منصور النمري.. شاعر مطمئن بالإيمان

دراسة الأدب الشيعي تقتضي الوقوف على كثير من القضايا المهمة التي عالجها, كونها من صميم الاعتقاد بأحقية أهل البيت (ع)، فهذا الأدب العظيم الذي أفرزته مظلومية الأئمة (ع) وخاصة قضية الإمام الحسين (ع) قد نشأ وتكوّن في عصور سادتها السياسات المستبدة الظالمة التي كانت تضرب بيد من حديد على كل من يتناول قضاياهم (ع) في شعره، فحاربت هذا الأدب ومارست كل الأساليب لانحساره والحد منه.

كما لعب مؤرخو السلطة وكتّابها دوراً كبيراً في إخفاء كثير منه وضياعه, ويدلك على ذلك ما اختفى من الشعر الكثير في حق أهل البيت (ع) من دواوين الشعراء أمثال السيد الحميري, ودعبل الخزاعي, وديك الجن الحمصي, وأبو العباس الصولي, والناشئ الصغير وغيرهم.

ولكن كل تلك الأساليب القمعية والتضليلية لم تستطع إسكات هذا الصوت الذي استمد من أحقية قضية أهل البيت وثورة الحسين (ع) قوته وديمومته, ورغم ما لقيَ الشعراء الذين ساروا على هذا النهج ما لا يحصره الوصف من قتل وتعذيب تمثيل وتنكيل ومطاردة إلا أنه لم يخلُ عصر من العصور من أصوات تصدح بالولاء للعترة الطاهرة وتندد بالظالمين.

ولنا ان نسأل التاريخ كيف قضى الكميت عمره وهو مطارد من قبل الأمويين حتى اغتالته أياديهم وكذلك دعبل الخزاعي الذي لم يسلم من القتل على يد جلاوزة العباسيين رغم أنه شارف على المائة عام من عمره !

وكان من شعراء أهل البيت من لم يسلم من أيدي هذه السلطات حتى بعد موته فـ (تتبعوه رميما) كما حدث للشاعر منصور النمري الذي أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه عندما سمع له قصيدته اللامية في مدح أهل البيت (ع)، فلما جاء أبو عصمة ـ أحد قوّاد الرشيد ـ إلى الرقة وفيها بيت النمري لتنفيذ الأمر رأى جنازته خارجة من بيته فعاد إلى الرشيد فأخبره بوفاته, ولكن حقد الرشيد لن يزول من صدره إلا بمعاقبة النمري حتى بعد موته! فقال لأبي عصمة: فإلا إذ صادفته ميتاً أحرقته بالنار !..

فنبشوا قبره !! (1)

وتحقق قول النمري:

آل النبيِّ ومن يحبّـــــــــــــهم   ***   يتطــامنون مخـــافةَ القتلِ

أمنوا النصارى واليهود وهم   ***   من أمة التوحيـــد في أزلِ

إلا مـصـــــاليتٌ ينصرونَهم   ***   بظبا الصوارمِ والقنا الذبلِ

على الرغم من أن الاخبار القليلة جداً التي وردت في بطون الكتب عن الشاعر النمري لا تكفي لتسليط الضوء على حياته ونشأته, إلا أن أشعاره تكشف بوضوح عن شخصيته وإيمانه بعقيدته وولائه لأهل البيت (ع) فلم يهمل المؤرخون سنة ولادته فقط, بل انهم اختلفوا في سنة وفاته ونسبه وكنيته !!

فهو (أبو القاسم), أو (أبو الفضل). منصور بن الزبرقان بن سلمة (أو) بن سلمة بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك النمري من النمر بن قاسط, ولد في مدينة (رأس العين) على شاطئ الفرات, وصفه الصنعاني بأنه: كان شاعراً غير منازع، فحلاً غير مقارع. (2)

وكان في بداية حياته تلميذاً لكلثوم بن عمرو العتابي وراويته, أخذ عنه وقلده في مذهبه وكانت صحبتهما وثيقة تجاوزت حدود التلمذة بعد أن لمس العتابي في النمري توقد ذهن ورهافة حس وذكاء وفطنة فهيأ له متطلبات السفر من الشام إلى بغداد ووصفه للفضل بن يحيى البرمكي الذي استقدمه وأكرمه.

وعند الفضل اجتمع النمري بالشاعر مسلم بن الوليد, وروى السيد المرتضى: إن سفره إلى بغداد كان مع الوفد الذي أرسلته ربيعة إلى الرشيد بعد أن أوقع (عصمة) بأهل ديار بكر موقعة فظيعة يذكرها التاريخ، فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليهم فخلص اختيارهم إلى رجلين أحدهما النمري بعد أن وجدوه متكلماً أديباً لبيباً فلما سألهما الرشيد حاجتهما أنشد النمري قصيدة مطلعها:

ما تنقضي حسرةٌ ولا جزعُ   ***   إذا ذكرتُ شباباً ليس يرتجع (3)

والقصيدة عبارة عن شكوى وعتاب وتذمر من الدهر وهي أول شعره, حتى إذا انتهى النمري من قصيدته قال له الرشيد: ويحك... قل حاجتك فقال: أخرِبت الديار, وأخُذت الأموال, وهُتكت الحرم, فقال: اكتبوا له بكل ما يريد.

ولما وجده الرشيد فصيحاً شاعراً استبقاه عنده وأرسل أصحابه بالكتب.

قال السيد المرتضى: وكان منصور النمري يأتي باسم هارون الرشيد في شعره ومراده به صاحب منزلة هارون يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وكذلك قال المرزباني وابن دريد ومن ذلك قوله:

آل الرسولِ خيـــارُ الناسِ كلهم   ***   وخيـرُ آلِ رسولِ اللهِ هارونُ

رضيتُ حكمكَ لا أبغي به بدلاً   ***   لأنَّ حكمكَ بالتوفيقِ مقرونُ

وقال الجاحظ: كان منصور النمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره ويريه أنه من وجوه شيعته وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لقول النبي (ص): أنت مني بمنزلة هارون من موسى. إلى أن وشى عنده بعض أصحابه, وأنشد له قصيدته اللامية فوجه الرشيد رجل منه فزارة.. وتتمة القصة كما ذكرناها في المقدمة.

وفي الحقيقة فقد ظلم الجاحظ الشاعر النمري عندما نسب إليه النفاق فلم يكن النمري منافقاً, بل كان يعمل بالتقية فيورّي في مدح هارون بعلي, قال السيد حسن الصدر (4) والسيد ضياء الدين الصنعاني (5) عن جماعة إنه ـ أي النمري ـ كان يُورّي في مدح هارون العباسي بعلي (ع) تلميحاً منه الى الحديث الشريف المشهور: انت مني بمنزلة هارون من موسى.

قال الحصري: وكان يضمر غير ما يظهر, ويعتقد الرفض, وله في ذلك شعر كثير لم يظهر إلا بعد موته, وروي إنه كان على مذهب الشراة وقد نقل الحصري عن الجاحظ قوله: و كان منصور دخل الكوفة و جلس إلى هشام بن الحكم الرافضي وسمع كلامه فانتقل إلى الرفض. (6)

ودلت المصادر التاريخية والأدبية على فصاحته وشاعريته من ذلك ما رواه المرتضى في أماليه, والأصفهاني في الأغاني, و المبرد في الكامل في اللغة الادب, وغيرهم من اجتماعه عند الرشيد بمروان بن أبي حفصة شاعر الرشيد في خبر طويل انتهى باعتراف مروان بشاعريته عليه بقوله:

فإذا هو والله أفصح الناس قد دخلني له حسد فوددت إنه قد أخذ كل ما لدي وسكت. كما اعترف بأن النمري كان خليقاً بأن يغلبه ويعلو عليه كما جاء على لسانه: وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو عليَّ فأني ما رأيت أحسن من تخلصه إذا ذكر الطالبيين.

ومن أبرز شعره في أهل البيت قصيدته اللامية التي يقول فيها:

شـــاءٌ من الناسِ راتــعٌ هاملِ   ***   يعللون مـن النفوسِ بالباطلِ

تقتل ذريــــــــة النــبي ويرجــــــــــــــون جنــــــــانَ الخلودِ للقاتلِ

ويلكَ يا قاتلَ الحـــسيــــنِ لقد   ***   بؤت بـحمل ينــــوء بالحاملِ

أي حباءٍ حبـوت أحـــــمدٍ في   ***   حفرتـــــه من حرارةِ الثاكلِ

بأيِّ وجهٍ نلقى النــــبـــيَّ وقد   ***   دخــــلت في قتله مع الداخلِ

ويصدح فيها بولائه الخالص لأهل البيت (ع) وإعلان مظلوميتهم:

نفسي فداء الحسيـن حين غدا   ***   إلى المـنــــــايا غدوّ لا قافلِ

ذلكَ يوم أنـــــــــحـى بشفرتهِ   ***   على سـنامِ الإسلامِ والكـاهلِ

أعاذَلي إنــــــــــــني أحبَّ بنـــــــــــــي أحمدَ فالتربُ في فمِ العاذلِ

جفوتمُ عترةَ النبـيِّ وما الجــــــــــــــــافي لآلِ النبـــــــيِّ كالواصلِ

مظلومــــــةٌ والنبـيُّ والدُها   ***   تُديرُ أرجــــــــــاءَ مُقلة حافلِ

ثم يعرض بالظُلمة ويستنفر الناس ضد العباسيين:

ألا مصاليت يغضبــون لها   ***   بسلـــــــةِ البيضِ والقنا الذابلِ

وهذا البيت تصريح واضح بالثورة ضد العباسيين والانتصار لأهل البيت ثم يبرز مظلوميتهم (ع) وما تعرضوا له من الاضطهاد والسجن والتشريد من قبل السلطة العباسية:

كم ميّــتٍ منهم بغــــــصّته‏   ***   مغتـــــربِ القبرِ بالعرى نازلِ‏

ما أنتجتْ حــوله قــــرابتُه‏   ***   عند مقاســـــــــاةِ يومهِ النازلِ‏

أذكرُ منهم و ما أصـــابهم‏   ***   فيمنعُ القلبُ سلـــــــــوّه الذاهلِ‏

قد دنتْ فيما دنتمُ عليه فما   ***   رجعتْ عن دينكم إلى الـجاهلِ‏

وقد أدت خصومة بينه وبين كلثوم بن عمرو العتابي إلى وشاية العتابي به عند الرشيد وحلف العتابي للرشيد إن النمري يقصد بمدحه هارون الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وقرأ له أبيات النمري:

آل النبيِّ ومـــــــــــــن يحبهم   ***   يتطامنـــــــون مخافةَ القتلِ

أمن النصارى واليهـود ومن   ***   في أمّـــــةِ التوحيدِ في أزلِ

إلا مصــــــاليت ينصرونهم   ***   بظبا الصوارمِ والقنا الذبــل

فغضب الرشيد وجعل عليه جاسوساً يترصد أقواله وأفعاله فأتاه الجاسوس وقرأ له قصيدة لامية للنمري أخرى لا يقل وقعها عن الأولى أفرغ فيها النمري ما في قلبه من لوعة وأسى على مصاب الإمام الحسين والحوادث التي جرت عليه يوم الطف ومظلومية الأئمة (ع) وهذه القصيدة قرأها عند قبر الحسين, فرآه جاسوس الرشيد فقال له: رأيته منكبا ليلاً على قبر الحسين ينشده و ينشج، فحفظت ما أبقاه لي النشيج، يقول النمري في هذه القصيدة:

متى يشفيــــــكَ دمعـــكَ من همولِ   ***   ويبردُ ما بــــقلبِـــــــــكَ من غليلِ

فؤادك و الســــــــــــــــــلوّ فإن فيه‏   ***   سيــــــأتـــي أن يـعود إلى ذهولِ‏

فيا طــــــــــول الأسى من بعد قوم‏   ***   أديرُ عليـــــــــــــهمُ كأسَ الأفولِ‏

تعاورهم أســــــــــــــــنّةُ آلِ حربٍ‏   ***   و أسيـــــــــــــافٌ قليلاتِ الفلولِ‏

فما وجدت عــــــلى الأكتافِ منهم‏   ***   و لا الأعقـــــــــابِ آثار النّصولِ‏

و لكنّ الوجـــــــــــــــــوهَ مكلّماتٍ‏   ***   و فوق صدورهم مجرى السيول‏

بتربةِ كـــــــــــــــــربلاءَ لهمْ ديارٌ   ***   نيــــــــــامُ الأهلِ دارسةِ الطّلولِ‏

تحيـــــــــــــاتٌ ومغـفــرةٌ وروح‏   ***   علـــــــــــى تلك المحلةِ و الحلولِ‏

لأوصــــــــالِ الحسينِ ببطنِ قاعٍ‏   ***   ملاعبُ للدّبــــــــــــــورِ و للقبولِ‏

أريقَ دمَ الحسيـــــنِ و لم يراعوا              ***   و في الأحيــــــــاءِ أمواتُ العقولِ‏

فدت نـــــــفسي جبينَكَ من جبينٍ‏               ***   جرى دمــــــــه على الخدِّ الأسيلِ‏

ألا يا رب ذي حــــــــــــــزنٍ تعايا   ***   بصبرٍ فاستــــراحَ إلى العويلِ

قتيلٌ ما قتــــيلُ بني زيــــــــــــــادٍ   ***   ألا بأبـــــــــي وأمي من قـتيلِ

ولا يخلو قلبه من الهم والحزن على ذلك المصاب الأليم:

أيخــــــــــــلو قلبُ ذي ورعٍ ودينٍ   ***   من الأحزانِ والهمٍّ الطـــــويلِ

وقد شرقتْ رمــــــــــاحُ بني زيادٍ   ***   بريٍ من دمــــاءٍ بني الرسولِ

ألم يُحزنكَ سربٌ من نســـــــــــاءٍ   ***   لآلِ محمدٍ خُـمــــــــشِ الذيولِ

يشقِّقنَ الجيوبَ على حــــــســــينٍ   ***   أيامى قد خـلونَ من البــــعـولِ

بتربةِ كربلاءَ لــــــــــــــــهمْ ديارٌ   ***   ينـــــامُ الأهـلُ دارسةُ الطـلولِ

وينهي قصيدته الطويلة بما تهيج في نفسه فيعبر عنه في خاتمة القصيدة:

برئنا يـــــــا رسولَ الله مّـــــــمن   ***   أصابكَ بالأذاةِ وبـالذحــــــــولِ

ألا يا ليتني وصــــــــــلتْ يميني   ***   هناكَ بقـــــــائمِ السيفِ الصقيلِ

نجدتُ على السيوفِ بحرِّ وجهي   ***   ولمْ أخذلْ بنيــــــكَ مع الخذولِ

فغضب الرشيد وأعطى لمن يأتي برأسه ألف دينار، فهرب وتبعه رجل من بني فزارة إلى رأس عين فوجده قد مات، وروي إنه نُبش قبره كما ذكرنا, وروي أن الفزاري قد وجده مريضاً من الغرق، فاستمهله النمري ثلاثة أيام إلى أن يموت فيأخذ رأسه، ففعل و أتى برأسه إلى الرشيد (7)

توفي النمري عام 193 هـ على أشهر الأقوال  

.........................................................................................................................................

1 ــ أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين ج ١٠ ص ١٤٠ نقلا عن ابن شهر آشوب في المناقب

2 ــ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر ج 2 ص 326

3 ــ  الأمالي ــ غرر الفوائد ودرر القلائد ج 2 ص 273 -  278

4 ــ تأسيس الشيعة الكرام لسائر فنون الإسلام 162

5 ــ نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر ج 2 ص 329

6 ــ زهر الآداب وثمر الألباب ج 2 ص 61 ــ 62

7 ــ الطليعة من شعراء الشيعة ــ الشيخ محمد السماوي ج 1  ص 245      

المرفقات

: محمد طاهر الصفار