المنظومة القيمية والأخلاقية في النهضة الحسينية - ج2

المنظومة القيمية في النهضة الحسينيّة

جاءت النهضة الحسينية متكاملة المبادئ والقيم، تشكِّل في مجموعها منهج حياة ملائماً لطبيعة الإنسان، ومنسجماً مع فطرته السوية، ومغذّياً لروحه، وملبياً لمتطلبات الإنسانية الكريمة.

وهي منظومة محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، تقوم على أركان ثابتة من القرآن الكريم والسنّة النبويّة، لا تتغير بتغيّر صروف الدهر، ولكنّها تتجاوب مع المتغيرات من دون أن تفقد جوهرها وأصالتها ومشروعيتها، ولا تتطور مع تطور حياة الأفراد والجماعات، ولكنّها تتفاعل مع التحوّلات التي تطرأ على حياة الإنسان، من غير انصياع إلى الواقع، وإنّما بالتكيّف مع متطلباته التوجيهية نحو الأفضل وترشيد مساره.

ولـمّا كان من خصائص القيم ـ من حيث هي قيم ـ الثبات والرسوخ والاطّراد، فكذلك هي منظومة القيم التي جاءت بها النهضة الحسينيّة لا تفقد خصائصها، ولا تتراجع قيمتها، لا تُبلى مع الزمن؛ لأنّها قيم جوهرية ثابتة، مستقرّة بثبات الرسالة الإسلامية واستقرارها وخلودها، ولأنّها من الثوابت وليست من المتحولات، نزل بها الوحي الإلهي، وتجسّدت في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، ولعل من الأُمور الواضحة لدى المشتغلين بالفكر في كلّ عصر أنّ الفكر من حيث هو تسخير لملكات العقل وللقدرات الذهنية، وتحريكها نحو الوصول بها إلى مقاصد وغايات يرصدها العقل، يخضع للإرادة الإنسانية التي تحكم اتجاهاته وتضبط مساراته، إن هي نزعت إلى الخير والحق والفضيلة والمصلحة العامة، أيدها وزكاها، وإن هي مالت إلى الشر والباطل والرذيلة والمضرة والمفسدة، قوّمها وردّها إلى الحق والصواب.

إنّ المنظومة القيمية في النهضة الحسينية هي منظومة متكاملة في الأخلاق والدين، وهي رافد مهم لبناء المجتمع وذلك من خلال الأُسس والمعايير التي جاء بها الإمام الحسين عليه السلام في نهضته، هي ليست مجرّد معركة تاريخية حصلت يمرّ عليها الباحثون والمؤرّخون مرور الكرام، بقدر ما هي إصلاح مجتمع من خلال إرساء القواعد الأخلاقية الإسلامية فيه، حيث أثبتت الدراسات التربوية والنفسية المستفيضة الأثر الواضح للنهضة الحسينيّة في تكوين القيم الأخلاقية والدينية لبناء شخصية الإنسان، حيث تنعكس على جميع جوانبه الجسديّة والنفسية والروحية، ويسوق الباحثون في علم النفس والتربية أمثلة كثيرة على تأثير النهضة الحسينيّة على الخصائص والصفات الخلقية كون الارتباط الوثيق بين القيم الأخلاقية والتربوية، والنهضة الحسينية التي تصلح لكلّ زمان ومكان؛ لأنّ التجديد الذي اعتمدته النهضة الحسينية من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم وسنّة الرسول محمد صلى الله عليه وآله كان ولا زال منهجاً واقعياً يراعي واقع الإنسان في حسن الخلق والسلوك، وإسهامه في مقارعة كلّ ما يفسد الأرض من شرٍّ وظلم.

إنّ المنهج الشمولي لنهضة الإمام الحسين عليه السلام راعى فيه كلّ مفاصل الحياة التربوية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية، وجعل من كرامة الإنسان منطلقاً لثورته.

 

الأخلاق.. مفهومها أنواعها

في اللغة: «الدين والطبع والسجية»[18]. وفي الاصطلاح: «عبارة عن هيئة راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية»[19]. فإن صدرت عن الهيئة الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر هنا الأفعال القبيحة، سُمِّيت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً.

وحقيقته أنّه صورة الإنسان الباطنية، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، وهذا المعنى يؤكِّد أنّ الإنسان يحاسب في هذه الدنيا وفي يوم القيامة على سلوكه وأعماله؛ لأنّهما أمران يصدران إرادياً عنه، وغير مفروضين عليه.

والخلق يُعرّف بحسن التقدير والحكمة، ويشتمل الخلق على هيئة جميلة. ومن هنا استُعمل للسلوك على نهج مستقيم جميل.

ويُعرِّف إخوان الصفا الأخلاق بأنّها: «تهيؤ ما في كلّ عضو من أعضاء الجسد، ويسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال، أو عمل من الأعمال، أو صناعة من الصنائع، أو تعلُّم علم من العلوم، أو أدب من الآداب أو سياسة، من غير فكر ولا روية»[20].

 

أنواع الأخلاق

تنقسم الأخلاق إلى: أخلاق حسنة، وأخلاق سيئة، وكذلك الأفعال التي يمكن تقسيمها إلى: أفعال جيدة، وأُخرى رديئة، انطلاقاً من الأُسس النفسية لهذه الأفعال أو السلوكيات، وانطلاقاً من الصفات الثابتة للأخلاق التي تنقسم بدورها إلى الصفات الحسنة والقبيحة، وبذلك تكون الممارسات إفرازاً طبيعياً للأخلاق، وكما يعبّر عنها في علم الأخلاق بالفضائل والرذائل:

أ ـ الأخلاق الحسنة: وهي ملكة نفسانية راسخة تصدر عنها السلوكيات الجيدة بسهولة ويسر، وتلك السلوكيات المقبولة طبقاً لموازين العقل والدين، والتي تتطابق مع ما يُسمى في علم الأخلاق بـ(الأخلاق الفاضلة)، التي تكون عادةً إحدى أبحاث علم الأخلاق، ويكون اكتسابها من الأهداف الغائية عند كلّ إنسان في سُلّم الصعود والسلوك الأخلاقي.

حسن الخلق، أو الخلق الحسن: هو ما أكّدت عليه كثير من النصوص القرآنية، والنصوص النبويّة، وكذلك النصوص الواردة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام.

ـ مدح الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في القرآن الكريم بسبب عظمة أخلاقه، فقال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [21].

ـ وأكدت الأحاديث النبويّة الشريفة المروية على حسن الخلق بصورة خاصة، فجاء في الأحاديث الشريفة عن الرسول صلى الله عليه وآله: «حسن الخلق نماء»[22]، «لا حسب كحسن الخلق»[23]، «إنّ أحسن الحسب الخلق الحسن»، «البر حسن الخلق»[24]، «من سعادة المرء حسن الخلق»[25].

ـ وفي حديث آخر يوصي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله المسلمين بالتخلّق بأخلاق الله، فيقول: «تخلّقوا بأخلاق الله، إنّ أكثر الناس يدخلون الجنّة بتقوى الله وحسن الخلق».

ويصرّح الرسول صلى الله عليه وآله في حديث بأنّ الدين هو الخلق الحسن، وهو الهدف النهائي والغائي من بعثة الأنبياء، حيث يقول: «إنّما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق»[26].

ـ وجاء في الأحاديث عن الإمام علي عليه السلام تأكيده الصريح والواضح على حسن الخلق في موارد كثيرة، من جملتها: «حسن الخلق رأس كلّ برّ...»[27]، «حسن الخلق أفضل الدين...»، «لا قرين كحسن الخلق..»[28]، «أكرم الحسب الخلق»[29].

ب ـ الأخلاق السيئة: فالخلق السيء (القبيح): هو ـ أيضاً ـ ملكة نفسية راسخة تصدر عنها السلوكيات والممارسات السيئة بسهولة ويسر وعفوية، وتلك الأفعال التي لا يرضى بها العقل ولا الشارع المقدّس أو الدين، والتي تعكس الصفات البذيئة والأخلاق الرذيلة عند الإنسان.

 تناول علم الأخلاق الرذائل الأخلاقية بالبحث والدراسة، وكذلك الحال بالنسبة للفضائل الأخلاقية؛ ذلك لأنّ علم الأخلاق الذي يُعبّر عنه بأنّه طب الأرواح والنفوس يجب أن يتناول الآلام من جهة، ومن جهةٍ أُخرى يصف لها العلاج الناجع، ومن هنا؛ فإنّ الرذائل الأخلاقية في الآلام والأوجاع وعلاجها يكمن في الفضائل.

لم نجد في القرآن الكريم آية تتناول الخلق السيئ بصورة صريحة، ولكن الروايات والأحاديث النبويّة قد تناولته بشكلٍ صريحٍ لا لبس فيه، فنُقل عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله: «مَن ساء خُلقه عذّب نفسه»[30]، وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل»[31].

وجاء في الكلمات القصار المنقولة عن الإمام علي عليه السلام أربع وعشرون كلمة تتناول سوء الخلق جاء في إحداها بأنّ: «كلّ داء يداوى، إلّا سوء الخلق»[32].

وهناك ما يشير في كلمته إلى أنّ سوء الخلق هو سبب التعاسة في الحياة حيث قال: «مَن ساء خلقه ضاق رزقه»[33]، و«سوء الخلق نكد العيش وعذاب القبر»[34]، ويعلل الإمام عليه السلام كلّ ذلك بالجهل، حيث يقول: «الخلق المذموم من ثمار الجهل»[35].

 

أخلاق مهنة التعليم في الإسلام

حظيت أخلاقيات مهنة التعليم بالذات باهتمام خاص من قِبَل العلماء والمفكِّرين التربويين المسلمين عبر العصور، والإسلام في تربيته قد أَوْلى عناية خاصة للجانب الأخلاقي في كلِّ ميادين الحياة، ومن هذه الميادين ميدان التربية والتعليم نفسه، بل إنّ الأخلاق مَعلَم بارز في كلّ مناحي الحياة الإسلامية، وقد كان رسول الهدى ونبي الرحمة وحامل رسالة الله إلى الإنسانية كافّة صلوات الله وسلامه عليه كما وصفه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [36]، وكان خير معلّم عرفته البشرية، وكان على هذا الخلق العظيم، ومن خلقه ذلك ما خاطبه به ربّه} بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [37]، وما أخبرنا به تعالى عنه بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [38]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [39]، ثمّ أرشدنا تعالى إلى التأسّي به بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً﴾ [40].

فهو بخلقه العظيم أُسوة عامّة للمسلمين أجمعين، وهو بتعليمه وتربيته في إطار هذا الخلق العظيم أسوة للمعلِّمين والمربِّين بشكل خاص، ومعنى ذلك أنّ المعلِّم المسلم مطلوب منه أن يمارس مهنته مقتدياً بالرسول صلى الله عليه وآله محاولاً أن يقتبس من خلقه وسيرته.

فقد وصفته زوجه عائشة حينما سُئلت عن خُلُقه، فقالت: «كان خُلق نبيِّ الله القرآن»[41]، أي: إنّه كان متخلقاً بكلّ الأخلاق والآداب الحسنة التي دعا إليها القرآن، وكان عاملاً بكلّ أوامر الله الواردة في القرآن منتهياً عن نواهيه، مباعداً لكلِّ ما حذّر الله منه في كتابه، فكان يتحرّك عليه الصلاة والسلام حركة فعلية بأخلاق القرآن، وهو المعلِّم الفذّ الذي أدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح للأُمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وأقام أركان المجتمع المسلم، وأنشأ الدولة الإسلامية، وأرسى قواعد الأخلاق، ورسّخ بنيان التعليم على تلك القواعد، فهو في ذلك أُسوة للعالِـم والمتعلِّم، بل هو أُسوة للناس كافّة، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً﴾ [42].

فهو عليه السلام قدوة في حسن الخلق للناس كافّة، مَن كان منهم في مهنة التعليم أو غيرها من المهن، ومهنة التعليم بالذات كان لها نصيب كبير من الاهتمام في التربية الإسلامية، ولا سيّما فيما يتعلّق بالأخلاق التي تنتظم من خلالها العلاقة بين المعلِّم والمتعلِّم والتي استقاها المربّون المسلمون من هدي نبيّهم.

المنهج التربوي عند الإمام الحسين عليه السلام

يستند المدلول اللغوي لمفهوم التربية إلى مرتكزات نفسيّة وفكريّة وقيميّة، فالتربية في اللغة مأخوذة من ربّى ولده، والصبي يربيه، ربّاه: أي أحسن القيام عليه حتى أدرك. فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل أو الابن أو المملوك بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب، ولما لهذه المفردة من أهمّية في الحياة اليومية والفكرية للشعوب، فقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في سبر أغواره والكشف عن متبنياته الفكرية والعلمية، وصاغوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في تعابيرها وارتكازاتها، فجاءت متّفقة في جوهرها، ونستعرض بشيء من الإيجاز أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنتبيّن من خلالها كنه المنهج التربوي بشكله العام وإطاره الفكري.

عبّر أفلاطون عن التربية بأنّها: «إعطاء الجسم والروح كلّ ما يمكن من الجمال، وكلّ ما يمكن من الكمال»[43]، وهو هنا يعتمد على الجانب الكمّي من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية التي يعتقد أفلاطون بأنّها قادرة على إكساب الإنسان السلوكيات والأخلاق التي يمكن أن ترقى بالفرد للكمال.

بينما يقول أرسطو: «إنّ الغرض من التربية هو أن يستطيع الإنسان الفرد عمل كلّ ما هو مفيد وضروري في الحرب والسِّلم، وأن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة، وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في الحياة»[44]، أي: إنّ أرسطو ينظر إلى التربية عبر النتائج التي تتمخض عنها في أنّها تؤدِّي إلى جعل الإنسان قادراً على العطاء والإنجاز لكلّ الأفعال التي تكون محطّ الفائدة للفرد والمجتمع، وهو بذلك يحاول تصوير التربية على أنّها جهد فردي يصبّ في منفعة المجتمع لإيمانه بضرورة التفاعل بين الفرد والمجتمع.

في حين ينظر جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي إلى التربية على أنّها «الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حُرّاً، ويكون القلب قلباً حرّاً»[45]، وهو هنا يركِّز على النظر إلى النواحي الروحية من التربية، ويعتقد أنّها تسهم إسهاماً بالغاً في صناعة الشخصية الفردية المتميزة والمتفرّدة في المجتمع، فالتربية ـ بحسب ما يراه ـ تجعل العقل حُرّاً، وهو هنا يشير إلى القدرة على التفكير الموضوعي والتخلّص من المؤثرات التي تؤثِّر في الأحكام، ويكون القلب حُرّاً وهو هنا يشير إلى الحرية العاطفية ـ بحسب ما يراه ـ

في الميول العاطفية غير المتأثّرة بالمثيرات البيئية التي تفيد حرية العاطفة. ويبدو من خلال استعراض الآراء أنّ إبراز الأفكار تمحورت حول جوانب تبدو أشبه بجوانب مكعب له نفس الجوهر، وهو ما أشار إليه الغزالي في معنى التربية، والذي شبه فيه التربية بفعل الفلّاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الضارة من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه.

أمّا ما قاله جون ديوي واصفاً إيّاها بأنّها «عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد، ثمّ صبّها في قوالب معيّنة»[46]، أي: تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة.

ومن هنا؛ جاءت الآراء التي ذكرناها تصوّر التربية في أبعاد وجوانب مختلفة الشكل، كلّ بحسب ما يراه، وبالمقابل ننظر في ما روي عن الإمام عليه السلام من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية؛ إذ يرى الإمام الحسين عليه السلام أنّ الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق؛ إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتّبه أحسن ترتيب، ونظّمه أجمل تنظيم، وأتمّ مرافقه على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيى في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه ومقاصده وفق أحكام الله وإرادته، مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلّا أنّه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمّارة بالسوء فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة؛ فبات أسير أوهامه وشهواته.

إنّ ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأنّ الشيطان الذي أغواه في الجنّة لن يتوانى عن إغوائه مرّة أُخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله مَن كان ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان، هذه الأُمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه، ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلّا أنّ هذه التربية لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة لها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.

وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمّنت الروايات عن الإمام الحسين عليه السلام والتي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من مصدره، كما وتحثّ على العمل حتى لا تبقى التربية مجرّد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع.

لذلك فإنّ الإمام عليه السلام يدعم القول بالعمل، وهذا هو الحقّ الذي يشهد به العمران والتقدّم والتطور الحاصل في المجتمعات، من ذلك قوله: «العلم لقاح المعرفة، وطول التجارب زيادة في العقل»[47].

 

دور النهضة الحسينيّة في تشكيل القيم الأخلاقية

تُعتبر النهضة الحسينيّة بيئة أخلاقية متكاملة تترك آثارها الملموسة على الإنسان حيث تخلق أجواء تربويّة فكريّة وسلوكية تؤثِّر تدريجياً على شخصية الفرد من خلال الالتزام الديني، وتأخذ أبعادها التربوية لإصلاح المجتمع ومواجهة الضلال الفكري والتعصّب الديني.

وبينما أتناول النهضة الحسينية فإنّ شعوراً بالتردد يعتريني؛ لأنّه مع بساطة الموضوع الظاهرة إلّا أنّه لا يخلو من اللبس والحذر، ولا سيّما حينما تتدخل فيه الصراعات السياسية، وحينما يمس مشاعر عدم التسامح والأحكام التقويمية، ولنا أن نحصي الورق المنشور والمداد المراق والأقلام والأفكار المسموعة والفضائيات والإعلام الملوث، وفي الصراعات والجمود الفكري والعصبيات الضيقة، وتصوير هذه الثقافة من زوايا رؤية تحجب النظرة المتكاملة حتى لا تعطيها فرصة للظهور بحجمها ووزنها الموضوعي، وأنت قد تتفق معي بأنّ هذا النزف الثقافي سبب ونتيجة للصراعات السياسية التي تحيط واقعنا.

ونحن لو تعمقنا في الأسباب التي أفرزت هذه الصراعات لوجدناها في هذا المحيط فكرية عقائدية الطابع، وهذا أقوى مظاهرها، ومع كلّ ذلك يبقى القول الفصل ثابتاً: «لمّا كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام»[48].

إنّ هذا البناء الذي يحصّن العقل والفكر ويحيي الثقافة لا يتمّ إلّا بخطاب حضاري ثقافي أخلاقي ينبع من النهضة الحسينيّة الراقية السامية، ويسعى إلى تكوين بصيرة بأهمّية القيم الإسلامية وقيمها الحيويّة، وتفوّقها على كلّ القيم الاجتماعية والحضارية الموجودة لدى الأُمم الأُخرى. ثمّ لا يمكن تبديلها أو تعويضها بأيّ حال من الأحوال، وتبصيرهم كذلك بأساليب الهجمات المضادة للآخرين بثوابت هذه القيم ودورها في إرساء الحقائق التي لا تطالها الشكوك، وكذلك بتكوين البصيرة بكيفيّة ايضاح الحق لهم، لا باستخدام الأساليب الباطلة والوسائل الملتوية واستخدام الطرق الإعلامية على اختلاف أنواعها ومسمياتها؛ لأنّ هذا الإيمان في غاية الأهمّية لإزالة الشعور بالعجز وبعدم الثقة بالمؤمنين وبعقيدتهم، وهذا الأمر أيضاً لا يتمّ بالقوّة التعليمية والتربوية والنفسية للخطاب في تنمية الإيمان ورسوخه وتنمية العقول وبناء الشخصية القادرة على الثبات على مبدأها.

وإذا كنّا ننسى، فلا ننسى العمل على إزالة الخرافات والأفكار المظللة من عقل المتلقِّي بسبب النهضة الحسينيّة، واستخدام كلّ الوسائل النفسية والتربوية لتثقيف المتلقِّين على نحو تستطيع هذه العقول في ضوئها أن تتشرب بالعقيدة المطلوبة إلى أن يصبحوا كما وصفهم القرآن الكريم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً  وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً  وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً  إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً  وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً  وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ [49].

إنّ جوهر النهضة الحسينيّة هو إشاعة روح التعاطف والتراحم والمودّة؛ لأنّ الأُمّة التي لا تسود بين أفرادها هذه الروح لا توجد فيها حياة مطمئنة، وتتحكّم فيها العلاقات الرسمية والمصالح المادّية، ثمّ تكون الحياة الاجتماعية جافّة ومملة لا طعم فيها، ولهذا أراد الإسلام من أجل هوية واحدة لهذه الأُمّة أراد بناءها على أساس التراحم والمودّة لدرجة أن تكون الأُمّة كجسد واحد، كما قال الرسول صلى الله عليه وآله: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[50]، وقال صلى الله عليه وآله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»[51].

إنّ فعل هذه الروح إذا انتشرت في جسم الأُمة وبانت أخلاقياتها السلوكية وتصرفاتها العملية الواقعية؛ فإنها لا تنهار ولا تتفكك إن شاء الله.

وهذا الأمر يكون روح المواجهة للتحدّيات وروح الكفاح والمقاومة للتيارات والأفكار الغازية التي تريد احتلال مواطن القوّة في الهوية العقائدية والإنسانية، وهنا تتكوّن روح الخير التي تسعى لترقية الإنسانية إلى ازدهار الثقافة والحضارة والرفاهية، وقد قيل في هذا الصدد: «لو بذل الإنسان في السيطرة على جماح نفسه بعض ما يبذله من الجهد في السيطرة على قوّة الطبيعة، لكان عالمنا اليوم عالم طهارة وسعادة»[52].

وهذا لا يتمّ إلّا عندما تسعى تربية النهضة الحسينيّة وهي تشكِّل محددات الهوية من خلال بثّ المرتكزات الأخلاقية، وحقيقة الأمر هو: لو أنّ الناس بذلوا لتطهير نفوسهم من الشرور والعدوانية كما يبذلون لتطهير المدن ومظهرهم لما رأينا هذه الشرور، علماً أنّ القذارة الأخلاقية لا تقل إطلاقاً عن القذارة المادية من خلال ما يشمئز منه الإنسان.

الخاتمة

إنّ ما يجري في العالم من أزمة أخلاقية، وتأثيرها في القيم الإسلامية، يرجع في الكثير من أسبابه إلى اختلاف البيئات الاجتماعية، وهذا الاختلاف أدّى إلى عدم انسجام في المنظومة الأخلاقية القيمية لكلّ مجتمع؛ ومن هنا لا بدّ أن تكون الصلة قويّة بين القيم الأخلاقية والدين، وفي هذا الصدد لا بدّ أن نؤكد أنّ الدين مصدر كلّ القيم الروحية والخلقية، وهو الأساس في توجيه سلوك الفرد والمجتمع والناس، والتمييز بين الخير والشر، وبين الصواب والخطأ، ويكاد يتّفق المفكّرون والعلماء والمربّون على أنّ النهضة الحسينيّة تُعدّ الهدف الأسمى للتربية والتعليم، فليس ثمّة درس يتعلّمه الإنسان ولا عادة يكتسبها دون الرجوع إلى المنظومة الأخلاقية في النهضة الحسينيّة، حيث تسعى الأخلاق إلى تنمية الوازع الداخلي للضمير الإنساني، كما تهتم بتزويده بمعرفة الأخلاق القرآنية، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله، ومن هذه الأخلاق المحمدية انبثقت النهضة الحسينية، حيث أصبحت الدرس الأوّل، في تربية الجيل على أساس الفضيلة والخلق القويم، بعيداً عن الانحلال والتفسّخ، فالنهضة الحسينيّة ضرورية جداً في بناء شخصية الفرد المسلم.

 

الكاتب: م. م. سنان سعيد جاسم

مجلة الإصلاح الحسيني - العدد السابع عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

 [18] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج10، ص85.

[19] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ج8، ص96.

[20] إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا: ج1، ص305.

[21] القلم: آية 4.

[22] الهيثمي، علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد: ج8، ص22.

[23] الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص526.

[24] النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج8، ص7.

[25] المتقي الهندي، علي بن حسام الدين، كنز العمال: ج3، ص12.

[26] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج16، ص210.

[27] الليثي الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ: ص227.

[28] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج66، ص409.

[29] الليثي الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ: ص113.

[30] ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول: ص58.

[31] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص321.

[32] الليثي الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ: ص375.

[33] المصدر السابق: ص431.

[34] المصدر السابق: ص285.

[35] المصدر السابق: ص47.

[36] القلم: آية 4.

[37] آل عمران: آية 159.

[38] التوبة: آية 128.

[39] الجمعة: آية 2.

[40] الأحزاب: آية 21.

[41] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج3، ص380.

[42] الأحزاب: آية 21.

[43] اُنظر: مفهوم التربية عند الإمام علي عليه السلام:

https://www.aqaed.com/ahlulbait/books/imam-nahj.

[44] المصدر السابق.

[45] المصدر السابق.

[46] المصدر السابق.

[47] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج75، ص128.

[48] من نص ديباجة الميثاق التأسيسي لليونسكو، اُنظر: http://ar.unesco.org/node/.

[49] الفرقان: آية 63ـ68.

[50] النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم: ج8، ص20.

[51] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج1، ص9.

[52] داغستاني، بلقيس، التربية الدينية والاجتماعية للأطفال: ص11.

 

المرفقات