ديك الجن .. الحقيقة الضائعة

قبل أن نصحب هذا الشاعر في رحلة حياته والكشف عن جوانبها وما رافقها من أحداث ودراسة خصائص أدبه وتوجهاته وما تركه أدبه من تأثير في محيط مجتمعه، يقتضي الإنصاف أن نستجوب التاريخ والمؤرخين عن سبب التعتيم والتهميش الذي كان نصيبه في حياته وبعد مماته، أليس من العجيب أن شاعراً مجيداً على مذهب أبي تمام والشاميين (1), ومن المعدودين في إجادة الرثاء, وهو أشهر فيه من أبي تمام, وله فيه طريقة انفرد بها (2), ثم لا تجد من المؤرخين من أولاه اهتمامه وعنيَ بدراسة حياته وبيئته وآثاره وما تميّز به شعره من خصائص ؟ ثم أليس من العجيب إن عصراً ضجّ بالمؤرخين والمؤلفين واللغويين والنحويين والشعراء والأدباء, وراجت فيه صناعة الورق وأخذ الناس يتنافسون في اقتناء الكتب واتخاذ المكتبات وتغلغلت الثقافة في جميع الأوساط حتى أوساط العامة، لكن لم ينل شاعر يعدّ في طليعة شعراء ذلك العصر ما هو أهل له من العناية والاهتمام فتجد العبارة تبعث على الحزن والدهشة معاً يرددّها كل من يتعرض لذكر هذا الشاعر أو يترجم له وهي: (إن كثيراً من شعره قد ضاع) أو (ضاع اغلب شعره) وغيرها من شبيهاتها.  إن من المؤسف أن تجد شعراء كانوا دونه في جميع الخصائص الفنية قد نالوا أكثر مما يستحقون من الاهتمام والدراسات والبحوث وربما سيستشف القارئ الإجابة الواضحة في سبب ذلك, فقد كان للبلاط العباسي ومجالس لهو الخليفة و (فتوحاته العظيمة) دوراً كبيراً في شهرة الشعراء, فهذه هي سوقهم التي يبيعون فيها شعرهم وضمائرهم، كما كان للنزعة المذهبية والصراع الفكري والايديولوجي أكبر الأثر في إسدال ستار الإهمال والإشاحة عن هذا الشاعر الكبير.  إن هذا الشاعر الذي قصده دعبل الخزاعي مع ما له من مكانة كبيرة في الشعر إلى بلده (حمص) ونعته بـ (أشعر الجن والانس) (3) وقصده أيضاً أبو نؤاس ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك) (4), لم يمدح أحداً من الخلفاء أو الولاة أو القادة او حتى من له أدنى صلة بالبلاط العباسي, ولم يبع شعره على تجار النخاسة من السلاطين والأمراء, ولم يتزلّف بشعره لأحد على غير عادة أغلب شعراء ذلك العصر الذين يأتون من أقاصي البلاد فتمتلئ بهم مجالس الخلفاء والولاة وهم يتسابقون لاكتساب الجوائز والهبات, بل كان ديك الجن متعففّاً عن قصد الملوك, متفرّداً عن شعراء عصره, حتى إنه لم يفارق الشام مع أن خلفاء بني العباس في عصره ببغداد, فلا رحل إلى العراق ولا إلى غيره متنفعاً بشعره, وكان يتشيّع تشيّعاً حسنا (5). ويمكننا أن نعزو السبب في ضياع شعر ديك الجن إلى كونه شديد التشيّع (6)، وهذا وحده كان كافياً لاتهامه بالشعوبية رغم أنه عربي أصيل من قبيلة عربية عريقة وولد في أعرق البلاد العربية, كما كان هذا كافياً لـ (ضياع شعره), ونلمس ذلك من قصة جمع شعره, فبعد (1110) سنة على وفاة ديك الجن أي في عام (1960) كان هناك من التفت إلى شعره المتناثر في بطون الكتب فعنيَ بجمعه الأستاذ عبد المعين الملوحي, ومحيي الدين الدرويش الحمصيان, فاجتمع عندهما (109) نماذج بين قصيدة وقطعة في (417) بيتاً, تم جمعاها في ديوان سُمّي بـ (ديوان ديك الجن الحمصي), وطبع في مئة وثلاثين صفحة ! ولكن هذا الديوان خلا من أي بيت في حق أهل البيت (ع) من مدح ورثاء, حتى كأن الشاعر قد عاش في زمن الجاهلية ولم يدرك الاسلام !! ولم يعرف أهل البيت (ع) !!  ولكن كان هناك من يحمل هذه الأمانة على أتم وجه ويبرز الحقائق ناصعة بعيداً عن التعصّب والتزييف إذ قام الدكتور أحمد مطلوب والأستاذ عبد الله الجبوري بجمع كل ما وجداه من شعر ديك الجن في المصادر ومن ضمنه قصائد الشاعر في حق أهل البيت (ع) والتي لم يستطع الملوحي والدرويش أن يتحملاها, وقد اعتمد مطلوب والجبوري على نسخة من ديوان ديك الجن جمعها بعناية وأمانة أدبية الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب إبصار العين بنفسه, وكتبها بخط يده وقد أرسلها إليهما الشيخ محمد علي اليعقوبي بعد أن اشتراها من السماوي, وكان الشيخ السماوي قد جعل هذه النسخة في فصلين: الأول ما قاله ديك الجن في أهل البيت (ع) ويضم ثماني قصائد في (156) بيتاً والثاني ما قاله في فنون مختلفة ويضم (39) قصيدة في (278) بيتاً. تميز ديك الجن بأسلوبه الشعري المتين البناء والسبك, مع رقة المعاني, ودقة النسج, وصدق الصورة, والجزالة في الالفاظ, وقد تعددت الأغراض في شعره فخاض كل فنونه وأبدع فيها وتجلّى الإبداع في تصوير الخصوبة في صبغته, أما لقبه فقد تعددت الروايات بشأنه فقيل: سمي بـ (ديك الجن) لأن عينيه كانتا خضراوين (7), وقيل غير ذلك في روايات كثيرة.  أما أشهر هذه الروايات في تلقيبه بـ ( ديك الجن) فقيل: أنه لقصيدة قالها في رثاء ديك كان لأحد أصدقائه قد ذبحه, وأقام منه مائدة دعا إليها الشاعر, واسم الشاعر ديك الجن هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي (8)، وكانت ولادته في حمص سنة 161هـ, ولم يبرح مدينته حتى توفي فيها, ولم يذكر التاريخ عن نشأته وحياته وبيئته شيئاً سوى أحداث وقصص حدثت للشاعر في حياته, آثرنا عدم ذكرها حيث أن المؤرخين قد توسّعوا فيها بخصب خيالهم حتى أغرقوا في أحداثها إلى حدّ الأسطورة.  أما شعره فقد طفح عليه العبق الولائي لأهل البيت (ع) ومنه الأبيات المشهورة والتي لازال يتردد صداها الى الآن في رثاء سيد الشهداء الإمام الحسين (ع): جاءوا برأسِكَ يا ابنَ بنتِ محمدٍ   ***   مترمّلاً بدمائهِ تــــــــرميلا وكأنّما بكَ يـــــا ابنَ بنتِ محمدٍ   ***   قتلوا جهاراً عامدينَ رسولا قتلوكَ عطشـــــــاناً ولمّا يرقبوا   ***   في قتلكَ التنزيــلَ والتأويلا ويكبّرونَ بأن قُـــــــــتلتَ وإنّما   ***   قتلوا بكَ التكبيــــرَ والتهليلا وله في هذا الشأن قصائد مفجعة تقطر ألماً وحزناً تفصح عما انطوى عليه قلبه من أنين, وعينيه من دموع, ونفسه من أسى وحسرة, كما في هذه القصيدة: يا عــين لا للغضا ولا للكتبِ   ***   بكا الرزايا سوى بكا الأدبِ جـودي وجدّي بملءِ جفنِك ثـــــــــــــــمّ احتفلي بالدموعِ وانسكبي ياعين فـــــي كربلا مقابرُ قد   ***   تركنَ قـــــلبي مقابرَ الكربِ مقابرٌ تحــــــــــتها منابرُ مِن   ***   علمٍ وحلمٍ ومـــــنظرٍ عجبِ وفي قصيدة أخرى يصوّر الإمام الحسين (ع) منفرداً وهو يواجه جيوش بني أمية فيقول: ماءٌ من العبراتِ حــرّى أرضهُ   ***   لو كانَ من مطرٍ لكانَ هـزيما وبلابـــــــــــــلٌ لــو أنّهن مآكلٌ   ***   لم تخطئ الغسلين والـــزقوما وكُرىً يروّعنــــي سرى لو أنه   ***   ظلٌّ لكان الحرَّ والــــيحـمـوما مرّت بقلبي ذكرياتُ بني الهدى   ***   فنسيتُ منها الروحَ والتـهويما ونظرتُ سبطَ محــمدٍ في كربلا   ***   فرداً يعاني حزنَه المكظـــوما وتبقى واقعة الطف عالقة في ذهن ديك الجن ولا تفارق صورها المأساوية وجدانه, فتلتهب لها قريحته, ويذوب لها فؤاده, فيصبّ ما اعتمل في صدره في شعره, يقول من قصيدة: أين الحسيـنُ وقتلى من بني حسنٍ   ***   وجعــــفرٍ وعقيلٍ غالهم غمرُ قتلى يحنّ إليـــــها البيتُ والحجرُ   ***   شوقاً وتـبكيهمُ الآياتُ والسورُ لما رأوا طرقاتُ الصبرِ معرضةً   ***   إلى لقاءٍ و لقيا رحمةٍ صبروا أما علي بن أبي طالب (ع) فهو ينبوع الفضائل والمآثر والمعاجز والبطولات, وهو الحق الأبلج والعلم الواضح, وهو وصي رسول الله (ص) ومن حاد عنه ووالى غيره فهو يتخبط في عشواء مظلمة... هذا ما قاله الشاعر: أنسى عليــــــــــــاً وتفنيد الغواة له   ***   وفي غدٍ يعرفُ الأفّاكُ والأشرُ من ذا الذي كلــــمته البيد والشجـرُ   ***   وسلّمَ التربُ إذ نــاداهُ والحجرُ أم من حوى قصباتِ السبقِ دونـهمُ   ***   يومَ القليبِ وفي أعنــاقِهم زَوَرُ أليس قام رسولُ اللهِ يخطـــــــــبهم   ***   وقال: مولاكمُ ذا أيــــــها البشرُ هذه هي عقيدة الشاعر التي كانت شجىً في أفواه الكثير وقذىً في عيونهم, فلم يتعرّضوا لشعره, ولم يتحملوه, وكيف ...؟ وماذا يقولون في هذا الشعر الذي بدت فيه الحقيقة واضحة ناصعة جلية ؟ ولكن نفوسهم أبت إلا العناد: ومن كــعليٍّ إذا ما دعـوا   ***   نزالاً وقـد قـــلَّ من ينزلُ تراه يقدّ جــسومَ الـرجال   ***   فينــــــــدحرُ الأولُ الأولُ وكم ضربةٍ واصلـتْ كفه   ***   لفيصلِه فاحـتوى الفيصلُ سطا يومَ بــدرٍ بقرضـابِهِ   ***   وفي اُحُدٍ لم يـــزلْ يحملُ ومن بأسه فُـــتحتْ خيـبرٌ   ***   ولم ينجِها بابُــــها المقفلُ وما أربعينَ ذراعــــاً بها   ***   هزبرٌ له دانتِ الأشـــــبلُ والشاعر عندما يفتخر بقبيلته، فهو يفتخر بما قدمت من تضحيات في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ومناصرة الحق في معارك أُحد و مؤتة وصفين وكربلاء: غـــــــــداة مؤتـة والشراكُ مكتهلٌ   ***   والدينُ أمردَ لم يفـــــــــــــع فيحتلم وعيّرتنا ومــــــــا إن طُلّ في أحدِ   ***   وطلّ في مؤتـــــــــةٍ والدينُ لم يرمِ ويوم صفين من بـــعد الخريبةِ كمْ   ***    دم أطــــــــــلّ لنصرِ الدينِ إثر دمِ وفي الفراتِ فداءُ السبطِ قد تركتْ   ***   أشلاؤنا في الوغى لحماً على وضمِ فقبيلته حمت الإسلام بدماء رجالها في ميادين الحروب مع النبي (ص) والوصي (ع): إن تعبسي لدمٍ منّا هريقَ بها   ***   فقد حقّنا دمَ الإسلامِ فابتسمي توفي ديك الجن الحمصي سنة (235هـ ــ 850م) عن (74) عاماً, وكما كان يفرض وجوده وشاعريته بهدوء ومقدرة بعيداً عن مزاحمة الشعراء ومنافستهم في تكسّبهم, فجرى في غير حلبتهم وغير ميدانهم, فلم يعنهم أمره, فقد رحل دون أن يكون لرحيله تأثير على منهجهم, فلم يعنهم رحيله أيضاً, وكما لم يمدحه أو يهجوه أحد منهم, فلم يرثه أيضاً أي أحد منهم, وربما كان هذا الموضوع أول مرثية له.

محمد طاهر الصفار

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

.................................................................................... 1. الاغاني/ ابو الفرج الاصفهاني ج14ص51 2. العمدة في الشعر والشعراء/ ابن رشيق القيرواني 3. العمدة/ ابن رشيق 4. وفيات الاعيان/ ابن خلكان 5. وفيات الاعيان/ابن خلكان 6. الاغاني/ ابو الفرج ج14ص51 7. الاعلام/ الزركلي ج4 8. تاج العروس/ الزبيدي ج7

المرفقات

: محمد طاهر الصفار