الحلقة الثالثة الحسين لا يعني اسم شخص خرج على الظلم فقط, إن الحسين هو رمز عميق الدلالة, رمز للحرية والكرامة, رمز للبطولة ولكلمة الحق, رمز للإنسانية والأمل, رمز لكل قيم السماء، ولم تكن ثورته صراعاً بين قوى الخير وقوى الشر فقط, بل هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانية العليا وبين رواسب الجاهلية السفلى. صراع بين رسالة السماء وعبادة الأصنام، بين الأنبياء وعبدة العجل، بين الفضيلة والرذيلة، بين النبل والخسّة، بين الشرف والإنحلال، بين السمو والوضاعة. لقد ارتقت هذه الثورة على مستوى الواقعية والرومانتيكية, كونها أحدثت تغييراً جذرياً في مسار الأمة, وأعادت إليها كرامتها المهدورة, وصحّحت المفاهيم العظيمة للإسلام بعد أن حرفها الأمويون, وزيّفوها في الأذهان, فكانت عظيمة في تضحيتها, وعظيمة في عطائها. عظيمة لأنها انتهت بأروع استشهاد في تاريخ البشرية، وأعظم تضحية مثلت ذروة العطاء البشري, فتغلغلت في الضمير الإنساني وأحيت الضمائر شبه الميتة التي خنقتها سياسة الجور الأموية. وعظيمة لأنها كانت التحدي لأبشع وأقسى وأبطش سياسة في تاريخ الإسلام, فالثورة في ذلك الوقت تعني الموت بلا شك, والحسين كان أكثر الناس وعياً بتلك المرحلة فقدّم نفسه فدية متوهّجة بالدم. فمن هو الحسين ؟ ولماذا قام بالثورة ؟ وماذا أراد بثورته ؟ بغض النظر عن انتمائه الذي ينتهي إلى أقدس وأطهر أسرة عرفها الوجود, الحسين صرّح عن نفسه بنفسه: (إني لم أخرج أشراً, ولا بطراً, ولا ظالماً, ولا مفسداً, وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله, أريد أن آمر بالمعروف, وأنهى عن المنكر). لقد جمع الحسين في كلمته هذه، مبادئ الرسالات السماوية كلها، فحمل رسالة عظيمة, وإرثاً ضخماً تمثل في القيم والمثل التي حملها الأنبياء، وبالمقابل فقد كان عليه أن يواجه عدواً حاول بشتى الوسائل سحق هذه المبادئ, ومحو هذه الرسالة, وإماتة كل إحساس بها في ضمير الأمة. واجه الحسين عدواً دموياً شرساً, وإعلاماً ضخماً, ينعق بالتضليل, وأصناماً اشرأبت أعناقها تدعو الناس إلى عبادتها. واجه الحسين.. ابن الذي كرم الله وجهه عن عبادة غيره وسليل الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة أبناء الذين مسحت جباههم بتمريغها أمام (هبل) و(اللات) و(العزّى) و(منات) و(يغوث) و(يعوق) و(نسر). الحسين.. ابن سيدة نساء العالمين، وابن الحجور التي طابت وطهُرت يواجه أبناء ذوات الأعلام من العواهر والنوابغ أمثال: الزرقاء , سمية , هند , مرجانة ووو.. تطول قائمة الأسماء من اللواتي كان لهن تاريخ عريق في إنجاب إبنٍ مُتنازعٍ عليه بين أربعة رجال أو خمسة أو أكثر! حتى اختارت كل واحدة منهن (واحداً) لتلحق ابنها به واضعة في حسابها حالته المادية والإجتماعية، فاختارت أن يكون معاوية إبناً لأبي سفيان، وكان يزيد إبناً لمعاوية وكان عبيد الله إبناً لزياد..!! وكانت (مرجانة) أم عبيد الله بن زياد أوفر حظاً من (أم زياد)، فألحقته بزياد سريعاً، بينما بقي زياد (الأب) فترة طويلة يُدعى بـ (ابن أبيه) حتى ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان في مجلس علني ورسمي أمام الناس، وأعلن أن أبا سفيان عاشر سمية فانجبت زياداً من سفاح، وهي كانت في نفس الوقت زوجة رجل آخر يدعى عُبيد وهو عبد للحارث بن كلدة الطبيب المشهور! فرفع الشاعر الحر يزيد بن مفرغ الحميري صوته معلناً إستياءه من استلحاق زياد بن أبيه وضمه إلى بني أبي سفيان من قبل معاوية ومخالفة قول النبي: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) كون سمية وضعته على فراش عبيد، وكان زياد في ذلك الوقت والياً على البصرة من قبل معاوية فقال الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري يهجوهما معاً: ألا أبلغْ معاويةَ بن حربٍ *** مغلغلةً من الرجلِ اليَماني أتغضبُ أن يقالَ أبوكَ عفٌّ *** وترضى أن يقالَ أبوكَ زاني فأشهدُ أن رحمَكَ من زيادٍ *** كرحمِ الفيلِ من وَلَدِ الأتانِ وأشهدُ أنها وضعتْ زياداً *** وصخرٌ من سميةَ غيرَ داني ولم يخجل زياد من ذلك الإدّعاء الذي يندى له جبين أي إنسان، ورجّح المغانم التي ستدرّها عليه هذه الأخوّة على كشف نسبه المثلوم وعرضه المخزي أمام الناس، فالسلطة كانت عند هؤلاء أهم كثيراً من سلامة العرض. وبهذه الطرق وغيرها أصبحوا ساسة الناس وخلفاء على الأمة.
اترك تعليق