إن انعكاس مفاهيم الأديان على الفن تعطي تمثـﻼً كلياً عن طبيعة الاداء والنتاج الفني وتحاور الفنون فيما بينها هو دوام الافكار وصورها المختلفة في مسار الحضارات البشرية عبر الرموز والدلالات الحاملة للمعرفة - والتي فيها انعكاس عن طبيعة التفسير العقلي للظواهر .. من خلال استبطان الشعور وتجسيمه أو تجريده . ففي الوقت الذي كانت فيه اللغة المشتركة هي نقطة الارتكاز في علاقة الحوار الثقافي بين الحضارات فإن الاشكال والرموز والدلالات المضمونية هي محور التفاعل على مستوى الفن .. ولعل سوء التبادل اللغوي يسوّغ ملامح عملية الصراع ، الا ان ذلك في الفن يمثل الحوار على مستوى الشكل وربما المضمون ايضاً، إذ أن الاختلاف على مستوى التفرعات الدينية بين المسيحية والاسلام على سبيل المثال لم يوقف الفن الاسلامي عن التحاور الرمزي والشكلي مع الفن المسيحي رغم حمولة الفنون الاسلامية والمسيحية للمقولات والاحداث الدينية والعقائدية وتمثلاتها في المصورات التأريخية . لقد جاء الاسلام بكلمة التوحيد لنفي الشرك والتشبيه .. فالله فرد صمد لا شريك له في الألوهية ولا نظير له في الوحدانية .. لذا وقف الاسلام ضد الوثنية والاصنام مشيراً الى صفات الله الكمالية البعيدة عن التجسيم .. ولما كان الفن من تمثلات التدين عند البشر منذ الازل فقد وقف الاسلام تجاه الفن والجمال عند مفهومي الادراك والفكر بعيداً عن تمثلات الفنون عند الاديان الاخرى . جعل الله تعالى في الانسان القدرة والاستعداد لتقبل فكرة التوحيد بعد أن جبله على الفطرة الالهية، لتكون لديه القابلية على ادراك التصور العام للخلق بما فيه من مفاهيم مجردة - وفي هذا اشارة الى بنائية سنة التشريع على سنة التكوين - فكما أن لكل وجود في عالم التكوين هدف يتجه اليه في حركته.. فللإنسان كذلك غاية عليه أن يسلك اليها السبيل من خلال ما أودعه فيه الخالق جل وعلا من الشعور وكرمه بالعقل والسمع والبصر وحواسه الاخرى والتي امتلك قوة الادراك والفكر من خلالها ليستحضر بها ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في واقع الحال . للإنسان القدرة على الإحاطة بحوادث ما .. فمن البديهي ان معلوماته مكتسبة وأن بدت هناك معلومات مسبّقة عن طريق الفطرة .. فهو في الواقع لا يعلم شيئاً بالعلم المكتسب لكنه يعلم أشياء معينة بالعلم الحضوري أي عن طريق الفطرة .. كالمسائل الكلية التي لا تختص بزمان ما أو بموضع دون آخر ، لان براهينها تقتضي أن تكون كلية كالمسائل الرياضية والهندسية التي كانت حصيلة الفن التجريدي الاسلامي .. والامور الفطرية التي يقول بها القرآن الكريم تمثل الاستعداد الفطري في كل أنسان بحيث أنه عندما يصل الى مرحلة يستطيع فيها أن يتصور تلك الامور فأن تصديقه لها يكون فطرياً. وحصيلة ذلك أن للانسان الاستعداد الذهني لقبول الكليات المجردة والتجريد الخالص في الفن الاسلامي هو محاكاة لكليات معينة .. مما يستدعي ذلك وجود استعداد فطري لقبولها وتمثيلها وهذا إيحاء صريح بأن فكرة التجريد في الفن تسير جنباً الى جنب مع فطرة الفرد المسلم .. ولما كانت الاخيرة توحيدية فأن ذلك يشير الى وجود استعداد توحيدي في الحضارات القديمة التي تأثر بها المسلم ، كون التوحيد بحد ذاته تراث عميق يتصل ببدايات التكوين الحضاري البشري ، أذ أنه شكل مجمل الدعوات العقائدية للأنبياء والرسل وكلهم يدعون بالوحدانية لله ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) . واستنادا الى التسلسل الحضاري فأن الله تعالى لم يكتف بالتذكير بأمر الأنبياء السابقين بل أعاد الى الاذهان سيرتهم مما يوضح التواصل الحضاري بين العقائد وﺗﻣﺛّﻼت رموزها وطرائق تطبيقها ، ويبدو ان هذا ما أثر على الفن الاسلامي بشكل مباشر فالتجريد سمة ظاهرة في فنون الحضارات القديمة لا سيما الرافدينية والمصرية ، الامر الذي أثر على فنون ديانات المنطقة بل حتى على الفن المسيحي، وبالتالي فأن الفن الاسلامي ورث أساليب تلك الفنون كونه وليد نفس البيئة والمنطقة الجغرافية.. ولكن الفكر الاسلامي اعاد صياغة بنائية الفن وفقاً لعقيدته ليكون هويته الواضحة بين فنون الحضارات الأخرى .. ويبدو ان سبب ذلك يعود الى إنَّ الفطرة الانسانية متساوية منذ الخلق الاول للانسان .. وان اصحاب الحضارات القديمة يملكون الاستعداد الفطري نفسه .. ولما كانت الفطرة توحيدية وفيها استعداد مسبق لتقبل الكليات المجردة ، فان التجريد بالمفاهيم والاشكال متساير مع الفطرة كونه ينقل المفاهيم المادية الى ما ورائها .. وبذلك يكون التجريد متسايراً مع الاستعداد التوحيدي ، وهذا ما تبناه الفن الاسلامي دون غيره من الفنون الاخرى ليكون مبدأ حوارياً مع الحضارات القديمة والاديان الاخرى كونه يشكل البنية الاساسية في رؤية الاسلام للفن وبذلك أستعاره كأساس لانطلاق الفن الاسلامي . ولا شك هنا أن مسؤولية الانسان تجاه الخالق تستدعي توجه الانسان بالأوامر والنواهي الالهية وفقاً للارادة التشريعية، وبذلك تكون النواهي تدعيم لفطرة الانسان ، ويكون تحريم التشخيص مُركـِّزاً لأليات التجريد في الفن . وفي هذا الصدد أكد بعض من فلاسفة الغرب والشرق أن تجريد وتعالي معتقد الاسلام في مجال الفن قد أدى الى ابتعاد السببية والاستدلال ، كما أن التجريد هو المسؤول عن نبذ الاسلام لوسائط التشبيه والتجسيم وتحريم التصوير التشبيهي وهذا يعني أن أصل التجريد متأتٍ كمقولة قبلية مما يؤشر ذلك الى أن الامر التشريعي المؤثر على الفطرة ، يؤثر على ملازماتها ومن ملازماتها التجريد . لهذا فان مسألة التحريم في الاسلام للفن التشبيهي رسخـّت آليات التجريد الخالص وليس العكس ، وبذلك تكون محاولة التشبيه الخالص في الفن محرّمة .. بيد ان الفنان المسلم عمد الى تمثيل الصفات الالهية ( صفات المطلق) وهذا ما يبعدها عن حقيقة الذات الالهية التي ليس كمثلها شيء ، وبذلك فأن الفن الاسلامي يدور ضمن دائرة المطلق التوحيدي كون النظرة الاسلامية تسلـّم - بأن الوصول الى المطلق التوحيدي يعني بالبداهة الوصول الى الجمال المطلق - . وهذا يقودنا الى فكرة التثليث في المسيحية ( الاب – الابن _ روح القدس ) التي لم تقد الفن المسيحي الى المطلق التوحيدي بل الى المطلق المجهول بمحاكات تشخيصية تخيلية هدفها وظائفي يتلخص في الدعوة الى المسيحية .. فالفنان المسلم لم يستخدم الفن في الدعوة الى دينه ولم ينكره أيضاً ، فهو لم يتشدد في تحريمه كما فعلت اليهودية ولم يوظفه كما المسيحية .. ولكنه كان وسطاً بين اليهودية والمسيحية فاصبح التحريم لديه في الموضوع وليس في الاسلوب فالجواز والحرمة لا ينصبّان على الظاهرة الجمالية ولكن على الموضوع نفسه الذي قد يؤدي الى مخالفة الخالق . لقد اكد القرآن الكريم على الحس في إدراك الماديات ، فأنه يشير الى العقل في تكوين المعرفة الانسانية ، لان العلم بجميع القضايا غير الجزئية رهن جهد الذهن لا الادوات الظاهرية التي تلتقط المعلومات من الخارج وتوصلها الى الذهن ..فالاتصال بالخارج يعطي النفس القوة على خلق هذه المفاهيم والتي من خلال تكون القدرة على تطبيق الفعاليات العقلية الوجدانية على الموارد المختلفة واستخلاص نتائج جديدة للايمان بها كيقين صحيح.. فبدون الاوليات البديهية وبدون قدرة الانسان على تطبيقها لا معنى للايمان بالتعقل والتدّبر .. وما التدّبر الا حوار جاد مع المحيط المادي لاكتشاف ما وراءه من عوالم وحقائق .. فالتأمل الذاتي عند المسلم هو فعل وجداني لا يقيم وزناً للجزئيات وفيه يلتقي بالحدس الخارجي.. حيث ان النظرة الى العالم الخارجي هي مزيج من اختلاط الجزئي والكلي لهذا فأن الفن الاسلامي قائم على معنى فكرة الحدس وعن طريقه يمكن أدراك الجوهر ببصيرة ثاقبة . ولو اردنا سبر اغوار المعرفة الحدسية لوجدنا انها ذات امتداد مخروطي تزداد اتساعا كلما ازددنا تعمقاً فيها .. حيث يتحول من خلالها كل ما هو حسي الى ما فوقه بالمفاهيم الكلية وهو طريق الوصول الى صانع الحقائق الوجودية الله جل وعلا وهو التدّبر بعينه في هذا المجال والذي يكون منوطا بالعقل ، ولاشك انى العقل الموهوب من الله قادر على أدراك المعقولات والمجردات فانه بالنتيجة يستطيع أن يشكـّل مجردات حدسية تحاكي الجواهر السامية . على ضوء ذلك فأن العمل الفني الاسلامي محاولة للتوفيق بين كينونات الوجود المرئي المحسوس وبين الوجود المتأمّل، أذ ان عمل الفنان المسلم على استلهام الخطوط والألوان والنسب وقوانين الرياضيات جعلها تشكـّل ثوابت وشروطاً لا يمكن بدونها تشكيل المكونات الحسية للعمل التجريدي فهي تمثل النظير المادي للتفكير الجمالي المستوحى من الفكر الديني عكس الفنون المسيحية التي وعلى الرغم من تأثرها بمنبع الفنون الاسلامية ( جغرافية المكان والحضارات السابقة ) واختلاف مراحلها الفنية فقد استخدمت تلك المعطيات لتجسيم الاشكال وابرازها بصور ايقونية مادية محاكية للحواس بعيداً عن كلية المفاهيم . اعداد سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق