المقدّمة[1]
قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .[2]
من هذا المنطلق كانت الثورة الحسينية، وخرجت تنادي تأكيداً للرسالة المحمدية وثباتاً عليها، بعد أن قام مَن رام السلطة وعشق التسلّط على رقاب الناس تحريفها، ليكون رافداً لمصالحه، لكن أبت الكلمة وانتفض الدم أمام ظلم الظالمين، فكان الموت للإمام اختياراً وليس خياراً؛ لأنّه أدرك الموت بهذه المعركة، كما أدرك بقاء الدين، بل كانت معركة الطفّ حفاظاً على منبر الرسول صلى الله عليه وآله.
لذا؛ جاءت نهضة الإمام الحسين عليه السلام نهضة صادقة، فيها استشعر المسلم روح الإيمان الصادق، وعزّة النفوس وكرامة الأهل، وهو جانب مهم من أسباب قيام الثورة.. أمّا الواقع حينها، فقد تمثّل في العيش تحت الضيم والظلم، وتقويض الهوية الإسلامية، واستبدالها بهويات كانت تتصارع من أجل الوصول إلى السلطة، وهذا من أكبر الأسباب وأشدّها تأثيراً على الهوية الإسلامية، وهي الهوية القبلية التي حاربها الإسلام، وحاول إذابتها، فما كان من قريش إلّا الانتفاض على الهوية الإسلامية تعنتاً وظلماً، فقد بقيت تلك الهوية تصارع بصمت مقنَّعة تحت تسميات عدّة، تتربص الفرص للظهور مرّة أُخرى، وكأنّها كانت تستولد تسمية ملائمة، وظرف أكثر ملاءمة لتنمو من جديد.
لكن ثورة الإمام كانت حدّاً فاصلاً منعت نمو الفساد في الهوية الإسلامية الأصلية، فشرّعت الموت من أجل الحياة، وهو مفهوم استوعبته العامّة والخاصّة حينها؛ لأنّ الحدث كان يتطلب مخرجاً من مزلق الظلم الذي ساق الناس كالأنعام، وتسلّط على رقابهم وضمائرهم.
لذا؛ كان هذا البحث خطوة للكشف عن مفهوم الثورة، والبعد الاستشرافي الذي نهضت من أجله ثورة الإمام عليه السلام، عسى أن يوفقنا الله لمرضاته ملتمسين عفوه ونعمته.
التمهـيد في معنى الثقافة الثورية
يلتقي العنوان مع المتن في مهمّة لا تخرج عن أُطر الواقعية؛ إذ لا يمكن عدّ البحث في ثورة الإمام الحسين عليه السلام مجرد حدث وقع في إطار زمني، ثمّ خمد وحقق الانتصار على صعيد حدوث الحدث فقط.
ليس هذا ما حصل في ثورة الإمام الحسين عليه السلام، بل امتدّ الحدث وتوالد عبر عصور لاحقة، وصولاً إلى أيامنا هذه؛ لهذا يمكن عدّ الثورة الحسينية رمزاً إنسانياً ينبض بالتعبير الإيجابي وما زال إلى اليوم.
فالمقصود بالثقافة هُنا (Revolation): «كلّ ما فيه استثارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد، والحكم لدى الفرد أو في المجتمع، وتشمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يُسهم بها الفــــرد، أو في مجتمعه، ولها طرق ونماذج عملية، وفكرية، وروحية»[2]. وتدخل الثورة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام ضمن هذه المعطيات، فهي مبدأ حافظ على رقيه وديمومته منذ زمن وقوع الثورة، وما زال إلى اليوم رغم أنّ «مفهوم الثقافة يتضمّن عنصراً معيارياً»[3]، لكن ثقافة الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام بعيدة عن هذا تماماً؛ لكونها قيمة معنوية خالصة، ومفهوماً جديداً للعيش الحر، جعل أهم العناصر التي يتشبّث بها الإنسان على المحك، وتأتي في مقدّمتها (الحياة)؛ إذ قدّم الإمام حياته لتثبيت الدين، وترسيخ مفهوم الإيمان الحقيقي.
إذن؛ فالثقافة هُنا تدلّ على «مجموعة من المعارف، والمهارات التقنية والذهنية، وأنماط التصرف والمخالفة، التي تميّز شعباً عن سواه من الشعوب»[4]. وعليه؛ تكون الثورة «نقطة تحوّل في حياة المجتمع لقلب النظام البالي، وإحلال نظام تقدّمي جديد محلّه، وهي بهذا تتميّز عن الانقلاب الذي يتلخّص في نقل السلطة من يد إلى أُخرى»[5]. والنقطة التي تحوّل بها المجتمع الإسلامي هي معركة الطفّ، وما تركته للمسلمين من إرث سياسي واجتماعي وديني، بقى أُنموذجاً يُحتذى به إلى اليوم؛ لأنّه من الملاءمة والحيوية ما جعله أُنموذجاً لكلّ مجتمع، مهما كانت توجهاته الدينية والسياسية والاجتماعية، فهي «مدرسة لطلائع الأُمّة، والمصلحين الذين ينشدون إصلاح أُمّتهم ومجتمعاتهم، ويبحثون عن السبل التي توصلهم إلى تحقيق أهدافهم، وأخذ أُمّتهم إلى سبيل الخير؛ وذلك لما تحويه هذه الحركة الإلهية المقدّسة من رؤى وبصائر يمكن لـمَن طالعها وتأمل فصول أحداثها أن يهتدي إلى مجموعة النظم والاستراتيجيات التي اعتمدها الإمام الحسين عليه السلام من حركته ونهضته؛ كيما يستنير بها في معترك العملية الإصلاحية»[6]. وهذه هي القيم التي روّجت لها الثورة الحسينية، وثقّفت الإنسانية عليها؛ لضمان العيش الحر والكرامة التي تُلائم الإنسان باختلاف انتمائه وجنسيته، أو دينه، فهي ثورة عالمية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.
المبحث الأوّل: الاتجاه الإصلاحي للثورة
لا يمكن عدّ الثورة الإصلاحية التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام ثورة نوعية، بل شمولية في أصدق وصف لها، وممّا يُصدّق هذا القول المدّة التي احتضنت الثورة ومهدّت لها؛ ممّا أعطى الثورة بُعداً شمولياً لم يكن محصوراً في الإسلام أو العرب، بل الانتشار الواسع الذي كانت علية الثورة، حققت هذه الشمولية التي نتحدّث عنها، ثمّ إنّ ظرفها وزمن ولادتها جعلها أكثر عمقاً، فهي كانت تنمو وتتكامل منذ زمن بعيد قبل إعلانها. فقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام زمن معاوية وسياسته، كما عاصر زمن يزيد، وقبل هذه المدّة كان لديه عليه السلام وعياً عميقاً بالمعنى الشرعي للثورة، فقد عاش الإمام مع الرسول صلى الله عليه وآله في طفولته وصباه، وكان مشهد المعارضة حاضراً أمامه، وما كان يُعانيه الرسول صلى الله عليه وآله من المشركين أيضاً، ومعاصرته لحكم أبي بكر، وعمر ابن الخطاب، وعثمان، والإمام علي عليه السلام، ثمّ عهد الإمام الحسن عليه السلام[7] الذي نجح في التخطيط السياسي لثورة أخيه الإمام الحسين عليه السلام، هذا دليل اليقظة السياسية المبكرة؛ لذا كان الإمام الحسين عليه السلام متابعاً للإمام الحسن عليه السلام بكلّ خطوة، هذه المتابعة هيأت الشعب المسلم للانتقام من النظام ولو بعد حين، وكانت يقظة الإمام الحسن عليه السلام وحدها كفيلة بصنع القرار السياسي[8].
لقد هبَّ على الأرض ربيعاً ثورياً غيّر كثيراً من المفاهيم، وأقلق كثيراً من الثوابت في التاريخ الحديث، إلّا أنّ للمسالة وقفة تأريخية قديمة يشهد التاريخ بريادتها للإمام الحسين عليه السلام، تلك هي معركة الطفّ، فالإمام عليه السلام «إنّما خرج لطلب الإصلاح في الأُمّة، وهو ربيب النبوة، فسيرته في النهضة والإصلاح منهج يُقتدى، وخطابه ومواقفه تشكل معالم هادية لكل حُرّ غيور على مصلحة أُمّته ومجتمعه»[9].
ومن هنا؛ كانت ثقافة الثورة ثقافة حسينية، وجهها الآخر الإصلاح، فقد ظهرت ببُعد استنشق الحياة من خلال الموت، فكانت إصلاحاً للدين والأُمّة، ولكن هل لهذا المفهوم ترهّل مكّنه من التمدد ليُشكّل في نهاية الأمر معنى مغايراً لحقيقة الإسلام على ما روّج له البعض؟
قطعاً لا؛ لأنّ الإسلام ـ ما زال ديناً ــ لم يكن فاسداً لإجراء الإصلاح عليه من خلال الثورة التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام، بل كانت السلطة السياسية هي مَن شوّهت أبرز ملمح إسلامي، جاهد الرسول صلى الله عليه وآله من أجل تحقيقه في المجتمعات، وهو العدلة الاجتماعية. وعليه؛ يمكن توضيح مفهوم (الإصلاح) في الثورة الحسينية بعدّة نقاط، وفقاً للسياق التأريخي الذي جاءت به الثورة، والنتائج التي توافرت عليها فيما بعد:
1ـ نقصد بالإصلاح (الفهم)، أو إصلاح الفهم، إذ يجب أن يكون فهمنا للثورة الحسينية فهماً حقيقياً لأهدافها ودوافعها، وهذا الفهم سيجعل من مفهوم الإصلاح مفهوماً واسعاً وواقعياً، وضمن أكبر وأهم الأهداف التي سعى لها الإمام في ثورته ونادى بها (تثبيت دين الله)، وليس تمرداً على السلطة، أو طمعاً بها، كما روّجت له بعض الجهات، وممّا يدل على ذلك؛ أنّ الإمام لم يدعُ الناس لبيعته عندما خرج من المدينة ونزل مكة، بل خروجه ثورةٌ ورفضٌ للظلم والطغيان[10].
2ـ مسألة شرعية تتعلّق بالإمام الحسين عليه السلام توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا)[11]. فرسالة الله التي تُشير لها الآية الكريمة، عدم الخضوع للظلم، وتأسيس الحرية للعالم، وعدم الخضوع للظالم، فقد خرج معاوية في عهد الإمام الحسن عليه السلام عن ضوابط الشريعة الإسلامية، وأكمل هذا الخرق يزيد عندما تسلّم السلطة، وهنا وجب وضع حدّ فاصل للظلم، وإعادة الثقة بمفاهيم آمن بها المجتمع الإسلامي، أهمّها العدالة؛ لذا رفض الإمام الحسين عليه السلام الخضوع ليزيد بمبايعته؛ لأنّ مبايعته تعني القبول بالخرق الذي أصاب المفاهيم الإسلامية وتثبيته.
3ـ إناطة الأدوار إلى أصحابها، ولا سيّما في الجانب السياسي، الذي كان النواة الحقيقية للإصلاح؛ لأنّ الأُمّة مرتبطة بقادتها، وهنا وجب الرجوع للجانب الشرعي، وتسلّم السلطة السياسية من قِبل الإمام الحسين عليه السلام، وتطبيقاً للمنهج الإسلامي الذي دافع عنه الإمام الحسين عليه السلام، لم يكن تمسّكه بالخلافة إلّا من خلال أحقيته فيها، إذ قال: «فمَن قَبِلَني بقبول الحق فالله أوْلى بالحق، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين»[12]. فالإمام عليه السلام كان مصرّاً كلّ الإصرار على تصحيح الفهم، فحديثه يدلّ على أنّه ترك أمر خلافته لله وحده يحكم بينهم بالحق، ولم يتعنّت، أو يتوعّد، أو يستبد برأيه[13].
إذ كان عليه السلام يُشكّل الخط المعارض للحكم حينها؛ وممّا يدلل على ذلك عدم استظهار النية لثورة مسلحة في بادئ الأمر، أو إعداد جيش من العامّة لإسقاط الحكم، مع أنّه عليه السلام يمتلك القناعة التامّة بعدم جواز استمرار حكم بني أُمّية للأُمّة الإسلامية، وبحتمية المواجهة، ولكن وفق مراحلها الشرعية، وذلك من خلال الكثير من الأحاديث التي وردت عنه عليه السلام، فقد ردّد كثيراً عليه السلام حديث رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ ذكر عن جدّه قوله: «إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دغلاً، ومال الله دولاً، وعباد الله خولاً»[14].
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فقد كان على الإمام مسؤولية دينية حتمية لم يستطع دون إبلاغها مهما كان ثمن سكوته، فقد شكّل المشروع الأُموي تهديداً حقيقياً للإسلام، وهنا كان من الواجب الشرعي على الإمام مواجهة هذا المشروع وإيقافه، وإن استمر بلا مواجهة، فعلى الإسلام السلام كما قال عليه السلام في كلمته المشهورة لمروان بن الحكم: «وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»[15]، ممّا يمكن ملاحظة المبدئية المتفردة التي يُظهرها الإمام في التمسّك بالدين وقواعده ودقائقه، وهو القائل في معركة الطفّ: «لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»[16].فقد نشأ الإمام الحسين عليه السلام على هذه المدرسة، وجعلت منه رائداً لها وقائداً لم يشهد له التاريخ زلّة يقف عندها مبغضوه، فقد جسّد للتاريخ أروع ما كانت الإنسانية تتفاخر به، ولا سيّما أنّه عليه السلام كان يعلم بموته في معركة الطفّ، كما يعلم بقضية السبي التي ذكرها، فقال: «شاء الله أن يراهُن سبايا»[17]، فقد جسّد المبدأية القصوى في ثورته خير تجسيد؛ من أجل إصلاح الفهم الذي لحق بالإسلام، جرّاء تمسّك بني أُمّية ومَن لفَّ لفهم بالحكم؛ تشويهاً لتعاليم الإسلام، ولحقيقية منبر الرسول صلى الله عليه وآله بالجور والظلم.
وكان لمبدأ الحسين عليه السلام الأثر الواضح في تعرية السلطة الأُموية، ومنع تنامي تجربتها ونمذجتها على مستوى السلطة الدينية والسياسية في العالم الإسلامي، إذ رأى الإمام عليه السلام «الخطورة كانت تتمثّل في أن تُقدّم التجربة الأُموية على أساس أنّها نموذج للتجربة الإسلامية على مستوى السياسة والاجتماع والاقتصاد... بحيث تصبح تلك التجربة أحد أبواب فهم الإسلام، وتُدرج على أساسه أنّها صفحة من صفحات كتابه»[18].
ومن هنا؛ نكتشف أنّ ثقافة الإصلاح التي قام بها الإمام الحسين عليه السلام أصبحت ثقافة عامّة لكلّ شعب ولكل عصر؛ لأنّها كانت ضمن ما جاء به القرآن الكريم، وبالتالي فهو ـ الإصلاح ـ من الملاءمة والمناسبة ما يصلح للمجتمعات الإنسانية، وهذا ردّاً على مَن ينتقد التجربة الإسلامية، وانتصاراً لإصحاب المقاربة النقدية الإسلامية التي وجّهت جهدها لإظهار نجاعة التعاليم الإسلامية للعالم الإنساني، بغض النظر عن الدين أو التوجه الطائفي، رغم وجود عقليات سُخّرت للحيلولة دون هذه المقاربة، وسيلفتنا في هذا الصدد الصراع المدمّر بين المذاهب الإسلامية نفسها، الذي أصبح شفرة حادّة تشوّه وجه الإسلام الحقيقي.
المبحث الثاني: الاستدماج الديني
لم تكن الثورة الحسينية بعيدة عن الدين الإسلامي، أو غير متوافقة معه، بل من أعظم أهدافها حفظ الدين والتمسك به وبتعاليمه، خلافاً لما عرضه الجانب المناهض للثورة؛ لذا لو أمعنا النظر في المفاهيم الإسلامية التي عكستها الثورة، نجدها على ثرائها وعمقها نادرة جداً مع الظرف الحربي والسياسي الذي عاشه الإمام عليه السلام، كما لا ننسى أنّ الجانب المناهض للثورة كانت غايته تسقيط الإمام الحسين عليه السلام وأتباعه دينياً وسياسياً واجتماعياً؛ لذا كانت أساليبه مغالطية، يمكننا عرضها في خضم الحديث عن الظروف التي مرّت بها الثورة، والكشف عن عمق الاستدماج الديني الذي شكّلته الثورة بقائدها وأتباعه.
مرّت الثورة بمرحلة لا يمكن إغفالها للرأي العام، وهي مرحلة العلن التي خاض غمارها الإمام عليه السلام مع أتباعه؛ لوصول الأمر إلى أشدّه في الفساد الذي أخذ يبعث حالة التدهور الفكري والاجتماعي في المجتمع العربي بعد عصر النبي صلى الله عليه وآله، فكان الحكم تحت أشدّ الناس فساداً وعنجهية، واستهتاراً بقيم الإسلام، حينها كانت كلمة الإمام عليه السلام الفصل التي قضّت مضاجع المفسدين، وهزّت عروشهم، وأخذت بتخبطهم، وهي قوله عليه السلام: «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله»[19].
إذن؛ الفساد الذي أشار إليه الإمام عليه السلام كان سارياً في الأُمّة نفسها لا الحكم فقط؛ لذا جاءت التعبئة الدينية مخرجاً ناجعاً للإمام في تحشيد الناس وترغيبهم في الثورة على الظلم والفساد، وبيان آثاره اجتماعياً وفكرياً، وسياسياً وعقائدياً، ومن هذا الاستدماج ما نلاحظه في خطابه لأعدائه وأتباعه.
فمن خطابه لأعدائه هادفاً إلى تغيير مسار الانحراف الذي أصابهم، ووضع حدٍّ للفساد الذي أخذ ينخر مفاصل المجتمع؛ بسبب جهلهم وتعنّتهم، قوله عليه السلام حينما أخذت الثورة بمرحلتها الأخيرة، وأخذ أعداء الإمام بالهجوم على معسكر الإمام وحرق الخيام التي أخذت بالانحسار بسبب النار، وهو موقف حرج: «فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام، فيرون الخندق في ظهورهم، والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أُلقي فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين، أتعجّلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين عليه السلام: مَن هذا، كأنّه شمر بن ذي الجوش؟ فقالوا: نعم. فقال له: يا بن راعية المعزى، أنت أوْلى بها صليا. ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك. فقال: دعني حتى أرميه، فإن الفاسد من أعداء الله، وعظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه. فقال له الحسين عليه السلام: لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال»[20].
في النص معجمان يتصارعان من أجل تقديم رؤية إنسانية خيّمت على الواقع التاريخي الذي احتضن الحدث:
الأوّل: يتمثّل في الجهة السالبة التي تتمثّل في السلطة الأُموية وبشاعة أساليبها في الحفاظ على السلطة.
أمّا الجانب الآخر: فيتمثّل في الجهة الموجبة متمثّلة بشخص الإمام الحسين عليه السلام وأتباعه، ممّن كان لهم الحظ في المشاركة، ونيل شرف المقاتلة بجانب الإمام عليه السلام في واقعة الطفّ. الحدث في هذا النص يدور في الواقع بين الشرّ والخير.
يُقدّم الجانب الأوّل الحدث بنتيجة مغالطية، وهي دخول الإمام الحسين عليه السلام النارـ كما أفرزه النص على لسان الجانب السالب ـ وهو حكم فيه مكر واستفزاز للمخاطبين في واقعة الطفّ، كما أنّه حوار لم يلتزم بشروط المحاورة مع تناقض أطرافه، فما الجريمة التي أدت إلى الحكم على الإمام بالنار يوم القيامة كما جاء على لسان شمر بن ذي الجوشن في النص؟ محاربة الفئة الضالة وإصلاح الأُمّة التي أخذت تنصاع مطيعة خانعة للسلطة الأُموية، وبالنظر إلى الشخصية التي يدور حولها الحدث ــ شخصية الإمام الحسين عليه السلام ـ شخصية واقعية يمكن للعامّة الحكم عليها بالنقيض، لما جاء على لسان شمر بن ذي الجوشن، لكن الوظيفة النفسية التي كانت هدف المخاطب لم تكن ناجعة على مستوى المحادثة؛ لأنّها لم تجرْ المحادثة إلى مستوى مغالطي كما كان متوقعاً من المخاطب، فكان الافتتاح فاشلاً، لم يؤدِ التفاعل المرجو الذي يأخذ بالمحادثة مأخذاً جاداً، كما في دور شمر بن ذي الجوشن في النص، فالفعل الكلامي الذي قصد انجازه شمر بن ذي الجوشن بدء القتال وقتل الإمام عليه السلام، لكن لم يُنجز هذا الفعل بفضل الاستدماج الديني الذي جعل عملية التواصل فاشلة للطرف السالب في الحوار، وناجعة للطرف الموجب ـ أي: الإمام عليه السلام ـ ولأنّ هناك علاقة بين الفعل الكلامي والفعل الاجتماعي، لم يكن التفاعل على مستوى إنجاح عملية، «فكل فعل اتصالي يتطابق إلى حدّ كبير مع الهدف منه»[21]، للرد الذي جاء على لسان الإمام الحسين عليه السلام عندما رام مسلم بن عوسجة رمي شمر بن ذي الجوشن: «إنّي أكره أن أبدأهم بقتال»، مع اعتداء شمر بن ذي الجوش على الإمام عليه السلام، والتجاوز اللفظي والعقدي الذي ذكره شمر بن ذي الجوش، لكن ردّ الإمام كان حدّاً فاصلاً يشهد بزيف الآراء التي تبنّاها معاوية ومَن كانوا معه للحفاظ على السلطة، إذا لم يحمل خطابه عليه السلام، هوية فردية تفرز غاية شخصية أو توجه خاص، بل كلّ ما دار عليه الخطاب هو تفنيد رأي شمر بن ذي الجوش، والرجوع في أمره إلى الشريعة الإسلامية مع اعتدائه وتجاوزه.
ونلاحظ هذا المبدأ في جميع خطاباته عليه السلام للفئة الضالة، التي حاربت من أجل تشويه الدين، وجرف الناس إلى التردي الذي كان يقود الناس قبل فجر الإسلام؛ لأنّه عليه السلام يمثّل في تلك المرحلة أخلاق الإسلام في عقائده وتشريعاته، التي تبغي إلى تهذيب النفس وإصلاح المجتمع، والرقي بالأخلاق إلى أرفع المستويات والمنازل وأكرمها، وهذا ما ظهر في ممارساته عليه السلام[22]، ومن ذلك قوله، وهو يخاطب الناس من أجل نصرة الإسلام: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما هو حق لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمّة، ثمّ اقضوا إليّ ولا تُنظرون، إنّ ولييّ اللهُ الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»[23].
المعركة التي كانت بانتظار الإمام عليه السلام لم تكن معركة متكافئة، بل مَن كان معه من أهل بيته وصحابته لا يتجاوز المائة كما ذكرت بعض المصادر، بينما ما كان في جبهة معاوية كان بآلاف، ومع ذلك نلمح الاستدماج الديني الذي كان عليه الإمام عليه السلام، ولم تكن لغة القوة هي المهيمنة على الموقف على حرجه وحدّته، فقد أوكل الإمام عليه السلام أمره إلى الله يحكم بينه وبين القوم الظالمين، ولم يتخذ سُبلاً أُخرى في خطابه؛ لتحرير الناس من ضلالتهم التي كانت مسيطرة على عقولهم في الوقوف بجانب معاوية ونصرة البيت السفياني، بل كان موقف الإمام من بيعة يزيد موقفاً واضحاً غير قابل للمناقشة أو المهادنة، وقولته المشهورة كافية للدليل على ذلك؛ إذ قال عليه السلام: «ومثلي لا يُبايع مثله»[24]، مع ما فعله يزيد بسائر معارضيه من التنكيل والقتل، مضافاً إلى ذلك ما قام به من فضائع، لم يستطع التاريخ إنكارها أو التغاضي عنها، من قتل الحسين عليه السلام، وسبي النساء أمام الناس، إلى رمي الكعبة بالمنجنيق، ووصولاً إلى واقعة الحرّة التي أوكل قيادتها لمسلم بن عقبة، الذي احتلّ المدينة ثلاثة أيام، يستبيح فيها العرض والمال، وانتهاك حرمة هذا البلد، الذي احتضن أشرف الخلق، النبي محمد صلى الله عليه وآله، بشكل لم يسبق له مثيل[25].
وفي خبر تعهّر يزيد وخروجه عن الإسلام ينقل لنا صاحب (تذكرة الخواص) عندما خرج أهل المدينة على يزيد: «وبايعوا ـ أي: أهل المدينة ـ عبد الله بن حنظلة الغسيل، وكان حنظلة يقول: يا قوم والله، ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، رجل ينكح الأُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويقتل أولاد النبيين»[26].
ولعدم أهلية يزيد بالحكم؛ رفضه أهل المدينة، كما قامت مكة بهذا بعد أن جرّ جيش معاوية على المدينة الخراب والقتل في أهلها، لكن فحش يزيد ومعاوية لم يردعهم من أن يفعلوا بمكة ما فعلوه بالمدينة، فخرج جيش بأمر من يزيد بن معاوية، بقيادة مجرمه السفاح مسلم بن عقبة، ومات مسلم بن عقبة، بعد أن استخلف الحصين بن نمير على قيادة الجيش الذي ناوش عبد الله الزبير وهو في الحرم، ورمى الكعبة بالنيران حتى احترقت الكعبة[27]، هذا ما كان عليه دين معاوية ويزيد، وما نشروه بين الناس من خوف وتردّي فكري وعقائدي، جعل أغلب الناس مسيّرين لما يريده حتى لو كان مخالفاً للإسلام.
عُكس التيار المناهض للسلطة الأُموية بحركة الإمام الحسين عليه السلام وأتباعه ممّن آثروا الموت على الذلة والخنوع، مع يقينهم بالموت الذي كان ينتظرهم، بل شكّل التمسّك بالدين مظهراً من مظاهر هذه الثورة التي التزمت بكلّ ما كان يحفظ للدين هيبته وللإسلام روحه، وهذا واضح في الكثير من الأحداث التي رافقت الثورة، منها: عندما رام الإمام الحسين عليه السلام الخروج من مكة إلى العراق، بعث له أهل الكوفة برسائلهم يطلبون منه القدوم؛ حينها قرر الإمام عليه السلام الخروج من مكة إلى العراق، وهنا تظاهر البعض بأنّه من الناصحين للإمام، فدعاه للإقامة في مكة، ومنهم: عبد الله بن الزبير، إذ يُروى أنّ رجلاً كان يطوف بالكعبة سمع عبد الله بن الزبير يُنادي الإمام ويسرّه بشيء، فالتفت الإمام عليه السلام إلى الناس، وقال: «أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقالنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس. ثمّ قال الحسين: والله، لأن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أن أُقتل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله، لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، والله ليعتدُنَّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت»[28].
الإمام في هذا الخبر يُظهر مدى الفساد الذي صار إليه الحكم، كما يُظهر فضاعة الحال التي وصلت الدولة بحكم البيت الأُموي؛ لأنّ الكعبة من حرم الله يأمن بها كلّ مَن على هذه الأرض، ولا يجوز لأحد استباحة هذه الحرمة، لكن التردي الأخلاقي جعل من اليقين خرق هذه الحرمة من قِبل معاوية ويزيد؛ وممّا يدلل على ذلك حرق الكعبة في واقعة الحرّة، كما أمر يزيد عمرو بن سعيد في معسكر عظيم في موسم الحج قبل ثورة الإمام أن يُناجز الحسين عليه السلام ويقتله إن تمكّن وإلّا قتله غيلة، بل تجاوز الأمر أن دسّ في ذلك الموسم ثلاثين رجلاً من أتباعه، أمرهم بقتل الإمام بكلّ وسيلة متاحة حتى لو كان متعلقاً بأستار الكعبة[29]، والإمام وسط كلّ هذه الدسائس والمؤامرات لم يجعل الإسلام أو الدين ثاني أولوياته، بل عرّض نفسه وأهله للموت من أجل الإسلام، ورفض البقاء في مكة حفاظاً على حرمة هذا المقدّس، وهنا يكمن الاستدماج الديني الذي كان عليه الإمام الحسين عليه السلام، فأصبح ثقافة إسلامية تنال التقدير والاحترام على مرّ العصور، فكانت نهضة عاشوراء نهضة لإحياء سُنّة النبي صلى الله عليه وآله والدفاع عنها، ونقلها إلى حيّز التطبيق في حياة المسلمين؛ لأنّ تعاليم النبي صلى الله عليه وآله قد أُهملت آنذاك، كما أنّ البدعة قد أُحييت وظهرت[30].
المبحث الثالث: الاستشراف في الثورة الحسينية
من الخطأ أن نفهم الاستشراف بأنّه جنس أدبي مخصوص، بل هو آلية تدخل في جميع الخطابات مهما كان توجهها أو نوعيتها، ويُعدّ الإمام الحسين عليه السلام من مرجعيات الخطاب الثقافي الإسلامي؛ لذا رأى الباحث من الضرورة بمكان الوقوف على أهمّ استشرافاته التي مثّلت ـ تاريخياً ـ منعطفاً لفهم المدرسة العلوية، ودليلاً إعجازياً يُحسب للثورة الحسينة التي دفعت الكثير للاقتداء بها، وألهمتهم الوعي الجاد المثمر من أجل فهم الواقع والوقوف عند أهم مفاصله، لكن الاستشراف الذي وقف عنده الإمام الحسين عليه السلام استشرافاً لم يكن تنبؤياً، بل كان استشرافاً يقينياً مُسنداً بما قاله الرسول صلى الله عليه وآله، إذن كان عن علم، غايته دفع الواقع، ومنع الثورة من التأزم داخل دائرة الموت، بالنظر إلى ماهية الاستشراف الذي هو نوع من الفعل الإيجابي[31].
وما شهدناه في الثورة كان غاية الحقيقة، فقد استشرف الإمام عليه السلام الحدث قبل وقوعه، وجعل الموت غاية من أجل الحياة، وهو تكتيك أرعب معارضيه وأربك سيرهم، فقتل الإمام عليه السلام في معركة غير متكافئة سيخلق منه بطلاً يُنصفه التاريخ، وتركه يعني انتصاراً حقيقياً له، لما كان له عليه السلام من قبول عند العامّة؛ لذا جاءت موضوعة البيعة ليزيد خياراً خاسراً، أو قل ورقة تصرّح بمدى الخسران الذي يشكو منه البيت الأُموي إزاء البيت العلوي.
كلّ الأحداث التي جرت للإمام قُبيل معركة الطفّ تُحيل النظر والاهتمام لأقواله التي عكست ظاهرة فريدة، وهي استشرافية الموقف، والسير مع هذا الاستشراف بشكل استثمر معه الإمام الموقف لصالح المعركة، وأوّل مظاهر هذا الاستشراف أقوال الرسول صلى الله عليه وآله التي كانت حاضرة مع الحسين عليه السلام، ومنها تلك الأقوال التي كانت تؤكّد على مقتله، والكيفية التي تجري بها المعركة، ونحن هنا إزاء موقف لا تستطيع حكمتنا البشرية استيعابها بتفاصيلها؛ لأنّها تصيبنا بالدهشة من عظمة شخص الإمام عليه السلام وقدرة صبره، فقد قلب مفهوم الموت، ليكوّن مفهوماً جديداً للحياة، وهذا بالفعل يحتاج إلى طاقة هائلة، وحكمة تفرّد بها الإمام.
ومن أهمّ استشرافاته لموته قول الإمام السجاد عليه السلام: «خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل»[32].
النص على خطورته يستشرف موت الإمام عليه السلام، مع حدث مفصلي في واقعة الطفّ، هو حمل الرأس الشريف على الرماح، والطواف به بين مدن العراق والشام، وهنا لا يمكن القول: إنّ هذا الاستشراف تنبؤي، بل هو واقعي، كان هدف الإمام من ذكره تهيئة أهل بيته وأصحابه وإخبارهم بقتله، وللمعركة نفسها، وتكاد تكون المقاربة التي طرحها الإمام بينه وبين يحيى بن زكريا عليهما السلام مقاربة بين الحق والباطل، الذي خضع لها التأريخ وقرّب أطرافها، لكن الحسين عليه السلام حقق الشهادة التي كانت تُخيف أعداءه وتُرهبهم؛ إذ «إنّ فلسفة الشهادة في سبيل المبدأ والعقيدة، كانت في الوقت ذاته توكيداً للكرامة الإنسانية، التي أدّت في الأخير إلى مجازفة أخلاقية تمثّلت بالرفض والتحدي، واتخاذ موقف ثوري.. ومن هنا، فإذا خسر الحسين الرهان بقتله، فإنّه كسب في الحقيقة والواقع الرهان عبر رغبته في التضحية والإصرار على تنفيذها، حيث حمل قدره بيده ومضى، حتى الشهادة»[33]. فقد تحوّلت الشهادة مع الإمام الحسين عليه السلام إلى فلسفة للحياة؛ لأنّها كانت نزاع بين الحق والباطل، انتصر الحق محرراً معه الإنسان على مرّ العصور.
ومن استشرافه ـ أيضاً ـ قوله لأبنه علي الأكبر عليه السلام: «يا بُني، إنّي خفقتُ برأسي خفقةً، فعنّ لي فارسٌ على فرسه، وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نُعيت إلينا»[34].
سايكولوجياً عندما تكون النفس قريبة من الموت لا تكون قوية، لكن هذه المعادلة قلبتها الثورة الحسينية، وهذا واضح جداً من خلال الاستشراف الذي رافق الثورة من بداياتها مع الإمام الحسن عليه السلام حتى إعلانها مع الإمام الحسين عليه السلام، فلا يمكن لأحد من البشر انتظار الموت والتهيئة له على نحو ما وجدنا الإمام الحسين عليه السلام عليه؛ لهذا حمل الاستشراف فلسفة خاصّة للموت، رافقت الأجيال، وقدّمت لهم رموزاً للتعبير عن الذات وحمايتها من التراخي والضياع، إذ قال عليه السلام: «لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»[35]. وربما ساعد هذا الاستشراف على خلق معركة جديدة ليزيد وأعوانه، لم تكن بالحسبان للإجرام الذي كان يُسيّس كلّ شيء بالدولة، هو ظهور شخصيات انقلابية خلال المعركة، أو قُبيلها مثل شخصية الحر الرياحي[36] الذي رجع لإنسانيته، رافضاً ما كان عليه معسكر يزيد من جرم، متحرراً من هذا الظلم، فثمّة مقاربات عديدة حدثت بفعل استشرافي، لم تختفِ آثاره في معركة الطفّ، كقوله السابق، مقرناً الموت بالسعادة، والحياة بالذل والهوان؛ لاشتمالها على الباطل.
«خُط الموت على وِلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً، وأجربةً سُغباً، ولا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين»[37].
يوسف ويعقوب في النص ثنائية واقعية تحمل معنى إيجابياً للانتظار، والمقاربة التي اشتمل عليها النص بين يوسف ويعقوب، والإمام الحسين وأهله (جدّه وأبيه)، تقع في عدّة محاور، منها: الظلم الذي لحق بيوسف عليه السلام بإبعاده عن أبيه قسراً وحقداً وطمعاً، كذلك الإيمان الذي كان يتحلّى به يوسف والإمام الحسين عليهما السلام، وكان سلاحاً أرعب معاديه، وأقضّ مضاجعهم؛ إذ تمثّل في الصبر والخضوع لأمر الله عز وجل، والمحور الأهمّ هو انتصار الحق والمبدأ في النهاية لكلّ من الإمام الحسين والنبي يوسف عليهما السلام، وإن كان بموت الحسين؛ ذلك لأنّ موته حقق شهادة نوعية قفزت فوق الممكن، فحققت رمزاً لصدق المبدأ والعقيدة، ولولا مصداقيتها وشرعيتها لما دخلت قلوب المسلمين وغير المسلمين، وتجذّرت في مخيالهم[38].
الخاتمة والنتائج
لقد وقف البحث على جملة من النتائج، أهمّها:
1ـ المعنى الإصلاحي للثورة الحسينية، وكيف شكّلت الثورة مدخلاً ثقافياً للمسلمين؛ فلم يكن الإسلام فاسداً حتى يتطلّب إجراء الإصلاح عليه، بل خرجت الفئة الحاكمة المتمثّلة بالبيت السفياني عن تعاليم الإسلام، حتى بات لا يُعرف من الإسلام إلّا اسمه؛ بسبب الفساد الذي استشرى بالدولة والمجتمع، وللضرر الأخلاقي والاجتماعي والديني (العقدي) الذي ألحقه يزيد ومعاوية وأتباعهم بالإسلام.
فكانت الثورة سلاحاً ناجعاً لمنع تنامي الفساد، ودفع الناس للانتفاض على المفسدين وتعرية أساليبهم؛ لهذا كانت الثورة ثورة عامّة صلحت لكلّ أُمّة ولكلّ شعب.
2ـ لم يكن للثورة أيّة أساليب خارجة عن الإسلام، بل مع حراجة الموقف وصعوبته ما زال الحسين عليه السلام متمسكاً بالإسلام وتعاليمه حتى مع أعدائه؛ وذلك للاستدماج الديني الذي رافق الثورة، وشكّل أحد أهمّ مظاهرها من أجل الإسلام ونصرته.
3 ـ ومن مظاهر الثورة الاستشراف الذي كان له بُعداً روحياً، استمد منه الحسين عليه السلام وأصحابه القوة، والإصرار على مقاومة أهل الطغيان، والوقوف بوجههم، وقلب معادلة الموت لصالحهم، فتحوّل وعيهم بالشهادة إلى نظرة جديدة تؤكّد على كرامة الإنسان وحريته.
الكاتب: د. نابلس صلال التميمي
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الرابع عشر
مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية للنهضة الحسينية
________________________________________
1] د. نابلس صلال التميمي /جامعة كربلاء/كلية العلوم الإسلامية/قسم اللغة العربية.
[2] آل عمران: آية104
[2] مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي: ص58.
[3] المصدر السابق.
[4] عبد النور، جبور، المعجم الأدبي: ص80.
[5] مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي: ص58.
[6] السادة، ماجد، استراتيجيات النهضة الحسينية في الإصلاح والتغيير السياسي: ص11.
[7] اُنظر: القبانجي، صدر الدين، الإمام الحسين رائد الحركة الإصلاحية: ص153.
[8] اُنظر: الصغير، محمد حسين، الإمام الحسين عملاق الفكر الثوري: ص14.
[9] الصفار، حسن موسى، الحسين منهج الإصلاح والتغيير: ص6.
[10] اُنظر: اعداد مركز تُراث كربلاء، أسباب نهضة الإمام الحسين عليه السلام: ص41.
[11] الأحزاب: آية39.
[12] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص330.
[13] اُنظر: الراضي، حسن، الإمام الحسين رسالة إصلاح: ص79.
[14] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص478.
[15] ابن نما، جعفر بن محمد، مثير الأحزان: ص15.
[16] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98.
[17] القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين عليه السلام: ج2، ص16.
[18] العاملي، محمد شُقير، الإصلاح الديني: ص42.
[19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
[20] المصدر السابق: ج45، ص6.
[21] الميساوي، خليفة، الوصائل في تحليل المحادثة (دراسة في استراتيجيات الخطاب): ص268.
[22] اُنظر: علي، وسام، القيم الأخلاقية في الفكر التربوي الإسلامي المعاصر: ص65.
[23] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج5، ص424.
[24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص9.
[25] ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص179. فضلاً عن ذلك لم تكتفِ السلطة الأُموية بقتل الناس، وكلّ مَن كان له هوى علوي، بل أخذت تؤسس لمدرسة فكرية تسيطر من خلالها على عقول الناس، وتقدّم لهم مشروعية عملها السياسي والديني، اللذين كانا في تلك الفترة وجهان لعملة واحدة، وقد قطعت أشواطاً في بنائها لتلك المدرسة من خلال وضع بعض الأحاديث في مدح معاوية، وذم أمير المؤمنين، من لعنه على المنابر لسنين طويلة دون ورع أو رهبة من هذه الشخصية العظيمة، وأهل بيته بشكل عام، ومن تلك الأساليب نشر بعض المذاهب الفكرية، والترويج لها، من قبيل مذهب الإرجاء والجبر، اللذين يساعدان تلك السلطة على الوقوف على مبررات لكافة أعمالها، حتى لو كانت مخالفة للإسلام والدين. اُنظر: العاملي، محمد شقير، الإصلاح الديني: ص41.
[26] سبط ابن الجوزي، يوسف بن فرغلي، تذكرة الخواص: ص361.
[27] اُنظر: اليعقوبي، أحمد بن يعقوب، تاريخ اليعقوبي:ج2، ص251. ابن عبد ربّه، أحمد بن محمد، العقد الفريد: ج4، ص357.
[28] البلاذري، أحمد بن يحيى، جمل من أنساب الأشراف: ج3، ص375.
[29] اُنظر: الجلالي، محمد رضا، حول نهضة الإمام الحسين عليه السلام: ص21.
[30] اُنظر: الإصفهاني، محمد علي، المباني القرآنية لنهضة عاشوراء، مجلة الإصلاح الحسيني: العدد الخامس، ص47.
[31] اُنظر: محمد بن سعد بن صالح، الاستشراف (ماهيته وأهميته)، مجلة الرياض: العدد 15406.
[32] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص132.
[33] الحيدري، إبراهيم، تراجيديا كربلاء (سوسيولوجيا الخطاب الشيعي): ص16.
[34] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص308.
[35] ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول: ص245.
[36] اُنظر: علي محمد، ياسين، الشخصية الشريرة في المسرح الحسيني، مجلة المسرح الحسيني: ص47.
[37] ابن نما، جعفر بن محمد، مثير الأحزان: ص29.
[38] اُنظر: الحيدري، إبراهيم، تراجيديا كربلاء (سوسيولوجيا الخطاب الشيعي): ص16.
اترك تعليق