ملحمة كربلاء .. الشعلة الأزلية

لقد كانت واقعة عاشوراء خير درس معبّر عن إرادة وقيم الأمة في كل زمان ومكان، فقد كان الشاعر والأديب والفنان يعبّر عن شدة ارتباطه بقضية الإمام الحسين عليه السلام، فيشير بوضوح إلى حضور قيم عاشوراء في أعماله، فلم تكن عاشوراء مجرد حادثة تاريخية وإنما كانت ثورة لها أبعادها الدينية والسياسية والفلسفية والفكرية والتي تضمنت مفاهيم وقيماً إنسانية عليا هي أساس خلودها عبر العصور، وقد انعكست هذه القيم والمفاهيم في الأدب والشعر والفنون الأخرى فاستحضرها الشعراء والأدباء والفنانون بشكل مباشر أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى، ووظّفوها في معالجة المشاكل الراهنة بحيث أصبحت سمة بارزة من سمات الهوية الثقافية التي غذت الحركة الأدبية والفنية بخبرات وتجارب غنية، وطبعت إنتاجها بمسحة من الحزن والألم مثلما تحوّلت إلى نماذج معاصرة في التضحية والفداء. وفي الواقع فقد تخطى الأدباء والشعراء والفنانون واقعة كربلاء بوصفها حدثاً تاريخياً إلى فضاءات أوسع تزامنت مع روح العصر فكانت الصلة نابضة حيّة بين الأمس واليوم. ففي مجال القصة تمكن عدد من القصاصين العراقيين استلهام تراجيديا كربلاء في وصف الحياة الاجتماعية وربطها بها مؤكّدين على المبادئ والقيم العليا التي أفرزتها في المجتمع العراقي للرجوع إليها دائماً والاحتماء بها في أوقات الشدائد والمحن وكذلك في الصراع مع الظلم والاستبداد، كما في قصص محمد خضير وجمعة اللامي وموسى كريدي وشوقي كريم وجبار ياسين وغيرهم وكان جبار ياسين قد استهل قصته التي كتبها باللغة الفرنسية: (مساء معتمة النجوم) بهواجس قاتمة عن تاريخ العراق من عام 680م إلى 1991 وهو تاريخ الشهادة والحزن المستديم قصة عهود طويلة من الطغيان ولكن بألم واحد، فمنذ خمسة عشر قرناً بدأت مذبحة كربلاء عام 61هـ وانتهت في المكان نفسه حيث لما يزل الدم نفسه يسقي رمال الصحراء في آذار 1991 وحيث يعيد الأحفاد التاريخ نفسه ويتجدد الانتقام من الشهداء الذين تركوا في الرمال دون رؤوس إنها حكاية يتلاحم فيها العصران مثلما تتلاحم فيها الإرادة والشهادة، ويبقى الطغيان والألم صوت الوطن الجريح وهو يئن: (جابر يا جابر ما دريت بكربلا اشصار من شبوا النار...). لقد استطاع جبار ياسين في هذه القصة أن يستعير من كربلاء أسمى المعاني ويحولها إلى عصرنا الحاضر ويطعم القصة العراقية الحديثة بالألم يستقيه من طقوس كربلاء ومن ردّات العزاء الحسيني التي تستعيد حضورها مرة اخرى في انتفاضة عام 1991 حيث يتحول الطقس بغتةً إلى موت ودمار شنيع، موت حقيقي هذه المرة وليس موتاً رمزياً. أما في المسرح فقد جعل عوني كرّومي من التشابيه الحسينية موضوع رسالته للماجستير التي قدمها في ألمانيا مبيناً أهميتها وأثرها المعرفي في صياغة أسلوب متميّز لمسرح خاص يمثل الهوية الوطنية وكذلك استلهم الكثير من المسرحيين من تراجيديا كربلاء كثيراً من المعاني والقيم لعاشوراء ونقلوها عبر عروض مسرحية إلى إشكاليات معاصرة. ومثلما استلهم الشاعر والقاص والمسرحي أفكاره وقيمه ورموزه الفنية من تراجيديا عاشوراء. استلهم الفنان التشكيلي أفكاره ورموزه وألوانه منها أيضا وربطها بقضايا الإنسان المعاصر حيث تحوّل رأس الحسين وفرسه وكذلك كف العباس وراية العباس وسيفه رموزاً بارزة في عدد من اللوحات والمنحوتات والتشكيلات الفنية إلى جانب مفاهيم وقيم التضحية والفداء والشهادة. ولما كان تاريخ العراق قد امتلأ بالقهر والقمع والرؤوس المقطوعة فقد تحول الرأس المرفوع عالياً إلى رمز للرفض والتحدّي والشموخ في الفن التشكيلي العراقي واحتل مساحة كبيرة فيه فمنذ الستينات أصبح الرأس رمزاً وشعاراً وتاريخاً للقهر والألم الذي مثل بشموخه جوهر الإباء ومعنى الانحياز نحو الحق والحرية والعدالة وقد انتقل عبر الرسم والنحت ليعبر عن عمق عاشوراء في ضمير الناس حيث ظهر في أعمال جواد سليم ذات رؤوس جامحة تتطلع نحو الأعلى في فضاء يمتد عبر التاريخ والأحداث والهموم وكان كاظم حيدر قد استوعب أبعاد عاشوراء ووظفها في أعماله الفنية توظيفاً عالياً فجاءت في أربعين لوحة فنية أخذت مكانة دولية هامة بسبب تحويله موضوع عاشوراء إلى رمز ذي أبعاد إنسانية يمكن فهمها شرقاً وغرباً وإخراجه من نطاقه التقليدي إلى مجال عالمي أكثر شمولية وسعة.  فقد صوّرت لوحات كاظم حيدر عاشوراء بمعاركها وخيولها وراياتها ورؤوسها وأجسادها بشكل معنوي وليس بشكل تقليدي جامد حيث يتعدد الرأس داخل كل لوحة ويختلف من حيث اللون وحيث يكون الفم مفتوحاً أبداً لاسيما في (ملحمة الشهيد) التي جسّمت واقعة الطف لتقول الكثير عبر الأزمنة والحدود والسدود والأحداث وحيث تكون الرؤوس محلّقة دائما وشامخة في فضاءات من اللون ترفض السقوط على الأرض غير أن رؤوساً أخرى تتساقط وهي مغلقة العينين والأفواه بدلالات وألوان يغلب عليها اللون الأسود والرمادي. أما شاكر حسن آل سعيد فقد تحرّر من شكليات الفن التشكيلي ليدخل في عالم اختلطت فيه الرؤوس بالرماح. وفي مجال الشعر استلهم الشعراء واقعة كربلاء بفضاءات أوسع مثلما ظهر في قصائد بدر شاكر السياب وسعدي يوسف ومظفر النواب وغيرهم الذين وظفوا حادثة كربلاء في الحياة المعاصرة بأساليب فنية جديدة وصاغوا نماذج أدبية رفيعة تتضح بالجرح الدامي والالم العميق المتجذّر في الوجدان مستلهمين معاني عاشوراء في الثورة والاستشهاد, كما استلهم عبد الرحمن الشرقاوي مادة مسرحيته (الحسين ثائراً) و (الحسين شهيداً) من تراجيديا كربلاء وصاغها بأسلوب فني مسرحي عكس فيها صدق المعاناة في الدفاع المستميت عن المبادئ والقيم الانسانية الرفيعة في الثورة وفي الاستشهاد بأسلوب درامي محكم، كما استطاع بمهارة وإبداع إبراز الصراع بين الحسين ويزيد وما يعكسه من تناقضات في المبادئ والمصالح والأهداف والتي تعكس في الوقت ذاته فلسفة عاشوراء وأهدافها في الرفض والتضحية والفداء من أجل المبدأ والعقيدة، فحوّل الشرقاوي مجد كربلاء وكبرياءها إلى تجربة إنسانية عميقة يسعى إلى توصيلها إلى الناس في لغة شعرية رقيقة مفعمة بالحب والوفاء.  فالحسين شهيداً كان منذ البداية لأنه يملك صفاء الروح ونقاوتها مثل نقاوة القول والعمل الذي لا يهادن معه الشر. كما صاغ الشرقاوي مسرحيته في لغة شعرية غنيّة بمعانيها وجمالها وجزالتها، وبلغة تثير الجدل والمحاججة بصورة مستمرة بهدف بناء موقف ثابت يطعمه بحوارات درامية تحمل في طياتها ثنائية الشخصية وذاتها والبطل والأنا وبذلك نجح إلى حد بعيد في خلق دراما تعكس روح التمرّد والتحريض على الواقع ورفضه وصوّر الحسين ثائراً حقيقياً ونموذجاً مثالياً لعموم المظلومين من البشر، لأنه دخل مع الشر في معركة حامية كان يعرف سلفاً إنه سيموت فيها جسدياً والرابح فيها روحياً من أجل إنقاذ الإنسان وشرف الإنسان كلمته: (الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية ، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة)، ثم يقول: (أنا ذا أخوض المستحيل إلى جلاء حقيقتك، فأضئ طريقي من أشعة حكمتك، أنا ذا شهيد الحق ضعت لكي أصون، من الضياع شريعتك، لا تُخف عن وجهي وضاءة نظرتك). أما عبد العزيز المقالح فقد اتخذ من كربلاء رمزاً لعصر ذهبي ومدينة فاضلة بقي الشعراء يحلمون بها ويتغنون بأمجادها، فكربلاء رمز لتحدي الشر يقول: نحن من كربلاء التي لا تخون ومن كربلاء التي لا تخون وُلدنا، ومن دم اشجارها خرجت للظهيرة أسماؤنا منذ موت الحسين مدينتنا لا تصدر غير النجوم، ولا تصطفي غير رأس تتوجه بالنهار الشهادة تغسله بالدماء العيون الجريحة كما تصبح الدماء التي سالت في كربلاء رمزاً للحق ووساماً فوق الرؤوس وتضحية عظيمة، فالخير لا ينتصر بالكلمات فقط، إنما في الكفاح والدماء والموت في الشعب أروع ما يكتب الشعراء نوافذ اكواخهم، تتألق بالموت والورد، تثمر بالخبز والدم رأس الحسين غدا وردة في الحدائق، أنشودة للمتعبين ونهراً ونافذة للمطر. ويأتي جمال الغيطاني في كتابه تجليات ليجعل من الحسين ليس بطلاً فحسب بل هو التحقيق المادي الذي يتجسد عبر الأزمنة في الأبطال والمدافعين عن شرف الامة وحريتها وكرامتها. الحسين عنده النموذج الذي يتمثله الإنسان رمزاً للاستشهاد مقابل النموذج الشر كرمز مناقض في الوجدان الإسلامي. لقد حاول الغيطاني توظيف تراجيديا كربلاء توظيفاً حيّاً وعلى درجة عالية من التقنية الأدبية في إطلالته على تراث كربلاء. يلجأ الغيطاني إلى مسجد الحسين بالقاهرة فيلتقي فيه الكاتب مع الإمام الحسين عليه السلام في خياله ويتحدث معه بلغة قلبه دون لسانه بحيث لم يعد هناك فاصل بين التاريخ والواقع، وبين الحقيقة والخيال يقول: ولّيت قبلة إمامي الحسين، وفاض أساي فخاطبته بوجهتي وليس بنطقي: - يا نبع الصفاء، يا شرق المودة، تعذبني قلة حيلتي وصعوبة الطريق. يا إمامي لم يعد حالي. جئتك ملوعاً بالفقد. يقول صاحب الثغر المنكوث بعصا الظالمين: "كل شيء بقدر". ويتوجع أمل دنقل، الشاعر المصري مع آلام الإمام الحسين عليه السلام التي أضافت إلى الإنسان حالة من الحزن الشفيف ودفقاً من الكبرياء ورمزاً دائماً للتجدد يقول: كنت في كربلاء .. قال لي الشيخ: إن الحسين مات من أجل جرعة ماء وتساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين؟ فأجاب الذي بصرته السماء: إنه الذاهب المتلألئ في كل عين إن تكن كلمات الحسين وسيوف الحسين وجلال الحسين سقطت دون أن تنقذ الحق من ذهب الأمراء أفتقدر أن تنقذ الحق ثرثرة الشعراء وهناك كثير من الشعراء الذين استلهموا قصائدهم من نبع كربلاء فقد كتب أحمد دحبور (العودة إلى كربلاء) وبدر شاكر السيّاب (الدمعة الخرساء) ونزار قباني (شمس كربلاء) ومحمود درويش وغيرهم محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار