستعارة، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر .وذلك لتمكن الضلالة في انفسهم وكأنها تبدو في ايديهم وكأنهم استبدلوا الضلال بالهدى فخسروا تلك التجارة وما اهتدوا لطريق الحق. فالضلال :الجور عن القصد وفقد الاهتداء , فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. والربح: الفضل على رأس المال ،والتجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح, واسناد الخسران إلى التجارة هو من الإسناد المجازي، وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كما تلبست التجارة بالمشترين. وهذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقاً[77].
وكلام الامام مستشف من رقي تصوير القران في البيع والشراء والتجارة ,حيث ينأى المؤمن بجانبه عن كل ما في الدنيا من مغريات وزينة وأهواء ورغبات ,ويتلهف للآخرة التي فيها رضا الله وراحة النفس الدائمة, وتلك والله هي التجارة الرابحة.
ثانيا: الاسلوب:-
هو اختيار الالفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الايضاح والتأثير[78] ,واسلوب القران هو الاكمل والامثل ,وهو الانموذج الادبي المعجز ,والتأثر به انما هو دليل تأثيره في النفس وتمكنه منها ,وقد انفرد القران الكريم بطريقة فذة في الاداء الذي يقوم على رعاية مقتضيات الاحوال ,والاداء بحسب ما يقتضي بذلك تنوع الغرض وطبيعة الموقف[79].
ومن الاساليب التي اثرت في فكر الامام(عليه السلام)فصاغها في مناجياته (الاسلوب الخبري),حيث يقول(( اشكو اليك عدوا يضلني, وشيطانا يغويني ,قد ملأ بالوسواس صدري))[80].
جمع الامام هنا الكثير من الامور التي تصيب الفرد جراء اتباعه لهواه وسيطرة الشيطان عليه, ولأنه قد تربى على اسلوب القران وبلاغته وداوم على قراءته وتأمل معانيه فقد امتزجت اغلب مناجاته بروح النص القرآني, ففي هذه الصيغة التي وردت نجد كثيرا من آيات القران الكريم حاضرة بألفاظها ومعانيها كقوله تعالى((قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ))[81],وقوله عز من قال: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ))[82], وقوله جل جلاله ((ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ))[83], وكل هذه الايات الكريمات قد بث محتواها الفكري واثرها النفسي في قوله اعلاه(عليه السلام) فهوى النفس واتباع الشيطان وطمع الدنيا واغواء الحياة وطول الامل وغير ذلك مدعاة للابتعاد عن الحق وعن رضا الله وكسب غفرانه وعفوه وهي كفيلة بدخول النار وغضب الرحمن .
وتأثره عليه السلام بهذه الاساليب القرانية الخبرية ,انما جاء لتعلقه باسلوب كتاب الله سبحانه لكثرة عبادته ونقاء سريرته ,وكون اسلوب القران يتسم بالفخامة والقوة والجلال ,والمتأتية من انتقاء الالفاظ للمعاني السامية ,التي لا امتهان فيها ولا ابتذال ,فضلا عن تأثيرها النفسي الذي يستدعي من خلال اختيار مفردة بعينها , والاعراض عن اخرى[84].
وليس فقط الاسلوب الخبري كان موجودا في المناجيات ,بل ان الانشاء كان حاضرا فمن ذلك قوله(عليه السلام)) ((وها نحن ذاكروك كما امرتنا فانجز لنا ما وعدتنا ,يا ذاكر الذاكرين))[85],يطلب من الله سبحانه وتعالى ان ينجز وعده بأسلوب الامر وهو الدعاء لأنه خرج من الادنى الى الاعلى ,وهو مستشف من قوله تعالى((فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ))[86],فالإمام ,استعمل اسلوبين هنا الامر الذي خرج الى الدعاء والنداء الذي حاول به ان يثير المتلقي ويعرفه بان الله سبحانه هو من دعا عباده لذكره, لان من ذكر الله يذكره الله كما قال في الاية سالفة الذكر.
كذلك استعمل اسلوب الاستفهام في قوله((هل تسود وجوها خرت لعظمتك ساجدة))[87],فالمقصود بالاستفهام هنا لم يقصد به سؤالا لإجابة معينة وانما خرج لدعاء الله سبحانه ان يغفر لتلك الوجوه الساجدة لعظمة الله وان ينصرها يوم الدين ويعفو عن اصحابها لانهم قد اخلصوا العبادة فكانت نقية صافية متمثلة بالسجود والطاعة لعظمة الله ,فهو يقصد ان دعاء الله جل جلاله ان ينعم علينا بمنه وكرمه ولا يخزينا ويسود وجوهنا يوم القيامة, وهو من قوله تعالى ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ))[88].
كما يدعونا الامام (عليه السلام )الى الدين الصحيح والقويم الذي يدخلنا الجنة ويبيض وجوهنا لا ان يشوب ذلك العمل غش وخداع ومراءاة. ومن اساليب الانشاء الاخرى قوله(عليه السلام) ((يامجيب المضطر ياكاشف الضر))[89]ويعد هذا وفقا لقواعد النحويين واساليب البلاغيين (نداءا)والنداء في عرفهم :هو طلب الاقبال بحرف ينوب مناب الفعل(ادعو)ويكون للقريب غير ان الاساليب تعددت وكثرت من المناديين فقد توسع نداءهم وشمل مع الاحياء مناداة القبور والاطلال واحوال النفس من حسرة وويل ,وهذا الامر انما يكون لأغراض بلاغية ومقاصد يقصدها المتكلم[90] .والامام هنا يدعو الله سبحانه وتعالى ليكشف الضر ويجيب المضطر الذي لا ملجأ له سوى رحمة ربه, لأنه سبحانه هو من امر العبد بدعوته وقت ازمته فقد قال جل جلاله((أمن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء))[91]
يختم الامام (عليه السلام)كل مناجياته بقوله ((يا ارحم الراحمين))[92],والنداء هنا هو طلب الرحمة للقلب العابد المخلص الايمان والنجوى لله سبحانه وتعالى, وقد ورد لفظ (ارحم الراحمين)في القران في قوله تعالى((وادخلنا في رحمتك وانت ارحم الراحمين))[93], ((فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين))[94],((قال لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين))[95] ,((وقل رب اغفر وارحم وانت خير الراحمين))[96].
ومناجاة السجاد (عليه السلام)كانت لنداء الله سبحانه باسمه (الرحيم) فهو ارحم من اي احد على عباده لا نه ارحم الراحمين, فمهما كانت صلة رحم المرء بأخيه او ابيه او صاحبه ليس من شأنها ان تكون كصلته برحمة ربه التي وسعت كل شيء ,وهنا الامام خرج لغرض بلاغي وهو الاشعار بانه حاضر في القلب لا يغيب عن الخاطر حتى صار كانه حاضر مناجى سميع بصير ,فهو تنبيه يدل على عظمة شأن المدعو الذي يكشف الضر اذا حل بالمرء ويجيب دعوة المضطر ,ولا كاشف سواه, وهكذا نكون قد بينا ملامح وأثار القران في البنى المعنوية للمناجاة.
الخاتمة
توصلت في ختام البحث الى نتائج يمكن ادراجها على النحو الاتي :
نتيجة للحياة التي كان يعيشها(عليه السلام) فقد توافرت له ادوات البلاغة فهو سليل الدوحة المحمدية والعترة الطاهرة ولا مناص ان تلعب الوراثة دورها والمهارة المكتسبة اثرها, فالبلاغة كانت منسابة على لسانه ,وجزالة اللفظ كانت مواكبة لكل كلامه , وقوة المعنى ملازمة لمناجاته. اشتملت اقتباساته(عليه السلام)على اغلب الآيات التي توافرت فيها سبل المغفرة والرحمة ,وهذا دليل على ترسخ القران في روحه الكريمة. تضمنت مناجاته الكثير من الفاظ القران , وقد صاغها ببراعة تامة ولغة عالية الجودة لا يتسنى للمرء العادي ان يجيدها ,ذلك بانه عليه السلام مداوم على قراءة القران وتفسيره وفهم نصوصه ومحكمه ومتشابه, ولذلك جاءت الفاظه شديدة التأثر بألفاظ القران الكريم. كذلك كان للفواصل دور ملحوظ في المناجيات ,من حيث استعملها (عليه السلام)عفو خاطره لا تكلف ولا تصنع في صياغتها. تجد المناجاة تجذب المرء فهي قريبة من فكر الانسان فيها سحر للروح والقلب وحلاوة على لسان قارئها ,فهي كانت بمثابة السهل الممتنع وقد شملت كل من احب العودة الى رياض الرحمة والمغفرة فهي للتائبين الشاكين, والخائفين, والراجين ,والراغبين , والشاكرين, والمطيعين, والمريدين, والمحبين ,والمتوسلين, والمفتقرين ,والعارفين, والشاكرين ,والمعتصمين ,والزاهدين. كانت الصورة حاضرة في مناجاته من حيث قوة تأثيرها في النفس وجذب انتباه المتلقي لها وهي صور مستوحاة من فيض صور آيات كتاب الله العزيز, وهو دليل على تأثيرها في الامام(عليه السلام) حتى تمكنت من نفسه فبثها في تضاعيف مناجاته الجليلة. اما اسلوبه (عليه السلام)في المناجيات فقد تناوب بين الخبر والانشاء وهو نسق القران الكريم , وكما انه يثبتان للمعصوم قدرة فذة في صياغة اسلوبه بشكل جذاب وموحي كما انه قادر على تطويع اللغة وتشكيلها ومساوقتها للمعنى واندماجها في بوتقته. كانت العبارة الواحدة من المناجيات تشتمل على اكثر من اية ومن صور مختلفة من القران الكريم ,وهو دليل على تشرب روحه الشريفة بحيثيات القران وبكل تفاصيله سواء الصور الطوال او السور القصار او السجع او الفواصل ,او المعاني ,او الاسلوب وغير ذلك.المصادر والمراجع
القران الكريم
أثر القران الكريم في الشعر الاندلسي,منذ الفتح وحتى سقوط الخلافة 92- 422ه,د.محمد شهاب العاني,دار الشؤون الثقافية,العراق,بغداد,2002, الطبعة الاولى. أثر القران في الشعر العربي الحديث, شلتاغ عبود شراد , دمشق, دار المعرفة,1987. أسس النقد الادبي عند العرب :د.أحمد احمد بدوي ,القاهرة, مكتبة النهضة ,مصر ,1964. الاسلوب احمد الشايب , القاهرة , مكتبة النهضة المصرية.1956. اصول البيان العربي,محمد حسين الصغير الاعجاز الفني في القران: عمر السلامي, تونس ,مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله,198. الامام علي بن الحسين عليهما السلام , مختار الاسدي, بلاغة الامام علي بن الحسين عليهما السلام(خطب رسائل كلمات) ,جعفر عباس الحائري, تحقيق المجمع العالمي لاهل البيت . تفسير الجلالين ,جلال الدين محمد بن احمد المحلي(ت864هـ),وجلال الدين عبد الرحمن ابن ابي بكر السيوطي(ت911هـ),دار الحديث,- القاهرة,ط:1,د.ت ربيع الابرار ونصوص الاخبار ,جار الله ابي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المعتزلي الحنفي(ت 538هـ)تحقيق:عبد الامير مهنا ,مؤسسة الاعظمي ,سنة 1412هـ. الصحيفة السجادية الكاملة, ويليها رسالة الحقوق للامام علي بن الحسين(ع),دار المصطفى,بيروت-ـلبنان ,ط:4,1434-ــ2013 . الصورة الفنية في المثل القراني: محمد حسين الصغير ,بغداد ,دار الرشيد للنشر,1981. علم المعاني,دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني ,د.بسيوني عبد الفتاح ,مؤسسة المختار للنشر والتوزيع,ط2:1425هـ -ـ2004. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل,جار الله محمود بن عمر الزمخشري, ط:2,1421هـ - 2001م . معجم النقد الادبي : د. احمد مطلوب , دار الشؤون الثقافية, بغداد, الميزان في تفسير القران , الطبطبائي من بلاغة القران,احمد احمد بدوي,ط:2,مطبعة نهضة مصر – مصر ,1950. النثر الفني واثر الجاحظ فيه,عبد الكيم بليغ,القاهرة , مكتبة الانجلو المصرية,1955. النكت في اعجاز القران, الرماني,تحقيق,محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام دار المعارف مصر.
الهوامش:
[1] بلاغة الامام علي بن الحسين :7,جعفر الحائري .
[2] الامام علي بن الحسين /دراسة تحليلية:10 مختار الاسدي .
[3] ربيع الابرار1/334.
[4] ظ:الامام علي بن الحسين:23,ومابعدها.
[5] ظ:ربيع الابرار:1/334.
[6] معجم النقد العربي القديم:225, واثر القران في الشعر الاندلسي:19.
[7] ظ:علم المعاني ,عبد الفتاح ال بسيوني:225.
[8] الصحيفة السجادية,195مناجاة التائبين:
[9] البقرة:58.
[10] ظ:تفسير الكشاف للزمخشري:1/102
[11] ابصحيفة السجادية:مناجاة الشاكين:196.
[12] يوسف:53.
[13] ظ:الميزان في تفسير القران:1/112
[14] العاديات:8.
[15] تفسير الكشاف:4/795.
[16] الصحيفة:مناجاة الراجين:199.
[17] الطلاق13.
[18] الصحيفة:مناجاة الخائفين:198.
[19] ال عمران: 25.
[20] الصحيفة مناجاة المفتقرين:210.
[21] النمل:62.
[22] الصحيفة السجادية :مناجاة المفتقرينك209.
[23] الانعام:17
[24] يونس:107.
[25] الانبياء:83.
[26] الاعراف 56.
[27] 186 البقرة.
[28] النكت في اعجاز القران: الرماني : 9
[29] الاعجاز الفني في القراتن:72.
[30] الصحيفة السجادية:202.
[31] الزمر53.
[32] فصلت49.
[33] الصحيفة:212
[34] الرعد28
[35] الصحيفة:203.
[36] ظ:اثر القران في الشعر العربي الحديث:98.
[37] لقمان:20.
[38] الروم47.
[39] الزمر37.
[40] الاعجاز الفني في القران:72.
[41] االصحيفة
[42] المطففين:14.
[43] الشمس:7-8.
[44] الميزان في تفسير القران:489..
[45] الصحيفة :مناجاة المريدين/205.
[46] محمد:15.
[47] ظ:تفسير الجلالين:508, والميزان في تفسير القران:434.
[48] الصحيفة
[49] يوسف87.
[50] تفسير الميزان:276.
[51] الشعراء :80,81,82.
[52] الصحيفة:210
[53] ال عمران 103
[54] لقمان 22.
[55] تفسير الميزان:211.
[56] تفسير الميزان:455.
[57] الصحيفة:214.
[58] هود:80.
[59] ظ:الميزان:324.
[60] الصحيفة مناجاة الراجين:199.
[61] ال عمران 26.
[62] ظ:اسس النقد الادبي عند العرب:453,والصورة الفنية في المثل لاالقراني:37.
[63] ظ:التصوير الفني في القران:34..
[64] أثر القران في الشعر العربي الحديث.114.
[65] الصحيفة:203
[66] الاسراراء:81.
[67][67] تفسير الكشاف:2/644.
[68] الصحيفة:197.
[69] الصحيفة:209.
[70] الرحمن:27.
[71] الميزان في تفسير القران
[72] ظ:تفسير الكشاف4/446.
[73] ظ:اصول البيان العربي:78.
[74] الصحيفة:211.
[75] الصحيفة:211 .
[76] البقرة:16.
[77] ظ:الكشاف 1/87.
[78] ظ:الاسلوب:44.
[79] ظ: النثر الفني واثر الجاحظ فيه:58.
[80] الصحيفة:196.
[81] الحجر:39
[82] الجاثية:41.
[83] الناس.5.
[84] ظ:من بلاغة القران:244.
[85] الصحيفة:213
[86] البقرة:1.52.
[87] الصحيفة:197
[88] ال عمران:106.
[89] الصحيفة:195.
[90] ظ:علم المعاني :دراسة بلاغية ونقدية لمسائل المعاني:: 330.د. بسيوني عبد الفتاح
[91] النمل:62.
[92] الصحيفة:ختام كل مناجاة.
[93] الاعراف:151.
[94] يوسف:64.
[95] يوسف: 92.
[96]: المؤمنون :118.
اترك تعليق